الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الانتماء الديني أم الانتماء الوطني

عمرو فاروق *

جدلية “الانتماء الديني” أم “الانتماء الوطني”، تمثل أحد أهم الأدبيات الفاعلة في قاموس الجماعات الأصولية، وتأصيلاتهم لمفاهيم “الأممية الإسلامية”، والارتباط بمظلة “الخلافة”، ومن ثم الارتماء في مسار الحاضنة التنظيمية والخضوع لمنظومة العمل الجماعي.

مختلف المرجعيات الفكرية للجماعات المتطرفة في تنظيراتها الفقهية، قدمت “الانتماء الديني” على “الانتماء الوطني”، معتبرة أن الولاء للعقيدة أولى من الانتماء للتراب والأرض، وأن الدين يمثل في ذاته الوطن الحقيقي، بينما “الأرض” لا يمكن أن تُعبّر عن الدين.

لا شك في أن تعزيز “الانتماء الديني” من قبل حركات الإسلام السياسي، بما يخدم أجندتها الحركية والتنظيمية والفكرية، ساهم في تكريس “المفاصلة الوطنية”، واستنساخ نماذج بشرية متمردة على الإطار المجتمعي، فضلاً عن تلاعبهم بالآيات القرآنية، التي وضعوها في سياقات مذهبية وحزبية، للتأكيد كذباً على “تغريب العقيدة”، وتهميشها في الأزمنة الراهنة.

“المفاصلة الوطنية” تتبعها “هجرة عقائدية”، متمثلة في “العزلة المجتمعية”، أو “العزلة الشعورية”، والتي ترجمتها أدبيات جماعة “الإخوان” وتيارات السلفية التقليدية، تحرراً من عادات وتقاليد البيئة المحيطة، أو “هجرة جغرافية”، ترجمتها تيارات “السلفية الجهادية” كتنظيم “القاعدة”، وتنظيم “داعش”، و”هيئة تحرير الشام”، في الهجرة إلى تكتلاتهم في سوريا والعراق.

اشكالية “الانتماء الديني” تمثل الخطوة الأولى في طريق هدم الأوطان، وتفكيك منظومتها الأمنية والعسكرية والسياسية والمدنية، تحت مزاعم مخالفة القائمين عليها لمقاصد الشريعة وأحكامها، لا سيما أن العمليات الإرهابية التي تمت في مختلف المجتمعات العربية على أيدي شبابها، لم تكن سوى نتيجة طبيعية لتراجع الانتماء الوطني.

ممارسة اللجان النوعية الإخوانية، للعمليات المسلحة في قلب القاهرة، عقب السقوط السياسي والرفض الشعبي للجماعة، واستمرار هجومها وتطاولها الدائم على الدولة المصرية ومشاريعها التنموية والاستثمارية، من خلال تفعيل ماكينة “الإشاعات”، يتوافق عملياً مع ما تُطبع عليه قواعدها التنظيمية من تخليهم عن عباءة “الانتماء الوطني”.

ما يجهله مدعو التديّن الظاهري، أن الإيمان بالأوطان ليس من العصبية والجاهلية في شيء، مثلما يزعمون ويخدعون مريديهم، الذين يسيرون خلفهم كالقطيع من دون أن يعوا ويدركوا أن “الانتماء الوطني” لا يتقاطع مع “الانتماء الديني”، وأن حماية الأوطان من صميم مقاصد الأديان، إذ إن العقيدة السلمية تحض تابعيها على الانتماء للوطن، والارتقاء به علمياً وثقافياً وسياسياً واجتماعياً.

زعم منظرو الجماعات الأصولية في مؤلفاتهم، أن “الوطنية” و”القومية”، و”العروبة”، مترادفات تمت صياغتها في إطار نظرية المؤامرة على الإسلام والمسلمين، واضعين “الانتماء الوطني”، في تماهٍ مع “العصبية” و”الطائفية”، من باب الخداع والتلاعب بمشاعر العوام، وأنها تمثل منهجاً وامتداداً للمناهضة، المظلة “الإسلامية”، وفي المقابل انتجوا عشرات المفردات التي تروج لأطروحاتهم مثل “جيش الإسلام “، و”جيش الخلافة”، و”جند الله”.

لم تتمكن الجماعات الأصولية من تحويل الأزمة السياسية إلى خلاف ديني، إلا من خلال تكريس فكرة “المؤامرة على الإسلام”، وتزكية “الانتماء الديني”، والتنصل من الارتباط القومي والوطني، فيقول حسن البنا في رسالة “دعوتنا” إن “وجه الخلاف بيننا وبينهم هو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة، وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية، والحدود الجغرافية”.

ولم يخجلوا من الإعلان عما يخبئونه من كراهية وتحقير لمكانة الأوطان، أمام مخيّلة العقل المجتمعي، ابتداء من “ما الوطن إلا حفنة من تراب عفن”، و”طز في مصر واللي في مصر”، و”استاذية العالم”، و”الحدود الوهمية”، ولم يفلح كذلك سعيهم في انتزاع “القيمة الوطنية”، وتفكيك هويتها، واستبدالها بالانتماء الديني، ضماناً لاستمرار الولاء للمشروع الحركي والتنظيمي.

يقول سيد قطب: “إِنَّ هَذِهِ الْجُيُوشَ الْعَرَبِيَّةَ الَّتِي تَرَوْنَهَا لَيْسَتْ لِلدِّفَاعِ عَنِ الْإِسْلَامِ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا هِيَ لِقَتْلِكُمْ”، ويضيف: “إِنَّ رَايَةَ الْمُسْلِمِ الَّتِي يُحَامِي عَنْهَا؛ هِيَ عَقِيدَتُه، وَوَطَنُهُ الَّذِي يُجَاهِدُ مِنْ أَجْلِهِ؛ هُوَ الْبَلَدُ الَّذِي تُقَامُ شَرِيعَةُ اللَّهِ فِيهِ، وَأَرْضُهُ الَّتِي يَدْفَعُ عَنْهَا؛ هِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ، الَّتِي تَتَّخِذُ الْمَنْهَجَ الْإِسْلَامِيَّ مَنْهَجًا لِلْحَيَاةِ، وَكُلُّ تَصَوُّرٍ آخَرَ لِلْوَطَنِ هُوَ تَصَوُّرٌ غَيَرُ إِسْلَامِيٍّ، تَنْضَحُ بِهِ الْجَاهِلِيَّاتُ، وَلَا يَعْرِفُهُ الْإِسْلَامُ”.

وضعت الجماعات الأصولية قضية “الولاء والبراء”، للدين في مقدمة أولوياتها من قبيل تدعيم منطقها في إقامة مشروع الخلافة، والتي تعتبر في ذاتها من المسائل الفرعية‏، ‏ومن جملة الحقوق والمصالح العامة، ولم يرد بيان صريح في القرآن الكريم، ولا في الأحاديث النبوية، ما يدعم شرعيتها، ولو كانت من الثوابت العقائدية والمسائل الدينية الرئيسية لبيَّنها وما سكت عنها رسول الله، لقوله تعالى: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا” وفقاً لكتاب “الخلافة وسلطة الأمة”، الصادر عام 1924.

الحفاظ على مقدرات الوطن وسلامته وأمنه، ركناً أساسياً من مقاصد الشريعة الإسلامية، فكان النبي محمد، أشد المحبين لوطنه، فورد عنه، في صحيح البخاري، “اللهمَّ حبِّب إلينا المدينة كحبِّنا مكة أو أشد”، وقوله “واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ”.

* كاتب مصري، وباحث في شؤون الجماعات الأصولية

المصدر: النهار العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.