الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

تصعيد الأزمة الأوكرانية

بشير عبد الفتاح *

بين ثناياها، حملت الأشهر القليلة المنقضية، إرهاصات استراتيجية ثلاث لتصعيد الأزمة الأوكرانية. فروسيا، جنحت موسكو لاستخدام «سلاح الشتاء القاسي» لتركيع كييف. حيث يعكف الجيش الروسي، منذ بداية أكتوبر الماضي، على توجيه ضربات مكثفة وموجعة، بالصواريخ والمسيرات، للبنى التحتية الأوكرانية؛ من مصادر الطاقة، وشبكات الكهرباء، ومنظومات التدفئة. فيما اعتبره الأوكرانيون والغرب إحباطاً عسكرياً روسياً، وانتهاكاً لاتفاقيات جنيف يرقى إلى جرائم الحرب؛ بينما ارتآه محللون استراتيجيون محاولة من بوتين لحمل الأوكرانيين على الانخراط في مفاوضات تنهي المواجهات، وفقاً لإرادته. وبعد مرور عشرة أشهر على اندلاعه، شهد خطاب الكرملين بشأن الصراع في أوكرانيا تحولاً لافتاً. فلأول مرة يستخدم الرئيس، بوتين، كلمة «حرب» للإشارة إليه، بدلاً من توصيفه، المصمم بعناية، باعتباره «عملية عسكرية خاصة». فيما بات القادة الروس يتحدثون عن نهاية عملية «إصلاح أوكرانيا»، وبداية «الحرب الوجودية» ضد الناتو والغرب.

أوكرانيا، وفي مسعى منه لنقل العمليات إلى العمق الروسي، بدلاً من إدارة المعركة في الخطوط الأمامية على أراضيه، استهدف الجيش الأوكراني مواقع استراتيجية خلف الخطوط الروسية. حيث شن هجوماً مضاداً، كبد نظيره الروسي خسائر فادحة، أجبرته على الانسحاب من محيط العاصمة كييف، ثم من منطقة خيرسون الغربية. وفي نيسان/ أبريل الماضي، نجح في إغراق الطراد «موسكوفا»، الذي يُعد مفخرة الأسطول الروسي بالبحر الأسود. وفي تشرين الأول/ أكتوبر الفائت، تمكن من تفجير «جسر كيرتش» بشبه جزيرة القرم، والذي يحتل مكانة استراتيجية خاصة لدى الرئيس بوتين. وفي مطلع الشهر الحالي كانون الأول/ ديسمبر، أعلنت روسيا إسقاط مُسيرة أوكرانية، بعدما أحدثت انفجاراً هز مدينة سيفاستوبول الإستراتيجية بإقليم القرم، الذي يحتضن المقر الرئيس لأسطول البحر الأسود الروسي، منذ العام 2014.

وبعدما نجح الجيش الأوكراني في تحديثها، وتأهيلها للتحليق مئات الأميال في أجواء روسيا، متحدية أنظمتها الدفاعية. شنت مسيرات أوكرانية، سوفيتية الصنع، من طراز «تو 141»، هجمات على قاعدتين روسيتين بمحيط العاصمة موسكو، هما؛ «دياجيليفو»، و«إنجلز»، التي تُعد ثانية قاعدتين استراتيجيتين للقاذفات تحويان القدرة النووية الروسية المحمولة جواً، وتقدمان الخدمة المتكاملة للقاذفات المخولة بشن الهجمات على أوكرانيا. وقد أسفرت الهجمات عن تدمير طائرتين، وإعطاب أخريات، فضلاً عن قتل ثلاثة جنود روس وإصابة أربعة آخرين. وبعدها بيوم واحد، تعرض مطار بمدينة كورسك الحدودية، لهجوم بمُسيّرة أوكرانية. وبقدر ما يُنذر استعداد كييف لنقل العمليات داخل العمق الروسي، بتنامي مخاطر تصعيد الحرب، فإنه لا يخلو من إشارات على تلقي الأوكرانيين منظومات تسليحية غربية أكثر تطوراً، ربما تمكنهم من تغيير وجهة الصراع.

