الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

مفهوم المواطنة بين التراث الغربي والتراث الإسلامي

معقل زهور عدي

يتضمن مفهوم المواطنة تحديد علاقة أفراد الشعب بالدولة من حيث الحقوق والواجبات، فالمواطن هو الشخص المقيم على أرض الدولة اقامة دائمة منذ زمن ( يتحدد  بالدستور ) والذي له كافة الحقوق وعليه كل الواجبات, وتتمثل أهم واجباته في الدفاع عن الوطن, ودفع الالتزامات المالية من ضرائب وغيرها, والالتزام بالقوانين. وفي المقابل فله كافة الحقوق, ومنها حقه في الانتخاب وفي أن يصل الى أعلى مراتب السلطة.

أدخل أرسطو تعريفا  للمواطن في الجزء رقم 3 من ( السياسات ) كالتالي: ( المواطن الصالح يجب أن يعرف ويكون لديه القدرة على أن يحكم هو أو أن يحكم من قبل الآخرين وتلك بالضبط هي الفضيلة في المواطنة )

– المواطنة في التراث الغربي:

” هناك نوعان للمواطنة والصيغ المتباينة للقوانين لدى كل منها كافية لتبرير مثل ذلك التصنيف. المواطنة الاولى استمرت من زمن المدينة- الدولة الاغريقية حتى الثورة الفرنسية. أما المواطنة الثانية فهي تلك التي مازالت مستمرة حتى الآن منذ الثورة الفرنسية ” – ( كتاب المواطنة في التراث الغربي من أفلاطون إلى روسو لبيتر رايسنبرغ ).

نشأت المواطنة الأولى في الأصل في اليونان, وكانت  تمثل امتيازاً لطبقة محددة من الشعب, وهي طبقة المحاربين الذين برزوا في المعارك فأعطيت لهم الأملاك, واعترفت بهم الحكومة كنبلاء يستحقون التكريم, وهم وحدهم كان لهم حق التدخل في الأمور السياسية, وعقد الاجتماعات في الهيئة التي كانت أساس الديمقراطية اليونانية (مجلس المدينة) أو: (CIVITAS).

لكن تلك الميزة ( المواطنة ) توسعت بعد ذلك, فشملت كبار التجار الذين اعتمدت عليهم الدولة في تمويل الجيوش, كما أن طبقة ملاك الأراضي توسعت أيضا, فلم تعد تقتصر على المحاربين أنفسهم بل تشمل أولادهم وأحفادهم ..الخ. ومع أن أرسطو سمح بإمكانية أن يصبح العامة مواطنين فهم لا يمكن أن يصبحوا مواطنين أصليين , فمواطنته الحقيقي ينبغي أن يكون حراً ولديه من الأملاك ما يمنحه الوقت الكافي للمشاركة في الشأن العام.

لقد عملت المواطنة الأولى في بيئة محدودة ووجها لوجه, كما أن المواطنين كانوا أقلية ضمن إجمالي السكان وقد عاشوا ضمن مساحات جغرافية محدودة, كانوا يعرفون بعضهم جيداً, فالمواطنة الأولى كانت دائما نخبوية, ويتناسب ذلك مع الحجم الصغير للدولة- المدينة في ذلك العصر.

ولا يكفي للاحتفاظ بالمواطنة وجود تاريخ ناصع للمواطن في ميدان الحرب, إذ كان العمل السياسي يتكثف بين الفترة والأخرى, ولم يكن الفرد معترفا به كمواطن حتى يشاهد مشاركا بالعمل السياسي, وبصورة نظرية لم يكن هناك مكان لمن يعزف عن الانخراط في العمل السياسي بسبب أن ازدهار المجتمع وبقائه يعتمد على المساهمة الشخصية لكل مواطن من المواطنين الأقلاء فيه. وبين الحين والآخر كانت تلك المساهمة تأخذ طابع العمل العسكري والتضحية بالموت في ميدان القتال.

فاذا انتقلنا نحو المواطنة الثانية التي بزغت مع الثورة الفرنسية وترسخ مفهومها النظري بمؤلفات روسو ومونتسكيو, والتي مازالت حية حتى اليوم. فمنذ أواخر العصور الوسطى حصل إعادة انتاج لمفهوم المواطن بإدخال تغيير للموضوع من شخص فعال سياسيا إلى شخص خامل سياسيا, وبالرغم من ان الثورات العظيمة في نهاية القرن الثامن عشر أنجزت تغييراً في مصطلح المواطن بالعودة لمفهوم المواطن الفعال سياسياً, لكن ذلك التغيير كان مؤقتاً من حيث الفعالية الواقعية, واستطاعت البورجوازية استبعاد شرائح واسعة من الشعب في وقت لاحق, كما أعادت عمليا للحياة ( ديمقراطية النخبة ) سوى أن النخبة هنا لم تعد المحاربين وملاك الأراضي, بل أصبحت كبار التجار وأصحاب المشاريع الصناعية والبنوك. وعلى أية حال فقد أرست المواطنة الثانية- حقوقيا على الأقل- مبدأ المساواة التامة بين أفراد الشعب, فأصبح الجميع مواطنين دون استثناء, لهم ذات الحقوق كما أن عليهم الواجبات ذاتها . وما قاله أرسطو كتعريف للمواطن من كونه ذلك الذي يحكم ويحكم أصبح يشمل جميع أفراد الشعب وليس فئة محدودة منهم .

