الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

السياسة بين النخب والجمهور

 معقل زهور عدي

في عام 1974 كتب ياسين الحافظ معبراً عن إحساسه بالصدمة حين استطاع نظام السادات في مصر تنظيم استقبال شعبي واسع للرئيس الأمريكي نيكسون لدى زيارته لمصر:  ” الصدمة الثانية التي لا تقل شدة وإيلاماً عن الأولى جاءت عندما رأينا ملايين من الشعب العربي في مصر تخرج, وكأنها فقدت ذاكرتها السياسية لاستقبال نيكسون, رمز أعتى امبريالية ما برحت منذ عشرين عاماً تُنزل بالأمة العربية أشد الإذلال وأعتى الأذى “, يتابع ‘ياسين’ “… في السياسات العربية نحن لسنا إزاء أخطاء فحسب بل إزاء تأخر, لسنا إزاء سياسات يمينية فقط بل سياسات لاعقلانية… إزاء تأخر البنية السياسية العربية بجُماعها (يقصد حاكمين ومحكومين) إنها سياسات قرية في عالم مدن  .”

هكذا وضع أحد المفكرين في سورية إصبعه على الجرح, المشكلة ليست فقط في الحاكم إنها في الحاكم والمحكوم أيضاً, في عقلية الجمهور التي تنتج المستبد الجديد بعد القضاء على المستبد القديم, بينما لا ترتاح لفكرة الديمقراطية ولا تقتنع بضرورة الحريات .

التقط ‘ياسين’ فكرة ثمينة ملخصها أن العقل الجمعي العربي مازال متخلفا, وهو في تخلفه وبسبب ذلك التخلف يصبح بإمكان الحاكم سحبه إلى موقف لايتصف بأي قدر من العقلانية, إنه عقل جمعي يشبه عقل الطفل, أو كما قال ‘ياسين’ عقل القروي الساذج في عالم المدينة .

مشكلتنا ليست فقط مع الأنظمة إنها أكبر وأعمق من ذلك, هي مع النخب وهي مع الشعوب أيضاً في وعيها المتأخر, في لاعقلانيتها الطفولية .

ما هو مطلوب إذن مواجهة تلك المشكلة بحجمها الحقيقي وعدم الهروب منها, فاللاعقلانية ليست فقط في السياسات الرسمية, إنها أيضاً وبدرجة أكثر خطورة في العقل الجمعي العربي .

ذلك ليس تشكيكاً بالإنسان العربي كما يقول ‘ياسين’ ” الانسان العربي ” ليس شيئاً متعالياً خارج وفوق التاريخ, لقد مر في الماضي في أطوار مختلفة, ازدهار, ركود, تقهقر, كذلك اليوم, سيتقدم عندما يتعلم ما هو التقدم, وعندما يضع نفسه في سياق تقدم  .”

مشكلة النخب السياسية العربية أنها أهملت أو تجاهلت مسألة النفاذ للعقل الجمعي العربي وسحبه من حالته المتأخرة نحو عقلانية ملائمة للعصر, لقد عملت تلك النخب بموازاة ذلك العقل, وخاضت غمار السياسة في حقول محددة ومختارة معتقدة أن على الجمهور اللحاق بها, وهكذا تفاجأت حين رأت الجمهور ذات يوم في وادٍ آخر .

في عام 2011 تحركت الجماهير في سورية مطالبة بالحرية والكرامة, في مرحلة لاحقة, أدار الشباب ظهرهم للنخب السياسية التي لم تتعلم قط كيف تغرس جذورها في المجتمع وكيف تحاور العقل الجمعي العربي من داخله وليس من أبراجها المتعالية، أقول أدار الشباب ظهرهم لتلك النخب وساروا وراء ” مشايخ الحارة ” بل وراء جهلة لم يعرفوا معنى السياسة ولا ماذا يجري في العالم لمجرد أنهم أطالوا ذقونهم وحفظوا بعض الآيات والأحاديث .

يتحدث كثيرون عن اختطاف الثورة, وعن أسلمتها, وكأن الثورة فتاة غراء, هم لايريدون الإعتراف بفشلهم في تكوين تيار وطني- ديمقراطي يضرب في أعماق المجتمع, لا يريدون وضع اليد على العلة في عُزلتهم عن الجمهور وفشلهم في مخاطبته بلغة مفهومة بدل التنافس في أيهم يكتب بطريقة أكثر دلالة على عمق معرفته الفلسفية .

العقلانية في السياسة لا تعني عدم الوقوع في الأخطاء لكنها تعني عدم الوقوع في الأخطاء الفادحة والقدرة على معالجة الخطأ بسرعة وبأقل الخسائر, مثل تلك العقلانية لا يمكن أن توجد عند النخب السياسية فقط بينما يرزح المجتمع تحت وطأة الإيديولوجيات المتأخرة التي تحمل مفاهيم أسطورية يغيّبُ فيها العقل مثلما يغيّبُ حضور العصر .

يفسر لنا هذا لماذا كانت الاشتراكية في البلدان المتخلفة متخلفة أيضاً, لماذا سقطت المفاهيم الديمقراطية بسهولة وتحول النظام الاشتراكي للديكتاتورية وعبادة الفرد .

ويفسر لنا هذا أيضاً كيف كان من السهل سحب الجماهير نحو أهداف لا تمت بصلة للثورة السورية في انطلاقتها السلمية  .

فمن الحرية والكرامة والطرح الوطني الديمقراطي انزلقنا نحو المحاكم الشرعية ومعاداة الديمقراطية والسلاح واضطهاد الناشطين والصحفيين …

كان لدينا تصحر سياسي أنتجه نظام استبداد خلال أكثر من أربعين عاما, ونخب سياسية تحول انغلاقها إلى حالة مزمنة وطريقة في الحياة والعمل لم تتمكن من تغييرها لحظة الانفجار الشعبي .

مثل ذلك الوضع ترك فراغاً في المجتمع جاء ” المتأسلمون ” لملئه حاملين راية ” الإسلام هو الحل ” دون أن يعرفوا حتى ما هي المشكلة؟ وأين نقع اليوم وسط هذا العالم وكيف تصوغ استراتيجيتنا وتكتيكنا السياسيين .

حتى اليوم يجادل كثيرون في أن ما يناسبنا ليس الديمقراطية بل هو ” المستبد العادل ” الذي عبر عنه ذات مرة جمال الدين الأفغاني حين قال ” لا يصلح الشرق إلا مستبد عادل ..”

حسناً وماذا إذا انحرف المستبد العادل وأصبح مستبداً ظالماً كما حدث مراراً في التاريخ البعيد والقريب؟

وماذا إذا مات المستبد العادل؟

هل سنحتاج لثورة دامية لتغيير المستبد الذي كان عادلا ثم انقلب ظالماً؟

وهل يناسب المستبد العادل إطلاق الحريات أم كبت الأفواه؟ هل سنخرج من الظلام نحو الظلام؟

ذلك مثال واحد فقط لمدى الحاجة للحوار مع الجمهور ونقد مسلمات العقل الجمعي التي تقف في وجه المستقبل .

وتلك ليست مهمة سهلة, لكن لا بد منها من أجل أي نهوض شعبي قادم ..مع التحية

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.