الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

العرب من حال إلى حال

جميل مطر *

العالم يعيش حالة فوضى أو حالة «اللانظام»، وهي الصفة التي اختار السفير ووزير الخارجية السابق نبيل فهمى أن يستخدمها من بين صفات عديدة ليُقرب إلى الأذهان الحالة الراهنة للعالم. تحمل هذه الصفة معانٍ محددة، فهي تعني أن العالم، وأقصد هنا النظام الدولي كما عرفناه وعشنا في ظله مدة ثلاثة أرباع القرن، يتحول تدريجياً ومفهومياً نحو نظام آخر، وأننا رأيناه خلال رحلة تحوله أو انتقاله- إن صح التعبير- يفقد ثلاث سمات تميز بها وكان قد اكتسبها عند التأسيس في نهاية الحرب العالمية الثانية.

أما هذه السمات فأولها توفر قواعد عمل معلنة تلتزم بها الدول وغيرها من العناصر الفاعلة من أعضاء النظام، وثانيها وجود أنماط تفاعل متفق عليها بين أطراف النظام، وثالثها القبول بأطر واضحة تُميز هذا النظام عن غيره من التجمعات أو التشكيلات، كالاتفاق مثلاً على حدود تفصل بين النظام الدولي ونظام فضائي أو نظام تكنولوجي أو نظام عرقي. نعرف الآن أن النظام الدولي تعرض خلال الشهور الأخيرة، كما ذكرت، إلى جملة من التطورات المعقدة والهزات العنيفة تسببت في انهيار هذه السمات الثلاثة بتدرج ملحوظ، بما يعني في النهاية انفراط النظام من أساسه. نحن الآن نعيش المرحلة الانتقالية على طريق هذه النهاية.

  • ●●

المثير في هذا التطور أنه ترافق مع تطور مماثل في النظام الإقليمي العربي، والغريب أن النظام العربي كان الوحيد بين نظم إقليمية أخرى ترافق انحداره مع انحدار النظام الدولي. نلاحظ انتكاسات أو تكاسل في أداء النظام الأفريقي وفي نظام جنوب شرقي آسيا وفي نظام الأمريكتين، كما نقف شهوداً هذه الأيام على تغيرات عميقة في السمات الثلاثة التي أسست للنظام العربي.

نشهد وبوضوح انهيار التزام الدول الأعضاء بقواعد عمل النظام قاعدة بعد قاعدة. نفقد الالتزام المشدد بدعم قضية فلسطين، نفقد أيضاً الالتزام بقيمة هوية النظام، وأقصد عروبته. بمعنى آخر نشهد تراجعاً في الالتزام بصدارة العروبة في قائمة هويات الإقليم. نفقد أيضاً الإصرار على الحفاظ على سلامة الحدود الخارجية للنظام ومتانتها. ففي كل مكان تقريباً من العالم العربي نشهد تجاوزات في التزام الآخرين احترام هذه الحدود. نرى اختراقات باستخدام الدين والطائفة والقوة العسكرية والهجرة البشرية، نراها بوضوح صارخ في حدود النظام الجنوبية وبخاصة على حدود السودان وبوضوح أيضاً على حدود النظام الشرقية مع إيران ومواقعه الغربية مع إسرائيل ومناطقه الشمالية مع تركيا. هذه الاختراقات وغيرها من أنواع التدخلات تهدد هويات أقاليم عربية شاسعة وفي الوقت نفسه تهدد أمن النظام على كافة حدوده، فضلاً عن أنها صارت تؤثر وبعنف شديد في أنماط العلاقات العربية الداخلية أي بين الدول العربية وبعضها البعض وتؤثر كذلك في أنماط التفاعلات العربية مع القوى الخارجية.

نلاحظ أيضا التدهور الشديد في أوضاع الأمن وعدم الاستقرار وتداخل الهويات والولاءات في كافة مناطق حدود النظام، نلاحظه في المغرب العربي على الحدود وفي العلاقات بين الجزائر والمغرب، وبين المغرب وإسبانيا، وبين الجزائر ومالي، وبين ليبيا وتشاد. نلاحظه بين سوريا وتركيا، وبين العراق وتركيا، وإن مكتوماً بين العراق وإيران، ونلاحظه بين السودان وكل جيرانه الأعضاء في النظام الأفريقي، وبين الصومال وكينيا، وبين المملكة السعودية واليمن من ناحية وإيران من ناحية أخرى. عشناه لسنوات ونعيشه في سيناء على حدود مصر الآسيوية كجزء من تغيرات واسعة ترتبط بخريطة سياسية لإسرائيل، خريطة لم تكتمل بعد ولن تكتمل في الأجل المنظور مما يعني في الحقيقة أن النظام العربي سوف يبقى ناقص الاكتمال حتى ذلك الحين.