– المواطنة في التراث الاسلامي:

– عقد المدينة:

في السنة الأولى للهجرة عقد الرسول مع يهود المدينة معاهدة، أهم بنودها:

1– ” أن اليهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم “، وفي هذه المعاهدة تعريف كل اليهود الموجودين في داخل المدينة المنورة بأسماء قبائلهم، يعني: يهود بني النجار، يهود بني حارثة، يهود بني ساعدة، يهود بني عوف ..الخ.

والعبارة الأولى هامة للغاية ( أن اليهود أمة مع المؤمنين ) أي أن اليهود مع المؤمنين وفق أسس هذه المعاهدة يشكلون وحدة اجتماعية- سياسية ( أمة ) وهذا يطابق في المفاهيم الحديثة مصطلح ( الدولة ) فدولة المدينة التي وضعت المعاهدة دستورها ليست دولة المسلمين ولا دولة اليهود بل هي دولة مواطنة للمسلمين واليهود معاً, فهي ترسي مبدأ دولة المواطنة التي تتسع لأديان ومذاهب مختلفة بحيث تتحدد علاقة الفرد فيها ( المواطن ) بالدولة بناء على ( الدستور ) أو كما كان في عصر النبوة ( المعاهدة ).

2- ” أن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم ” وهو شيء يشبه الإدارة الذاتية لكل جزء من أجزاء الدولة.

3- أن الدفاع عن المدينة مسؤولية مشتركة للمسلمين واليهود معاً, وهذا يؤكد أننا أمام دولة مواطنة واحدة لها نظام دفاعي واحد يشمل دفع تكاليف الحرب والمشاركة فيها ضد أي اعتداء خارجي.

تلك هي أهم بنود المعاهدة وتكفي تلك المعاهدة للاستنتاج بأن الإسلام لا يعادي دولة المواطنة, بل يقرها عندما يكون البلد متعدد الأديان, والعبرة هنا في الواقعة ذاتها ولا يغير من قيمتها ما حدث بعد ذلك من انهيار لتلك الدولة- المعاهدة.

يقوم مفهوم المواطنة الحديث على مبدأ المساواة التامة للمواطنين الأحرار, وقد قرر الإسلام ذلك المبدأ قبل الثورة الفرنسية بنحو ألف ومئة من السنين, في القرآن الكريم ” يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ” والخطاب هنا للناس كافة وليس للمسلمين فقط. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ” قيل يا رسول الله من أكرم الناس قال أتقاهم “.

فإذا جئنا للمواطنة حسب تعريف أرسطو من أن المواطن هو الفرد المعرض أن يكون حاكماً أو محكوماً, فإننا نجده ( المواطن ) في مفهوم العقد الاجتماعي في الإسلام وتطبيقه في الشورى والبيعة في زمن الخلافة الراشدة وتراث الخليفة عمر بن عبد العزيز.

ونعود هنا لخطبة أبي بكر ” إني قد وليت عليكم ولست بخيركم ” يعني بذلك أنه قد يكون بينكم من هو أحق مني بالولاية, فهو هنا مقر بأن الولاية من حق أي رجل من المسلمين يصلح لها, وفي حوار عمر بن عبد العزيز مع وفد الخوارج قال عاصم: ما نقمنا سيرتك، إنك لتتحرى العدل والاحسان، فأخبرنا عن قيامك بهذا الأمر، عن رضا للناس ومشورة؟ أم ابتززتم أمرهم؟ فيجيب عمر بن عبد العزيز: ما سألتهم الولاية عليهم، ولا غلبتهم عليها ( لم آخذها غصبا بالقوة ) …الخ. كما ورد سابقاً, فهو ينفي تلك التهمة عن نفسه, فهو ضمناً يعود إلى أصل الحكم في الإسلام كما بينه أبو بكر في خطبته.

ويلقي ذلك مزيداً من الضوء على النقاش الدائر حول مفهوم الإسلام للمواطنة كونها تؤهل أي فرد للحكم إن كان صالحاً له دون استثناء.

ولأن عمر بن عبد العزيز مقر ضمناً بذلك, فهو يجادلهم بأحقيته في الحكم ليس من كونه ورثه عن سليمان بن عبد الملك ولكن من كون الناس قد رضوا به طواعية من جهة, وأيضاً من كونه يقيم العدل فهو رجل صالح للحكم بغض النظر عن أي اعتبارٍ آخر.

المصدر: صفحة الكاتب على وسائل التواصل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.