الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

هل انتهى التحدي الصيني للتفوق الأمريكي؟

محمد المنشاوي *

قبل عامين، وفي بدايات انتشار تفشي فيروس كوفيد ــ 19 في نيسان/ أبريل 2020، نشر المفكر كيشور محبوباني، Kishore Mahbubani، وهو دبلوماسي سنغافوري رفيع سابق، وخبير حالياً بجامعة سنغافورة الوطنية، كتاباً هاماً رسم خلاله مسار وسبيل تحدي الصين لتفوق الولايات المتحدة العالمي.

وجاء عنوان الكتاب: «هل انتصرت الصين؟ التحدي الصيني للهيمنة الأمريكية»، لافتاً للأنظار، إلى أن محتواه كان أكثر من محاولة للترويج لنموذج الصين في الحكم والتنمية، إذ ذهب ليبشر بأفول الهيمنة العالمية، وبالنظام الذي أسسته واشنطن عقب الحرب العالمية الثانية، سياسياً واقتصادياً وثقافياً.

وأثار الكتاب، وغيره من الأفكار التي عبرت عن بدء أفول الهيمنة الغربية لصالح الهيمنة الشرقية متمثلة في الصين وربما الهند، الكثير من القلق في الدوائر الفكرية الغربية، وبث الشكوك بين الكثير من صانعي القرار في واشنطن في إمكانيات دولتهم وقدرتها التي يعتبرونها استثناءً.

إلا أن تجربة فيروس كورونا، والتي لم تنتهِ فصولها بعد، عكست بدقة القدرات الحقيقية التي تتمتع كلتا الدولتين في المنافسة الجيوسياسية بينهما، وهي منافسة فاقمتها أزمة تفشي وانتشار الفيروس، وانتهت لصالح النموذج الغربي في التعامل مع الأزمة غير المسبوقة.

جادل محبوباني بأن الولايات المتحدة هي من أطلقت منافسة مع الصين، واتهم الإدارات الأمريكية المتعاقبة بتجاهل النصيحة التي قدمها الحكيم الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان خلال الحرب الباردة، بضرورة المحافظة على الحيوية الأمريكية الداخلية، وأن تكسب الأصدقاء في جميع أنحاء العالم، ولا تهين خصمها، وأن تكون متواضعة.

ووفقا لمحبوباني، فإن التنافس الاستراتيجي بين الصين القوة الصاعدة والولايات المتحدة قوة الوضع الراهن قد اندلع بسبب الأخطاء والمفاهيم الخاطئة وسوء الفهم من كلا الجانبين. فأولاً، ارتكبت الصين خطأً استراتيجياً فادحاً عندما نفّرَت مجتمع رجال الشركات الأمريكي، جزئيا من خلال النقل القسري للملكية الفكرية والسرقة والاختراقات السيبرانية.

في حين أعتبر محبوباني أن أمريكا ارتكبت خطأً استراتيجياً أكبر، وهو إطلاق منافستها الجيوسياسية مع الصين دون أن يكون لديها استراتيجية شاملة طويلة الأجل حول كيفية التعامل مع بلد مثل الصين، وهو أمر عبر محبوباني عن أمله أن تصححه إدارة جو بايدن، وهو ما لم يحدث.

  • • •

وينظر إلى عسكرة الصين لبحر الصين الجنوبي على نطاق واسع على أنها دليل على تراجع الصين عن وعودها بعدم توسع الصين، وهو ما قوض ثقة جيران الصين والدول الغربية في الصين. وفي رده على هذه الحجة، يقول محبوباني إن السلوك الصيني جاء رداً على تصعيد واشنطن أثناء حكم باراك أوباما من تكثيف البحرية الأمريكية لدورياتها في المنطقة، وهو ما دفع الصين عندها فقط إلى الرد بعسكرة بحر الصين الجنوبي.

وعدد محبوباني سلبيات النموذج الأمريكي، والتي لا يجهلها أحد خارج أو داخل الولايات المتحدة، مثل عدم المساواة المتفشي، وأرقام المساجين المرتفعة، وغزوات واشنطن الحمقاء حول العالم، وموقفها الانتقائي تجاه الالتزامات الدولية. ولكن محبوباني عندما يتعلق الأمر بالصين، فإنه لا يرى إلا كل ما هو جميل وواعد.

