الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

مجزرة “جنين” وحدود التقشف العربي

نزار السهلي *

نسأل من جديد، ما معنى العدوان الإسرائيلي، في شروط إنسان فلسطيني؟

أرضه محاصرة وتتعرض للنهب والاستيطان، وهو نفسه ضحية قتلٍ ومجازر وتهجير واعتقال يومي منذ نكبته عام 48، في صفحات قضية فلسطين التي يُسطر فيها المستعمر الصهيوني، الفصل العنصري، ويتساقط أمامه صناع الكلام في الأنظمة الاستبدادية المختصرة لقضية شعب، نضاله ومقاومته، حُصرت في فضيلة بيانات شجب وإدانة لمجزرةٍ وعدوان واستيطان وتهويد، يتلاشى فيهما دعم الضحايا الأشقاء كثمرة من أوراق التطبيع العربي- الإسرائيلي، يحل الدور العربي في قضية فلسطين بعد كل مجزرة إسرائيلية وكل عدوان محقق، وسيطاً ضاغطاً على الضحايا بضبط النفس “لتأمين” المعتدي وتهديد الضحايا بعواقب عدوان جديد.

مآزق سياسية عربية ودولية:

مجزرة جنين 26/1 ليست تعبيراً عن مأزق إسرائيلي داخلي فقط، بل الأكثر تعبيراً عن مهازل ومآزق سياسية عربية ودولية وفرت للمحتل عبر تاريخ الصراع التملص من المحاسبة عن الجرائم .

جنين مثل غزة في الفاجعة، بعد كل مذبحة، وقبلها الخليل والقدس والطنطورة وقبية وصبرا وشاتيلا وكل زقاق وحي ومدينة دلت على طريق الهمجية الصهيونية، تؤشر أن العدوان تأصيل ممنهج لفكر صهيوني يرتدي أقنعة أحزاب إسرائيلية جلدها وعظمها ملتصق بتعابير تلمودية وتوراتية استعمارية.

أما جملة السلام التي حملتها رياح أوسلو وزوابع التطبيع، لا تتعاملان مع المستعمر الصهيوني وقد أسقط تعابيره وبرامجه خارج المنظور الصهيوني للعربي والفلسطيني الذي يرى فيهما أغياراً وجب ذبحهم، و تلاميذ من ارتكبوا مذبحة الخليل في شباط/فبراير 1994، من مدرسة مائير كاهانا ”ايتمار بن غفير” يستكملون سفح الدم الفلسطيني، والصهيونية الدينية المتحالفة مع نتنياهو تتجهز لكشف امكانياتها العدوانية بضم الأرض ومشاريع الاستيطان وشطب الحق الفلسطيني، لكن، تتحول الوقائع الفلسطينية، في زمن الاشتباك مع المستعمر الصهيوني، إلى وقائع مغايرة لما تشتهيه أوهام السلام الزائفة و “حل الدولتين” والتمسك بمبادرة السلام العربية، والرباعية الدولية، و”كليشة” القرارات الدولية المبنية دون ممارسة، فحين تحتل قضية فلسطين كممارسة مبدعة في الكلام عنها في اجتماعات عربية وإقليمية ودولية، يتراجع مخزون الفعل للجم العدوان لحدود التقشف العربي الأصيل وإلى فعلٍ فلسطيني رسمي سقفه التنديد اللفظي، ولأن سلطة فلسطينية أبدعت في نسيج الكلام عن ”السلام” ويدها الخشنة ممتدة للشارع الفلسطيني يتراجع مخزون الصدق في وقف التنسيق الأمني الذي أُعلن مراراً في الظاهر واستمر سراً، حيث تتوزع صياغته على من يتقاسمون القرار داخل السلطة الفلسطينية من “حسين الشيخ” الغائب عن اجتماع إعلان وقف التنسيق الى ماجد فرج.

ضحايا الإرهاب الصهيوني:

تفجير اللغة أمام كل عدوان ومذبحة على الشعب الفلسطيني، افضى لسيطرة فعلية للمحتل على الأرض، بينما الاحتفاء العربي بتصنيم “فلسطين” في بيانات سياسية ومحاصرة الفلسطينيين والتآمر عليهم، أظهرا الكلام والفعل العربي عن فلسطين ماسخاً ببلادته وسقمه، بتحميل ضحايا الإرهاب الصهيوني المسؤولية، وعليه تنغمر السياسة العربية نحو فلسطين لمستويات سحيقة من العجز والانحطاط ، لا يوجد حس أخلاقي فيها ولا إدراك لمعنى الحرية والتحرر والمواطنة، في أزمنة تغول المشروع الصهيوني وتسيد الاستبداد العربي على المجتمعات العربية، شغل المشروع الصهيوني حيزاً واسعاً من الاهتمام والتوسع عربياً على حساب الحقوق الفلسطينية.

إخلاء المكان الذي شغلته مقاومة الشعب الفلسطيني للمشروع الاستعماري في فلسطين، على حساب أوهام فلسطينية وعربية تتخذ من التقشف الكفاحي والإنساني والسياسي سلاحاً في وجه الجلاد، أمات روح السياسة وفعلها، وفي محاولة لحجب هجير الحياة ونبرة التعاطف بين الضحايا يتم الهجوم المضاد لثورات عربية، لكسر إرادة عربية مناهضة للاحتلال ولكل أشكال الظلم والاضطهاد، والاحتلال والاستبداد شكل عالي المرتبة أدركه ضحايا مشروعي الاستبداد والاحتلال، فحصة الدم واحدة في مدارات أحلام الحرية، ويوم جنين الدموي ليس يوماً هارباً من التاريخ الصهيوني، بل متمم لما قبله وحلقة وصل لمن ينتظر نزوعه إلى الحرية والعدالة، تلبيةً لرغبته كإنسان يثري ثقافته ومعرفته ولا يتخفف بحمولته العربية وإرثه التاريخي، ومن تقشف بفلسفة العبودية والاستسلام للمحتل والمستبد، يقول لهم الضحايا: نحن نبشركم بفلسفة حرية مهما ثقلت الحمولة بين جنين وغزة وطولكرم والقدس والقاهرة ودمشق وعمان والرباط وكل الأمكنة التي تحوم فيها أحلام تلبي رغبات المحرومين، وسيبقى نيل الحرية حكراً على غير المتقشفين بعبوديةٍ أدمنوا عليها.

* كاتب فلسطيني

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.