الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كلّنا طائفيّون في سورية!

عمار ديوب *

يا لفخامة هذا القول: هي مسلمة فكرية؛ تُجبِر الفرد على الإذعان، فيصبح أمام خيارين لا ثالث لهما: إمّا أن يعترف بأنّنا كلّنا طائفيّون أو لا، وحينها ستلاحقه كلُّ الشبهات؛ يساريٌّ، طائفيٌّ باطني، غير قادر على فهم الواقع، كاذب، وسواه كثير. لا تهدأ موجات النقاشُ في المسألة الطائفيّة في سورية حتى تتلاطم من جديد. كارثيّة الأوضاع التي أصبحت عليها البلاد أنها صارت أرضاً خصبة لهذا النقاش، وكذلك ممارسات النظام الشمولي الذي حَكَمَ سورية منذ الحركة التصحيحية (1970)، وألغى الحريات وحرية الإعلام وقمع الحياة السياسيّة، وأعاد إنتاج المجتمع دينيّا، ومذهبيّا.

انزياح المعركة الأساسية في سورية بعد 2013 من ثورة شعبية ضد النظام إلى فصائل سلفية وجهادية ضد النظام، واستخدام الأخير قوى طائفية، واستعانته بدولة طائفية وبقوى طائفية شيعية، حصر، بدوره، النقاش في سورية بتلك المسلّمة، فصار النظام طائفيّاً، بدل أن يكون شموليّا ويوظف الطائفيّة، ومنذ السبعينيات، ويستخدم أغلبية كبيرة من الطائفة العلويّة في مسعاه إلى أن يؤبّد سيطرته، وليس ليؤسّس لها، للطائفة العلوية، حُكما سياسيّا، أو أيديولوجية طائفية. التفسير الذي قِيل عن طبيعة النظام السوري إن له ظاهراً وباطناً، الظاهر “القومي”، الباطن المخفي “العلوي”، ليس سليما؛ فهناك نخبةٌ محدّدةٌ علويّةٌ كانت مسيطرة، في مجالات الأمن والجيش بصفة رئيسية، ولكنها لم تكن حكرا على الطائفة العلوية كذلك. طبيعة النظام الرئيسية هي الشمولية، والنظام بدوره، خاضع لرئيسٍ، مطلقة صلاحياتُه، وأراد أن يورّث سلطته، وهو ما فعله، ولكن حتى بعد التوريث ظلَّ نظاما شموليّاً، وحكم سورية من خلال أجهزة الأمن أوّلاً، ومن خلال مؤسّسات الدولة ثانيّاً، والتي كانت تلبي شؤون المواطنين بأسوأ الأشكال، ولكنها لم تكن مؤسساتٍ طائفيّة؛ لو قلنا أنّه شمولي وطائفي لاجتمعت فيه سمتان متساويان، وهذا يخالف المنطق، فهناك الأساسي وهناك الثانوي.

من أسوأ ما ساد في العقد الأخير فكريّاً في سورية أن التيارات القوميّة واليساريّة طائفيّة، أو أنّها خاصة بالأقليات، ويضاف أنّها كانت تدور في فلك السلطة بينما استُبعدت الطائفة السنية من تلك الجنّة، وهذا يناقض الواقع؛ فتاريخيّاً، قمع النظام كل الحياة السياسية، “هل نستعيد تاريخ اعتقال اليساريين؛ قوميين وماركسيين”، وكانت الحياة الثقافية واهية، وبالكاد تُمَارس، وضمن آليات الرقابة الأمنيّة المشدّدة. كانت الطائفة السنيّة تمارس عباداتها، بل إنّها الأكثر هيمنة بالمعنيين، الدستوري والقانوني، وكذلك دينيّا. لم تكن هناك قيود على المشيخات السنيّة، ما دامت تعمل في الإطارين الثقافيين، الدعوي والديني. وهي في كل الأحوال، كانت ترعى مصالحها كذلك، وهذا حال المسيحيّة والدرزيّة والإسماعيليّة، ولم يكن الحال ذاته للعلويين أو لليهود، حيث كانت نشاطاتهم مهمّشة، وغير علنية، ولا تُغطَى إعلاميّا، ونضيف أن اليهود جرى تهجيرهم في الستينيات والسبعينيات بصفة خاصة.

