الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

هيكل ويناير: لماذا لا تكتمل في مصر ثورة؟!

عبد الله السناوي *

كان ذلك سؤالاً طرحه الأستاذ محمد حسنين هيكل على الرأي العام قبل ثورة (25) كانون الثاني/ يناير (2011).

وهو ينظر في الأحوال المصرية ويستطلع مستقبلها استعاد تشبيها شهيراً لرئيس الوزراء الفرنسي «بول رينو»: «عربة فرنسا تندفع بأقصى سرعة على الطريق لكن يا إلهى نحن لا نعرف إلى أين؟». «إلى أين نحن ذاهبون؟»، هكذا كان السؤال ملحاً وحائراً.

«ذاهبون إلى داهية»، وهكذا جاءت إجابته حاسمة ومعلنة.

كغيره فوجئ بمشاهد «يناير» الأولى، فقد «خرج الشعب كله، بأجياله، وبطبقاته، وبطوائفه، بل بالصبا فيه والطفولة- ملايين بعد ملايين، وكذلك فهي لأول مرة في التاريخ الحديث خروج كامل، وبالثورة الكاملة، وللشعب المصري بكامله». بعد ثلاثة أيام من الأحداث العاصفة وصف ما يجري بأنه «ثورة متكاملة الأركان».

لم يكن وحده الذي بادر بإطلاق هذا الوصف على ما كان يتحرك غاضباً في الشوارع، ربما سبقه آخرون، لكن ثقله الأدبي أضفى على التوصيف صدقية عامة في وقت حرج.

رأى أمامه ما يستدعي التفاؤل في «استكمال مسيرة طويلة للشعب المصري وتتويجهاً من حركة أحمد عرابي- التي كانت أول تمرد وطني على السيطرة البريطانية، إلى ثورة ١٩١٩- التي طلبت الجلاء بالمفاوضات وطالبت بدستور قبلته على الرغم من أنه منحة من الملك آملين في تطويره بالحوار مع القصر والإنجليز، وثورة ١٩٥٢، التي كانت ثورة قامت بها طلائع من الجيش المصري أحاطت بها وساندتها جماهير شعبه، خاضت معها تجربة ضخمة في مصر، وفي محيطها، وفي عالمها، لكنها لم تستطع تحقيق ديمقراطية كل الشعب… وظروفها عاقتها عند ثلاثة أرباع الطريق».

حصاد «يناير» لم يوافق الرهانات عليها، لم تستكمل ما قبلها ولا تجاوزته ولا قدرت على منع اختطافها. قبل أن تتكشف الحقائق على المسرح السياسي المضطرب نظر في المستقبل وتوقع صراعاً ضارياً عليه.

«من الطبيعي أن يكون هناك هجوم مضاد للثورة- فعلى الأرض وأمام الشباب قوى لها مطالبها، وهناك مصالح لديها ما تريده، وهناك خطايا لا يصح أن تنكشف، وتلك كلها دواعٍ تشد كثيرين إلى حلف غير مقدس يريد أن يقمع حلماً مقدساً تتبدى ملامحه».

بدت الصورة أمامه في الأيام الأولى لـ«يناير»، فرصة هائلة في التاريخ ومخاطر ماثلة باحتمالات الإجهاض.

وكان تفكيره- كرجل اقترب من صناعة القرار على عهديّ «جمال عبدالناصر» و«أنور السادات» حتى عام (١٩٧٤)- أن ما تحتاج إليه مصر هو فترة انتقالية بضمان الجيش وتحت حراسته دون أن يحكم أو يتحكم في مسارها.

كانت قضيته- كما كتب وقال عشرات المرات- أن نعرف حقيقة ما جرى حتى يمكن تصحيح التاريخ الذي لم تُستكمل فيه ثورة.

هذا لم يحدث أبداً.

أمام ما بدا مرتبكاً وحائراً في المشهد العام أخذ منسوب تفاؤله يتراجع في أن تكون «يناير» امتداداً أرقى لثورة (١٩١٩) وتطويراً أوسع لثورة (٢٣ تموز/ يوليو).

ثم كان الدور الذى لعبته جماعة «الإخوان المسلمين» في حوادث الثورة داعياً للتساؤل والصدامات والانقسامات.