أما أطلسياً، فلم يعد خفياً تورط الناتو التدريجي في الحرب الأوكرانية. ففي حين ناشد رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، بوريس جونسون، الغرب تزويد أوكرانيا بأنظمة تسليحية هجومية لتسريع إنهاء الحرب؛ لم تستبعد مصادر روسية، ضلوع دوائر استخباراتية بريطانية، سبق لها رقمنة خريطة روسيا، في الهجوم الأوكراني على قاعدتي؛ «دياجيليفو»، و«إنجلز» الروسيتين؛ فيما اعتبرته بريطانيا دليلاً على فشل الأنظمة العسكرية الروسية. حيث نفذته مسيرات سوفيتية، أشرفت على تحديثها الاستخبارات البريطانية، مستعينة بأقمار اصطناعية غربية لتحديد مساراتها وإحداثياتها بدقة متناهية.

استجابة لإلحاح كييف المزمن، على واشنطن لإمدادها بنظام دفاع جوى بعيد المدى، بغية وقف الاستهداف الروسي للبنية التحتية الأوكرانية، وتأمين المجال الجوي لجبهة الناتو الشرقية، قررت إدارة بايدن، إبان زيارة زيلينسكي لواشنطن، منحهُ حزمة مساعدات عسكرية جديدة تقارب الملياري دولار، وتشمل نظام الدفاع الصاروخي «باتريوت».

مع دراسة تزويده «ذخيرة الهجوم الإلكتروني المباشر المشترك» “JDAM”، الموجهة بالأقمار الاصطناعية، وتتيح تحويل الذخائر الجوية غير الموجهة، إلى «قنابل ذكية»، يمكنها استهداف المواقع العسكرية الروسية بدقة مذهلة. غير أن حصول كييف على نظام «باتريوت»، يصطدم بتحديات عديدة، لعل أبرزها: حاجة الأوكرانيين إلى زهاء عام من التدريب، على تشغيله وصيانته، ومراكمة الخبرات لإدماجه في نظامهم الدفاعي. وبينما لم يتم الإعلان عن عدد البطاريات التي ستتلقاها كييف، إلا أنه سيتم تدريب مئات الأوكرانيين بقاعدة للجيش الأمريكي في «جرافينوير» بألمانيا. كذلك، تعد «باتريوت» من أغلى المنظومات الصاروخية، إذ تتخطى كلفة المجموعة حديثة الإنتاج مليار دولار، منها 400 مليون للنظام، و690 مليوناً للصواريخ داخل البطاريات. الأمر الذي يجعل استخدامها لإسقاط الصواريخ التكتيكية، أو المُسيرات زهيدة الثمن، ضرباً من العبث الاستراتيجي.

وبخصوص الفعالية، يمكن لنظام «باتريوت»، الذي لن تتسلمه أوكرانيا قبل بضعة أشهر، توفير الحماية الكاملة لقاعدة أو منطقة عسكرية، وليس لمدينة ضخمة مثل كييف، مثلما لا يستطيع تغيير مجريات الحرب. فلربما يكون فعالاً ضد أنواع معينة من الطائرات المقاتلة، وصواريخ «كروز»، أو بعض الصواريخ الباليستية قصيرة المدى. لكن فعاليته تبقى، غير مؤكدة، حيال الصواريخ الروسية المتقدمة، لا سيما الفرط صوتية منها، علاوة على مُسيرات «الكاميكازي» الإيرانية. لا سيما إذا نجحت موسكو في إرباك واستنزاف المنظومة الأمريكية بعاصفة من المقذوفات والمُسيرات متواضعة الكلفة.

وفيما يتصل بالرد الروسي، فقد حذرت موسكو من العواقب الوخيمة للمسار الغربي بشأن توسيع النطاق، ورفع المستوى التكنولوجي للدعم التسليحي لأوكرانيا. بما يشكل تحدياً لموسكو، وتهديداً للأمن العالمي. كونه يطيل أمد الحرب، ويفاقم خطر التورط الأمريكي والأطلسي المباشر فيها، بينما يتيح لكييف عبور «جُزرها الدفاعية المنعزلة»، صوب إنشاء نظام دفاع جوى «متعدد الطبقات»؛ يشمل؛ بطاريات «باتريوت» بعيدة المدى، و«ناسامز»، و«أيريس» متوسطتي ​​المدى، و«كروتال» وأخريات غربيات قصيرات المدى. فهنالك، سيتسنى لأوكرانيا إغلاق سمائها، وتقويض السيادة الجوية الروسية. وبناء عليه، هددت موسكو بأن تكون منظومات «باتريوت»، «أهدافاً مشروعة» للقوات الروسية، شأنها شأن جميع الأنظمة التسليحية الغربية بأوكرانيا. في حين لم يستبعد خبراء غربيون استيلاء الروس عليها، وإخضاعها لعملية هندسة عكسية.