مجدّدا، هل كل السوريين طائفيين؟ ليس سليما هذا المنطق، وهناك مشكلات فكرية وسياسية كثيرة، ومداخل كثيرة لفهم الواقع وأسباب الممارسات المختلفة بين السوريين، وليست الطائفية سببها الأساسي. ليست الطائفية شكل الوعي المسيطر، وقد نفينا أن تكون هي سمة النظام الأساسية، الذي وظّف بعض أوجهها من أجل معركته ضد الشعب في الثمانينيات وما بعد 2011، وتطييفه، وعاد وخفّف من ذلك التوظيف حينما مالت كفّة الصراع إلى “بقائه”؛ القوى الطائفية على المقلب الآخر “المعارضِة” فعلت الشيء ذاته في الثمانينيات وبعد 2011، مدعية وصلاً بالشعب.

النظام الشمولي هو من شطب الهويات الثقافية الجديدة؛ القومية، والاشتراكية، والليبرالية، والديمقراطية، والدينية المعتدلة، وسواها كثير، ولكن الهويات الأخيرة لم تنته، وهناك هوياتٌ تخصّ العمل والتعليم والثقافة، وهناك الهويات الدينية الذاتية، حيث نجد اختلافاتٍ واسعة بين الأفراد في تفسير النصوص الدينية والمذاهب كذلك. هذا يعني أن الطائفية لم تكن مسيطرة على الوعي، وليست هي مرجعية الأفراد في أحكامهم، وتقييم المجتمع؛ هي كذلك عند بعض الأفراد ضمن النظام ولدى أفرادٍ من الشعب.

تكمن القضية في سيطرة نخبة مختارة بدقة، ومن عائلاتٍ محدّدة، بحيث يتم الحفاظ على السلطة الشمولية، والخاضعة لفردٍ محدّد بعينه، حافظ الأسد. وكل ما ذكر أعلاه كان من تدبيره، وتدبير المقرّبين منه. أمّا بقيّة تلك النخبة، أو استقطاب كثيرين من أبناء الطائفة للعمل في الجيش أو الأجهزة الأمنيّة، فهو من أجل الحفاظ على السلطة، وليس من أجل إقامة سلطة علوية، كما يتوهم الوعي الطائفي، وأيضاً كانت أعداد كبيرة من بقية الطوائف في ما ذكرنا.

كانت فائدة النظام بعد 2011 من هذا الاستقطاب كبيرة، وفي لحظة “الانتصار” تمَّ التخلّي الكامل عن الأوهام التي سادت لدى الموالين من الطائفة العلوية، حيث مات كثيرون من شبابها، وساءت أحوال عائلاتهم، ولم يعوّضوا بشيءٍ يذكر، وتكرّر الأمر بعد مأساة الزلزال، أخيرا، ليتبيّن، وبالملموس، أن القضية لدى النظام هي الحفاظ على السلطة والعائلة المستبدّة، وعلى حساب كل السوريين، وحتى ولو احتلت روسيا وإيران سورية.

مشكلة الوعي الطائفي أنّه يرى المجتمع بأكمله طائفيّا، وهناك كما أوضحنا مشكلة طائفية في سورية، وبدلا من توضيح أوجهها، تاريخيّا وواقعيّا وفي سنوات الثورة، وحدود استخدام السلطة لها، والتغيرات في كل تلك المعطيات، يستمر هو، الطائفي، في النظر إليّها، كهوياتٍ ثابتة، مطلقة، ملتصقة بالأفراد، وفقا لما ولدوا عليه في أسرهم وطوائفهم، وهذا يشمل الشعب بكليته، من الرئيس ونزولا إلى بقيّة الشعب. هذا تفسير طائفي بامتياز، ولا علاقة له بالواقع ولا بتغيرات الأفراد، ويشكل إعاقة ذهنية للمؤمنين به، حيث تمنعهم من رؤية التعدّد والتنوّع في الهويّة، في الطوائف ذاتها، ورؤية هوياتٍ أخرى للمجتمع، وحتى السلطة تجد خلاصها في تحليلٍ كهذا، فهو يُبعد الوعي عن جوهرها: فهي شمولية ووظيفتها النهب، وإدامة السلطة للعائلة وجزء من النخبة وكذلك من أجل مافيات المال، وهم من كل الطوائف، ومن أجل مصالح فئات مجتمعية كثيرة، استفادت من التغيرات “الليبرالية” التي أدخلها بشّار الأسد بعد وصوله إلى السلطة، وأجهز فيها على مؤسّسات القطاع العام وعلى العاملين فيه، ليصبح القطاع الخاص هو المسيطر، ولأبناء الشخصيات الأساسية في السلطة حصة الأسد فيه؛ تلك التغيرات كانت سبّبا أساسيّا في الثورة عام 2011.

