الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الرئيس الصيني إذ يجمع كل السلطات في يده

محمد المنشاوي *

عندما أصبح شي جين بينج رئيساً للحزب الصيني في عام 2012، واجه بيئة دولية تختلف كلية عن تلك التي يواجهها الآن بصورة كبيرة، ولم تكن الصين قد وصلت بعد لما تتمتع به اليوم من قوة عسكرية واقتصادية وتكنولوجية.

ولم تكن أمريكا نجحت بعد في تغيير توجهها الاستراتيجي بعيداً عن الشرق الأوسط والحرب على الإرهاب إلى آسيا، وتحديداً جنوب وشرق القارة.

ومع بدء عامه الـ 11 في الحكم، تواجه الصين عالماً مستعصياً عليها سواء من جانب الغرب الذي لم يرق له حياد، أو ما يراه البعض دعماً صينياً خجولاً للموقف الروسي من الحرب على أوكرانيا، أو من جانب كل جيرانها باستثناء روسيا على خلفية رغبتها في تغيير ترتيبات حرية الملاحة في بحر الصين الجنوبي، أو بسبب نزاعات حدودية هنا وهناك. وأصبحت هناك جهود ومبادرات ضخمة، تقودها واشنطن، وتهدف إلى «احتواء الصين».

وبعد 10 سنوات من حكم الرئيس شي، يعاني الاقتصاد الصيني من أزمة مستمرة لسداد القروض الحكومية، علاوة على ذلك، تلطخت سمعة الصين في الحكم الرشيد بسبب طريقة تعاملها مع تفشي وانتشار فيروس كوفيدــ19 بعدما فشلت استراتيجيته «صفر كوفيد»، وما تبعها من عواقب اقتصادية متفاقمة.

وفي المؤتمر الذى يعقده الحزب الشيوعي- كل خمس سنوات- في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، حصل الرئيس شي على فترة ولاية ثالثة غير مسبوقة كرئيس للحزب، وأصبح يُلقب بـ «قائد الدفة» أو «ربان السفينة».

  • • •

وخلال العقود الأخيرة، عُرف عن الصين الاستقرار الداخلي تحت سيطرة مطلقة للحزب الشيوعي، كحزب سياسي حاكم وحيد، على الحياة السياسية والعسكرية والاقتصادية في البلاد.

إلا أن ما شهدته الصين وتشهده مؤخراً يترك الباب مفتوحاً أمام أسئلة بلا إجابات. وبدايةً فلا يفهم الكثير منا حول العالم ماذا يُدار داخل غرف الحزب الشيوعي الصيني المغلقة، ولا يعرف أحد كيف يخططون لسيناريوهات مجهولة في دولة تعداد سكانها 1.4 مليار نسمة وتملك ثاني أقوى اقتصاد وجيش في العالم.

شهدت الصين، في حالة نادرة، احتجاجات في مناطق مختلفة خلال الأيام الأخيرة للمطالبة بإنهاء تدابير إغلاق فيروس كوفيد، وبفتح مجالات أوسع للحريات السياسية، في موجة تظاهرات واسعة لم تشهد مثلها البلاد منذ الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية في العام 1989.

لكن أسباب القلق، من وعلى الصين، لا تقتصر على الاحتجاجات والغضب الشعبي فقط، فقد أنهى الحزب الشيوعي مؤتمره العام، الذي يعقد كل خمس سنوات في نهاية تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وأضحى مستقبل الصين في يد الرئيس شي وحفنة من الموالين له. ويُحذر الخبراء من أن التركيز المفرط للسلطة قد يأتي بنتائج عكسية إذا أخطأ شي الحسابات. مدد الحزب للرئيس شي فترة حكم ثالثة لمدة خمس سنوات أخرى على الأقل، وهو ما يمثل انحرافاً عن تقليد الحزب الشيوعي الصيني المستمر منذ عقود، والذي أكد على التبديل المنتظم للقيادة مع تجنب التركيز المفرط للسلطة.

