الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

القبائل السياسية

معقل زهور عدي

عبر التاريخ الطويل ثمة تناقض بالغ التأثير على الحضارة الانسانية, وهو التناقض بين البداوة والحضارة, ليس فقط بين نمطين مختلفين للإنتاج, ولكن بين مجتمعين مختلفين كلياً بالقيم وطرائق التفكير .تلك الثنائية ذات التأثير العميق المتبادل استمرت بصورة مدهشة منذ آلاف السنين وحتى اليوم .

فالبداوة مازالت حتى اليوم هي هي ببنيتها الاجتماعية المرتكزة على القبيلة, والرابط هنا هو رابط الدم, فأبناء القبيلة ينحدرون من أب واحد وذلك يعني الشيء الكثير, فالمسألة ليست انسجاماً في العقلية والتفكير, وليست موقفاً واحداً تجاه القضايا الكبرى, وهي ليست ولاء لأرض أو تاريخ, كل ذلك يمكن أن يأتي كنتيجة للنسب الواحد للجد الواحد, وربما لا يأتي.., ليس ذلك مهماً في قوة الرابطة وبقائها, من هنا كان نفي القبلية لكل الروابط الأخرى أو الاستهزاء بها واعتبارها أمراً ثانوياً .

ولعل أكثر التعبيرات دلالة لجوهر القبلية هي قول الشاعر ” وما أنا إلا من غزية إن غوت / #غويت وإن ترشد غزية أرشدِ  .”

وحتى لو تراجعت راهنية رابطة الدم التي كانت الأساس لتكوين القبيلة مع اتساع القبيلة فإن البنية النفسية الجمعية لن تتأثر بذلك, فابن القبيلة هو ابن العم, وهو كائن مختلف كلية عن الغريب الآخر .

ينجم عن ذلك أن المجتمع الذي يتكون من مجموع قبائل إنما يتكون من وحدات اجتماعية مستقلة بذاتها, وبالتالي فهو معرض دائماً للتفكك باتجاه مكوناته الأصلية, حيث لا تفعل الروابط سوى بصورة مؤقتة وهشة قابلة للانكسار عند أول صدمة كبيرة .

والسمة الثانية للقبيلة هي الولاء للزعيم, فوجود القبيلة مرتبط بشخص يتم التسليم بحكمته ورجاحة عقله وقوة تأثيره في الرأي العام, والفرد في القبيلة لا يُجهد نفسه في التفكير بل يحيل الأمر دائماً لزعيم القبيلة الذي يسير خلفه بإذعان كامل .

والحالة هنا تشبه حالة القطيع الذي يسير خلف الكبش القائد له حتى لو وصل لعتبة الهاوية دون تفكير .

أما السمة الثالثة للقبيلة فهي رفض القبائل الأخرى والنظر اليها بعداوة مهما كانت قريبة في المكان أو حتى في النسب, فالأصل في النظرة القبلية هي الخوف من الآخر ومعاداته, أو اعتباره موضوعاً للسلب والنهب, فالبدوي لا يقدر على التحرر من تلك الثنائية في النظر للآخر.

والسمة الرابعة هي التقلُب, فالعقل القبلي يفتقر للثوابت والروائز والمرجعيات لذا فهو قابل للتقلُب بسهولة ودون مقدمات, وليس ضرورياً أن يقف ليراجع ذاته ويستنتج العبر والدروس, فالنقد عدو أزلي للعقل القبلي .

والبدوي كالطفل حين يتعلق بدمية إلى حد الصراخ والبكاء ثم سرعان ما يرميها ويمل منها دون سبب .

والسمة الخامسة هي الميل للعنف والاقتتال, فالبدوي سهل الاستسلام للعنف, ويجد فيه عودة لطبع متأصل فيه. فقانون القبائل هو قانون القوة والعنف المقدسيّن. لذا كان من الصعب خضوع القبائل لمفهوم الدولة والقانون والنظام.

البداوة المرتكزة على القبيلة امتدت في الزمان دون انقطاع في الجزيرة العربية وبادية الشام على وجه الخصوص حيث حاضنتها الأصلية التي انطلقت منها في كل الاتجاهات حتى وصلت للمحيط الأطلسي في أقصى الغرب ولأواسط أفريقيا وتخوم الهند في الشرق. لكن أعمق التأثير المتبادل بينها وبين المدن كان في بلاد الشام .

ففي بلاد الشام نشأت مجموعة كبيرة من المراكز الحضرية القديمة التي استمرت عبر مئات السنين, ولم تكن تلك المراكز غريبة تماماً عن الأصول العرقية والثقافية لقبائل البادية بل ما كان يحدث باستمرار أن موجات بدوية تجتاح بلاد الشام آتية من شبه الجزيرة العربية فتحتل الحواضر المدنية ثم تذوب فيها وتتمثل ثقافتها لكنها تمنحها أيضاً الكثير من صفاتها البدوية .