يجرى التعامل مع المسلّمة أعلاه من بعض التيارات السياسية أو الثقافية باعتبارها وجهة نظر، وحقا من حقوق الناس، وقضية بسيطة للغاية، وهي ردُّ فعلٍ على سياسات النظام، وبسبب مظالمه اللامتناهية، وهي لامتناهية بالفعل؛ هذا النص، يرفض هذا المنطق الطائفي، ولكنه لا يتجاهل حق الأفراد بالإيمان، وبالاختلاف المذهبي، ورفض كل شكل من أشكال التقييد لممارسة الشعائر الدينية، بما فيها الشعائر اليهوديّة أو العلويّة، وسواها، وبالطبع السنيّة والشيعيّة والمسيحيّة وبقيّة التنوع الديني التاريخي في سورية.

ليس كلُّ السوريين طائفيين؛ لم يكونوا كذلك، وحتى اجتماعيا لم تكن الطائفية معادية للآخر. هي تُمايِز بين الطوائف، والحساسيات القائمة بينها، بين السنة والشيعة والمسيحية، ليست طائفية صدامية أو اجتثاثية، أي هي ليست سياسية، وهي منسجمة مع الحياة الحديثة بأكملها، ونتاجها أيضا. يقود اعتبار السوريين فقط طائفيين، إلى اقتتالٍ مستمر، وفي هذا تجاهلٌ كلّيٌّ لتاريخ سورية الحديث، والذي مال إلى تغليب الهوية القومية بكل محطّاتها، ونبذ الطائفية، والاقتتال الطائفي، وأيضاً بعد 2011، لم تكن الطائفية أصيلة، ولهذا نجدها تتكرّس في أوساط محدّدة، ولدى تنظيمات جهادية، وفي بعض الأوساط ضمن الطائفة العلوية المرتبطة بأجهزة الأمن أو العائلة الحاكمة، بينما أغلبية السوريين، وبعد كل تطورات الصراع، أصبحوا أكثر رفضا لكافة قوى الأمر الواقع. مشكلة السوريين في اللحظة الراهنة في غياب مشروعٍ وطنيٍّ جامعٍ، وسيطرة التعب، والإجهاد، والمرارة، وهذا ما قد يدفعهم إلى الكلام عن “حتمية” التقسيم مثلا، أو الركون لمفهوم العرب السنة، أو أنَّ النظامَ علويٌّ. وهناك من قد يندفع لتأييد الحركات الجهادية والمجاهرة بذلك، والأنكى أن نجد من يبرّر لهم ذلك، بينما هذه التصنيفات مؤقتة، وغير أصيلة، وتملأ الفراغ. وبالتالي، لن تتراجع قبل سيادة المشروع الوطني الجديد، الذي يُفترض فيه أن يناقش كل مشكلات سورية الأساسية، ومنها أشكال الطائفية وعلاقة الطوائف ببعضها والمظلوميات التي تكرّست تاريخيّا، والعمل على تأصيلٍ فكريٍّ وسياسيٍّ من أجل النهوض بدولةٍ لكل السوريين، وبعيدا عن التطييف السياسي، وانطلاقا من حيادية الدولة تجاه الأديان والمذاهب، واعتمادا على منظومة حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، ومرجعية مبادئ المواطنة.

* كاتب سوري

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.