«باغتتها الثورة فلحقت بها بعد أن تحفظت عليها خشية الاصطدام بسلطة الدولة، وحاولت منذ تنحية مبارك أن تبدو كمن يدير الأمور بحسبانها الأكثر تنظيماً».

وكانت مشاهد «جمعة النصر» والأجواء التي سادتها إنذاراً مبكراً.

هناك من حاول أن يجعلنا نشعر «أن الخوميني قد جاء بعد سفر طالت مدته» في إشارة إلى الأجواء التي أحاطت بخطبة الشيخ «يوسف القرضاوي».

لماذا تحوّلت نسائم الربيع إلى عواصف متربة؟

قبل إصدار الأحكام حاول أن يزيح الأوهام.

كان أخطرها «أن الشباب الذي فجّر الزناد الثوري بجسارة واقتدار وقع في تصوره أنه وليس كتل الملايين من صنع الثورة، ومن حقه الآن أن تكون كلمته الأعلى».

«كان يمكن أن يكون شيء من هذا إلى حد ما مفهوماً لولا عدة أسباب:

الأول: أن هذا الشباب لم ينظم نفسه، وإنما دفعه سباق الأوهام إلى التفرق على أكثر من مائتي جماعة، كل منها تحسب نفسها الأقوى والأكثر فعلاً في الميدان.

والثاني: أن اعتماد جماعات الشباب كان أساساً على وسائل الاتصال الحديثة، وهذه لها حدود، ذلك أن شبكات الإنترنت والفيس بوك والتويتر تصلح وسائل حركة، لكنها ليست صانعة فكر، والحركة قد تكون لها دوافع وروافع، لكن استيعاب التاريخ قبل الحركة وبعدها مسألة ضرورية، لأن الثقافة التاريخية لازمة للفعل السياسي.

والثالث: أن الشباب لم يتوقف بشكل كافٍ للتعرف على الحقائق الاقتصادية والاجتماعية والفكرية في البلد، وإنما أخذته النشوة إلى حد اعتبار ما يريده قانوناً واجب النفاذ، حتى على واقع الأحوال.

هكذا أفسحت أوجه القصور في حركة قوى الثورة المجال لاختطاف ثورة «يناير».. ومبكراً.

لماذا لا تُستكمل في مصر ثورة؟

«لمرات كثيرة لا نتمم عملاً إلى غايته، هناك شيء ناقص دائماً، هناك في معظم الأحيان نتائج تتأخر عن موعدها، نتائج تجيء ناقصة إلا ربع وإلا عشرة وإلا خمسة، من المهم أن نتذكر أنه لا بد أن يكون هناك توافق بين الساعات والمسافات، بين المهام والتوقيتات».

«في دراسات الاجتماع السياسي توافرت إشارات ومعارف لا يمكن تجاهلها لفهم طبيعة المجتمع الزراعي للشعب المصري الذي اعتاد على نوع من الرتابة من تحضير الأرض وحرثها وبذر البذور فيها منتظراً مياه النيل التي سوف تأتي في موعد محدد لا يخطئ تقريباً، والذي هو بطبيعته متدين لكنه- أحياناً- يخطئ في معنى الإيمان ومعنى التوكل على الله، متوقعاً قوة متداخلة- مقبلة من خارج التاريخ سوف تصّلح الأمور بشكل أو آخر».

فضلاً عن أنه «في المجتمع الزراعي المتدين يوجد نوع من الألفة مع ما هو موجود ونوع من الحنين إلى ما كان».

هل هذا التفسير كاف لظاهرة أن الثورات في مصر لا تكتمل.. أم أن المشكلة بالأساس في غياب التراكم، فكل ثورة تناهض ما قبلها ولا تبني فوق ما بنت، تصحح وتضيف.

«عندما نتأمل التاريخ نجد أن الأمل ربما يكون في التراكم.. بمعنى تراكم ثورة ناقصة أو ثورة إلا خمسة.. لكن الكارثة الكبرى أن القوى الحاكمة لم تسمح بالتراكم، ولا نحن حرصنا عليه بالقدر الكافي».

هنا بالضبط مأساة التاريخ المصري الحديث.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.