  • ●●

لا تخفى حقيقة أن الدعوة لإقامة نظام إقليمي شرق أوسطي سوف تبقى معنا، تتوارى حيناً وتكشف عن نفسها في حينٍ آخر متأثرة بحدة التطورات في كل المناطق الحدودية للنظام الإقليمي العربي. المدهش في هذا الموضوع هو أن العرب ليست لهم مطالب مشروعة أو غير مشروعة في أراضٍ أو مواقع تخضع لنظام إقليمي مجاور إلا فيما ندر، بينما لجميع حكومات دول الجوار بدون استثناء مطالب في أراضينا وثرواتنا.

التغيرات كثيرة في مناطق حدود النظام العربي وبعضها عويص ومعقد. التغيرات أيضاً كثيرة داخل الدول أطراف النظام العربي وبعضها صعب ولكن قابل للتعامل معه. مثلاً في كل من تونس وليبيا والسودان ولبنان والعراق وسوريا تغيرات أو استعداد للتغيير تستحق التركيز عليها إن شئنا وحدنا أو مع غيرنا استعادة النبض إلى قلب النظام العربي. هنا في مصر أزمة اقتصادية خانقة وقد تصبح ممتدة ولكنها مع كل تعقيداتها وصعوباتها لن تكون قيداً على حركة وإبداع أجيال عريضة تمثل مخزون الخبرة السياسية والعريقة في شؤون النظام الإقليمي. هناك أيضاً في المملكة السعودية تغيرات من نوع مختلف حدثت وأخرى على الطريق لتحدث وكلها بدون استثناء عادت تفرض على الخارج الاهتمام بالمملكة كلاعب هام ومؤثر في الإقليم وخارجه. أظن وبثقة متجددة أن في تلاقى مصر والمملكة على طريق التوسط لتسوية النزاعات العربية العربية والنزاعات داخل الدول العربية وتجديد كفاءة النظام الإقليمي العربي ومؤسساته وأهمها جامعة الدول العربية وعن طريق حقن دماء نقية في شرايين أسسه الثلاثة فرصة لعودة الروح.

أعلم أن هناك في الخارج من يؤكد وهناك من يحلم بأن الشهور القليلة القادمة سوف تشهد عودة الاهتمام العالمي بالشرق الأوسط، وبالتحديد بالإقليم العربي. وراء هذه العودة، إن حدثت، أسباب كثيرة. أهمها، أن الشرق الأوسط بتاريخه ومكانة أديانه وتعددية أعراقه وطوائفه وشبابية ديموغرافيته وغنى ثرواته الطبيعية وندرة مياهه يبقى لغزاً لا يحل نفسه بنفسه أو يحله آخرون ببساطة. من هذه الأسباب أيضاً أن الدول الخليجية، أو أغلبها على وجه الدقة، أثبتت في الآونة الأخيرة نيتها في أن تحظى بدور هام في مجال السياسة الدولية.

أسمع أن عرض المملكة السعودية التوسط بين روسيا وأوكرانيا ما يزال مُقدراً لدى الأطراف الكبرى في الصراع باعتبار أنه يستند إلى مصادر قوة ملموسة ومؤثرة ويعبر عن اعتراف ذاتي من المملكة بأهمية وجدوى قفزاتها نحو مستقبل مُخطط له. أعلم أيضاً أن بعض الغرب يستشف في الأزمة المصرية الراهنة كما في روسيا فرصاً لا يجوز التفريط فيها. هي أيضاً تجدد في الموروث السياسي الاقتناع بأن مصر تظل في أزماتها قوة معنوية لا يُستهان بمفعول ضعفها وبخاصة في عالم يئن نظامه الدولي تحت وقع الفوضى الضاربة أطنابها في كافة جنباته، وفي نظام إقليمي يتلوى بأوجاع الفقر وفجوات الثروة والدخول والغذاء والمياه.

  • ●●

اللحظة حرجة وفي اللحظات الحرجة تتكثف آمال الأمة في صحوة ثانية طال انتظارها، وفي اعتقادي أن عناصر الصحوة صارت جاهزة بفضل ما حققنا من نجاح وكرد فعل لنواحي فشل لم تعد خافية أبعادها الراهنة ولا خافية عواقبها لو استمرت.

* كاتب ومحلل سياسي مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.