فضل محبوباني تجاهل مشكلات النسيج الاجتماعي والعرقي الصيني، وألقى قليلاً من الاهتمام بالتغييرات الديموغرافية المقلقة التي بدأت تلوح في الأفق في الصين وهي تتصارع مع شيخوخة السكان، أو فقاعة العقارات العملاقة خالية السكان.

دافع محبوباني بحماس عن الحكم الاستبدادي في الصين، وهو يرى أن الحكومة الصينية ربما تكون الأكثر جدارة في العالم، وبالتأكيد الأكثر نجاحاً في تاريخ الصين الطويل. ويرى أن البديل أمام الشعب الصيني هو الفوضى، لذا فإن الحكم المركزي القوي هو الطريقة الأكثر فعالية للحفاظ على تماسك البلاد. وروج محبوباني للقيم الصينية مقابل القيم الأمريكية، ولم يتطرق للانتهاكات الواسعة الموثقة من فرق تحقيق مستقلة تابعة للأمم المتحدة في إقليم شينجيانج الذي تسكنه أقلية مسلمة، أو أقاليم التبت، ناهيك عن قمع الحريات في هونج كونج والتهديد المستمر بغزو تايوان.

وأكد محبوباني أن الاقتصاد الأمريكي ينزلق حتماً إلى المرتبة الثانية عالمياً، لكنه لا يذكر سوى القليل من التحديات العديدة التي تواجه الاقتصاد الصيني، مثل الديون وشيخوخة السكان وضعف نمو الإنتاجية. ويزعم أن الصين أكثر رأسمالية من أمريكا، على الرغم من أن الرئيس شي جين بينج يدفع الاقتصاد نحو المزيد من رأسمالية الدولة، ويضيق الخناق على رجال الأعمال الأكثر نجاحاً في البلاد.

واليوم أصبحت الصين مندمجة بشكل كبير في الاقتصاد العالمي وتقوم بتجارة مع بقية العالم أكثر مما تفعل الولايات المتحدة. لذلك إذا حاولت الولايات المتحدة الانفصال عن الاقتصاد الصيني، فقد تنفصل فعلياً عن الكثير من بقية العالم.

وحالياً، تمتلك الولايات المتحدة أكبر اقتصاد في العالم حتى الآن بـ 23 تريليون دولار في الناتج المحلي الإجمالي لعام 2022 وفقاً لبيانات البنك الدولي، في حين أن الصين لديها ثاني أكبر ناتج محلي إجمالي عند 18 تريليون دولار.

ودفعت الإغلاقات وتبعات فيروس كوفيد السلبية على الاقتصاد الصيني لفرملة سعي الصين لتصبح الاقتصاد الأول في العالم، ويشكك كثيرون في إمكانية حدوث ذلك على الإطلاق، وأن الصين قد وصلت قمتها بالفعل.

  • • •

ليس سراً أن الصين تطمح تحت قيادة الرئيس شي جين بينج إلى دور قيادي عالمي، إلا أنه يبدو متسرعاً بشكلٍ متهور، وهو ما أدى لارتكاب أخطاء كارثية في التعامل مع فيروس كورونا، وبالتالي تسببت تلك الأخطاء في فرملة عجلة التنمية الصينية بصورة لم يتوقعها حتى الصينيون أنفسهم ممن عاشوا تجربة إغلاقات قاسية وغير إنسانية يدفعون ثمنها حتى الآن، وربما لأشهر وسنوات قادمة.

وتبقى طموحات الصين في الزعامة العالمية شرعية بلا شك، إلا أن السعي للزعامة يجب أن يوفر نموذجاً يتطلع إليه بقية العالم، شعوباً وحكومات، وكانت تجربة مواجهة فيروس كورونا، كفيلة بهز ثقة شعوب العالم، وثقة أغلب الصينيين في كفاءة نظامهم السياسي الذي أصبح معتمداً على تفضيلات شخص واحد هو شخص الرئيس شي جين بينج.

في النهاية، أنصح أي شخص لديه اهتمام جاد بالصين، أو مستقبلها الجيوسياسي، بقراءة كتب أخرى حول مستقبل الصين، بعيداً عن كتاب الدبلوماسي السنغافوري.

* كاتب صحفي مصري متخصص في الشؤون الأمريكية

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.