  • • •

منذ وفاة الزعيم الصيني الأهم خلال النصف الثاني من القرن العشرين «ماو تسي تونج» عام 1976، تحاول القيادات الصينية منع ظهور ماو جديد، أي منع ظهور شخصية محورية تنفرد بالحكم على غرار ما قام به الزعيم ماو الذي حكم حتى مماته، وامتدت سنوات حكمه لتتخطى الثلاثين عاماً.

وعلى الرغم من التقدير الكبير الذي يحظى به إرث الزعيم ماو، فإن الصين كدولة ومجتمع ونخبة توافقت على أن الزمن يتغير، وأنه لا سبيل للتقدم إلا بمنع خلق ماو جديد أولاً. وعليه تبنت معادلة حكم تُوازن بين طبيعة وتوازنات الصين الداخلية الأيديولوجية والثقافية، وبين الطبيعة البشرية التي يفسدها دوام السلطة، ويفسد دوائرها القرب الشديد من الحاكم. وعليه صممت الصين الجديدة على خلق مؤسسات سياسية لا تُشخص الحكم، ولا تعتمد على زعيم أوحد مدى الحياة، بل اختارت أن يكون هناك ديكتاتور، لكنه ديكتاتور يحكم لفترة محددة معلومة مقدماً.

  • • •

أدرك الزعيم دينج شياو بينج أن من الجرم إبقاء حاكم في منصبه مدى الحياة. واستفاد من تجربة سلفه الزعيم ماو ومن أخطائها التاريخية والتي كان منها ما يتردد عن قتل ما يزيد على 30 مليون شخص خلال الثورة الثقافية في ستينيات القرن الماضي. وصمم بينج على عدم السماح بوجود ديكتاتورية مطلقة حيث رآها مفسدة مطلقة. وصمم بينج على عدم السماح بوجود سلطة لشخص مدى الحياة، وتمت صياغة ذلك في الدستور الصيني وذلك ليتجنب زعماء الصين الجدد الفساد المرتبط بالقرب من دائرة الحكم لفترة طويلة، وعدم استيعاب دائرة الحكم المطلق لضرورات وفوائد وحتمية التغيير.

  • • •

صمدت الصين أمام عواصف الانفتاح والإصلاح لما يقرب من نصف قرن منذ تبنيها سياسات الإصلاح والانفتاح الاقتصادي منتصف سبعينات القرن الماضي، وصمدت كذلك بدستور 1982 الذي منع ظهور زعيم واحد ملهم يبقى في الحكم حتى مماته طبقاً لتصور الأب الروحي للإصلاح والتقدم في الصين الزعيم دنج شياو بينج. من هنا يمكن تفهم ما قام به الرئيس الصيني الحالي من خلال خطوات متنوعة لتعزيز وضعه خلال سنوات حكمه بمحوه قدراً كبيراً من إرث دينج شياو بينج، إضافة لإزاحته لكل خصومه المحتملين، معتمداً فى المقام الأول على حملته الواسعة النطاق لمكافحة الفساد، والتي امتدت لتخليص الحزب الشيوعي الصيني من كل خصومه ومنافسيه السياسيين المحتملين.

  • • •

مع نهاية مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني، أصدر قادته بياناً، أيدوا فيه الرئيس شي باعتباره «صمام أمان الحزب»، ودعوا الحزب إلى الاتحاد بشكل أوثق خلفه. وأصبح الرئيس شي يشغل حالياً أقوى ثلاثة مناصب في الصين الأمين العام للحزب الشيوعي الصيني، ورئيس القوات المسلحة في البلاد، ورئيس الدولة، وهكذا أصبح نظام الحزب الواحد، مساوياً لشخص يوصف بأنه «قائد الدفة» و«ربان السفينة»!

* كاتب صحفي مصري متخصص في الشؤون الأمريكية

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.