بينما يُغدق الحلفاء الغربيون، على أوكرانيا بالتمويل، والتدريب، والتسليح، تطالب كييف بدفاعات جوية أكثر تطوراً، لحرمان روسيا من تكريس السيادة الجوية في مسرح العمليات، ولجم هجماتها ضد البنى التحتية الأوكرانية. بيد أن معظم حلفائها الغربيين، يُحجمون عن إمدادها بمنظومات تسليحية هجومية بعيدة المدى من دبابات، وطائرات مقاتلة، وصواريخ دقيقة التوجيه. كما تمنعها الولايات المتحدة من تطويرها محلياً، مخافة أن يرد الكرملين، إما باستخدام أسلحة نووية تكتيكية، أو باستهداف الجبهة الشرقية للناتو. وبينما أصرت واشنطن على إلزام كييف التعهد بعدم استخدام المنظومات التسليحية الأمريكية لضرب الأراضي الروسية، يتخوف البنتاجون، من أن ينقضْ الأوكرانيون عهدهم، تحت وطأة استراتيجية بوتين لاستغلال سلاح الشتاء القارس. وفي أعقاب الغارات الأوكرانية على قاعدتي «إنجلز»، و«دياجيليفو» الروسيتين، سارعت واشنطن إلى التبرؤ من الأمر، مؤكدة قيامها بتعديل مديات راجمات صواريخ «هيمارس»، وغيرها من منظومات الصواريخ التكتيكية، التي منحتها لأوكرانيا، للحيلولة دون استخدامها لمهاجمة العمق الروسي. كما  أحبطت محاولات أوكرانية لاغتيال رئيس الأركان الروسي، خلال جولة تفقدية بجبهة القتال. حيث تتشبث إدارة بايدن باستراتيجية الموازنة ما بين دعم قدرات أوكرانيا للدفاع عن نفسها داخل أراضيها، والحرص على تجنب الصدام المباشر مع موسكو.

في المقابل، أكدت صحف بريطانية، نقلاً عن مسؤولين أمريكيين، إعطاء البنتاجون الضوء الأخضر للأوكرانيين لمهاجمة الأراضي الروسية؛ انطلاقاً من تطورين استراتيجيين مهمين: أولهما، استهداف موسكو الممنهج، للبنية التحتية الأوكرانية. وثانيهما، قيام البنتاجون بتقويم مسارات الحرب، ودراسة تداعيات الدعم العسكري لكييف. فعلى إثرهما، تقلص قلق واشنطن من أن يفضى التصعيد الأوكراني، إلى تطور دراماتيكي للحرب، يؤجج مواجهة روسية ــ أطلسية. وتعني موافقة الكونجرس على تقديم 45 مليار دولار في شكل تمويل طارئ لأوكرانيا، منها 22 ملياراً، للاحتياجات العسكرية؛ أن واشنطن دعمت الجيش الأوكراني، هذا العام، بما يعادل ثلث ميزانية روسيا العسكرية السنوية، البالغة 75 مليار دولار. وبمؤازرة أطلسية، استطاعت كييف تطوير أسلحتها المستخدمة في مهاجمة العمق الروسي. فبمكونات أمريكية وأوروبية، نجحت في تحويل مُسيرة سوفيتية من طراز« تو141»، إلى صاروخ متوسط ​​المدى، يحلق لمسافة 800 كم، وتسليحه بذخيرة ضاربة. فيما تولت الأقمار الاصطناعية الأمريكية تزويده بالإحداثيات، لتحديد الأهداف والمسارات، بدقة فائقة.

* كاتب أكاديمي وباحث مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.