هذا الفعل الذي يشبه مد البحر بين الحين والآخر طبع سكان بلاد الشام بكثير من طبائع البدو, لكنه أيضاً طبع البدو بكثير من صفات المدن الشامية .

وربما يبدو الوصف السابق حميمياً أكثر من الحقيقة, فالذي لا بد من ذكره أيضاً هو الغارات البدوية التي تحمل معها التدمير والسلب والنهب, وكذلك قطع الطرقات وتخريب الزراعة حيث شهدنا في المراحل المتقدمة من عمر الدولة العثمانية انفلات حبل الأمن وزيادة غارات البدو على المراكز الحضرية مما تسبب في هجر واختفاء عدد كبير جداً من القرى المتاخمة للبادية, حتى وصل الأمر لتخوم مدن مثل حماة وحمص, إذ لم يعد بإمكان المرء السفر شرقاً لمسافة عدة كيلومترات دون التعرض للسلب أو ربما للقتل أيضاً.

القبائل السياسية :

تعيد المجتمعات دوماً تمثُل الأفكار الحديثة في ضوء معتقداتها القديمة الأكثر رسوخاً, لذلك ترى فرقاً بين المسيحية الشرقية التي نشأت في أحضان المدن السورية العريقة في التمدن والمسيحية الغربية التي اعتنقتها شعوب أوربة الشمالية التي كانت قبائل أقرب ما تكون للهمجية في القرون الوسطى, ويحضرني هنا وصف المؤرخين العرب للفرنجة المحاربين في جيوش الحملات الصليبية وهم شعوب أوربة الشمالية بالدرجة الأولى حين وصفوهم بالهمج الرعاع الذين لا فضيلة لديهم سوى الشجاعة في القتال .

وترى فرقاً بين فهم الإسلام لدى المجتمع الدمشقي المسالم المتمدن بعمق, وفهمه لدى مجتمعات أخرى أقرب إلى البداوة وأكثر تأثراً بها .

أما في السياسة فليس من الصعب أن يرى المرء كيف تتحول الأحزاب السياسية إلى قبائل سياسية يفتقد فيها الفكر ويسود الولاء للزعيم, وتعود العقلية القبلية لتحتل فيها المكان الأسمى, أما العقيدة والفكر السياسي فينحدران إلى مرتبة القشور والتلاوين التي تعطي هذا الحزب أو ذاك نكهته الخاصة .

ولا يقتصر الأمر على الأحزاب السياسية بل يمتد ليشمل الجمعيات ذات الوظائف المتعددة, وكذلك المنظمات الحقوقية الخ..

وأكثر المظاهر إغراقاً في التناقض تلك التي نشاهدها في الأحزاب التي تلبس لبوس التقدم والليبرالية بينما ترزح بنيتها تحت المفاهيم القبلية .

أليس أمراً غريباً إلى حد الضحك أن يتم توريث المراكز القيادية لأحزاب اليسار العربي؟ وهل يعني ذلك سوى أن الحزب قد أصبح قبيلة وأن رابطة الدم هي التي تحدد مؤهلات الزعيم؟

ليس عجيباً أن نشهد انقسام كل حزب سياسي لأتفه الأسباب فالانقسام هو قانون القبائل حيث من الصعب جمع قبيلتين تحت راية واحدة سوى لمدة قصيرة .

وليس عجيباً أن نشهد الانحدار السريع نحو العنف وسفك الدماء, حيث تختلط الطائفية بالقبلية, فالعنف هو المعبود غير المعلن للبداوة .

واليوم نشهد انفلاتاً للعنف الطائفي, لكن الطائفية العربية ليست سوى قبلية تم إعادة إنتاجها بلباس آخر .

فالاختلاف بين المعتقدات لا يمكن أن يكون سبباً مقنعاً للاقتتال الدموي الوحشي لو لم يتم حقنه بالعقلية القبلية المتسترة وراء الطائفية.

إن أسوأ ما في العقلية القبلية هو تماسكها الفولاذي أمام كل الروابط الأخرى, فهي تفتت كل الروابط وطنية كانت أم فكرية أم اجتماعية وتعيدها إلى الخانة القبلية .

وما لم تواجه العقلية القبلية بتجريدها ووصفها وإدانتها فسيكون من الصعب التخلص منها .

إنها أشبه ما تكون بوحش خارج من أعماق التاريخ ليغتال المستقبل في الحاضر .

المصدر: صفحة الكاتب على وسائل التواصل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.