الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أزمات “وجودية” بالجمْلة في أروقة العصابة

دلال البزري *

لا تتوقف العصابة الحاكمة عن مَضْغ الأزمات “الوجودية”. ولا فرق هنا بين معسكرَيها، أكان “معارضاً” أم “موالياً” لمرشدها وضابط إيقاعها. إما يتكلّمون عنها في خطاباتهم، أو يحثّون إعلامهم على التكلّم: عن أنهم المساكين، يعانون من أزمة، أو محنة “وجودية”… أو يخوضون حرباً، أو معركة، أو مواجهة “وجودية”. زعماء الطوائف على رأس المُصابين وجودياً: حزب الله لأنه يحارب في سورية، جبران باسيل لأنه يعبّئ الطائفة من أجل حقوقها، سمير جعجع قبل صعوده القوي بوجه حزب الله، وليد جنبلاط لأن ابنه لا يستوفي شروط الزعامة التي أورثه إياها … إلى ما هنالك من “شخصيات” أقلّ ثقلاً، تطول لائحة أسمائها. مع استثناء وحيد هو سعد الحريري، الذي واجه في لحظةٍ أزمة يصفها محبّوه بأنها كانت معركة “أكثر من وجودية”، مع خصومه، فقرّر الابتعاد عن المشهد، والاستقالة ربما نهائياً من الزعامة التي ورثها عن أبيه، هو الآخر. إذ كانت تجربة فاشلة، وتسبّبت بتضاؤل ثروته، فضلاً عن “موت التسوية” التي عقدها مع شركائه الطارئين.

ذلك أن التكلّم عن أزمة “وجودية”، سواء أن الزعيم مُصاب بها، أو أنه يترك رجاله يصفون معاناته معها، أو يتكلمون عنها بلهجة الأسى والحزن .. إلخ… الأزمة “الوجودية” هذه هي باختصار حالةٌ يمرّ بها الفرد، أو الجماعة، تفرض عليه مراجعاتٍ محدّدة. مثل التساؤل العميق عن الدوافع التي تحفّزه على القيام بما يعمل به في المعتاد من أيامه، عن وجوده نفسه، عن خلفيات سلوكه ومعتقداته. عن معنى هذا الوجود، عن سببه، عن الذي يصنع حياته، أو يرسم ملامحها … وكلها تساؤلات تصيب المرء بقلق بالغ وألم نفسي عميق. وغالباً ما تكون الأزمات الوجودية بلا علاج، ولا إجابات، أو أن هذه الإجابات فقدت صلاحيتها، أو أنها أصيبت بما يصيبه الزمن، أي الاهتراء. لكنها، مع ذلك، تفتح نافذةً على الأوكسجين، أو توقف الدوَران حول المآسي والشقاء، ولو لبرْهة.

والحال أن هؤلاء المتأزّمين “وجودياً” لم يخرج منهم أي سؤالٍ عن أنفسهم، عن طريقتهم، عن معنى وجودهم، وإلا لكانوا تركوا الحلبة لغيرهم من زمان، فيما هم أكثر وأكثر تمسّكاً بأنفسهم وبطريقتهم. وإذا حصل أن “تساءلوا”… فإن جوابهم عن أنفسهم لا يخدش غرورهم الشارِد، إلا بالحيز الذي يتصوّرونه عن معنى وجودهم، أي حجم حصّتهم في المنْهبة – المقْتلة التي يشاركون فيها.

كان يجدر بهم أن يستخدموا الكلمات الصحيحة لوصف “حكمهم”. من أنه أتى بالخراب على لبنان، بالاهتزاز، بالفقر، بالسقوط، بالرعب، بالشك والحيرة، بالغمّ والكَرَب والانهيار والإفلاس والإجحاف والفقر والفراغ والتشنّج والعتْمة والجفاف … لو أنهم حقاً مأزمون “وجودياً”، لو أنهم تساءلوا حقاً عن معنى هذا الحكم الذي يضربون به معنى حياة المواطنين، بصفتهم “يمثّلونهم”، إثر “انتخاباتٍ”… لو أنهم وضعوا تساؤلاتهم “الوجودية”، أمام امتحان محاولات الإجابة. ولكنهم، لا… لا يفعلون. يكتفون بإطلاق الصفة “الوجودية” لأزمتهم، توسّلاً للتعاطف أو التفهّم أو التأييد. نسَفوا الكلمة، “الوجودية”، وركبوها بصفتها واحدةً من دعاماتهم، واحدةً من الصور التي ترضيهم. هم بذلك أفسدوا اللغة، كما أفسدوا كل ما كان في متناول أيديهم أو ألسنتهم. فغابَ بذلك السؤال عن صدارة المواطنين، أصحاب الأزمة الوجودية الحقيقية، المرتبطة مباشرة بحياتهم، بكهربائهم ومياههم، ولبْسهم وشربهم وأولادهم … ولها كلها أبعادٌ مضاعَفة. مع أنهم بحاجة إليها، تلك المفْردة، “الوجودية”، لوصف جحيمهم، الواقع في كل أوقاتهم: ماضيهم حاضرهم مستقبلهم … أو ليتنفسوا، لينظّفوا عقولهم من مترسِّبات ولائهم، ليصفوا ما لا يوصَف، ليجدوا العبارات المطابِقة لما هم عليه.

خذْ، مثلا، الحمْلة التفتيشية على الدوائر العقارية في كل مناطق لبنان. حملة كشفت عن فساد عظيم أصاب كل الرتب الوظيفية المنضوية تحت هذا القطاع: من أصغر عامل تنظيفٍ في هذه الدوائر، وحتى مديرها العام. الآن، لا نعرف إلى أين ستُفضي هذه التحقيقات. كم من واحدٍ يملك التغطية اللازمة من زعيمه الطائفي، وكم سيلعب التوازن بين الزعماء في تبرئة أو اتهام هذا أو ذاك من الموظفين… إلخ. والأهم في الموضوع أن موظفي هذا القطاع، برُتبهم كافة، نظّموا إضراباً عاماً احتجاجاً على توقيف بعض زملائهم من الموظفين. أي أن أزمتهم الوجودية هي من نوع: كيف يوائمون بين أنهم ضحايا فساد وجلادوه في الآن عينه…؟ هذا السؤال لم يعْبر ذهنهم. أو ربما عبَرَ… ولكن في سريرتهم.

ولا يقلّ عنهم جدارةً من الإصابة بأزمة وجودية، أولئك الذين يغادرون البلاد، نحو أية بقعةٍ من الأرض تستقبلهم، الذين تُطلق عليهم صفة “المحظوظين”. فهجرتُهم هذه هي مدعاة لانقلاب حياتهم رأساً على عقب، لا تنتظر صفة “الوجودية” كي تنْجلي … العبارات تأتي وحدها، عفوية. هؤلاء الطافشون من بلادهم، أزمتهم الوجودية مزلْزِلة، تصل إلى حدّ أنها تطرح معنى حياتهم وهويتهم وماضيهم وأخلاقهم ومعاييرهم الجمالية، طعامهم ذائقتهم مناخهم ولبْسهم، وشرابهم نومهم ولهْوهم واجتماعياتهم. والقليلون من بينهم يقرّون بهذه الأزمة، والباقون بين نكْران أو “تفاؤل” أو تغاضٍ، أو تعاطف، من بعيد، مع المافيا المصابة بها.

مصادرة الأزمة “الوجودية” لصالح العصابة الحاكمة، المسؤولة الأولى عنها، هي واحدةٌ من السرقات المسرحية المشهودة.. بصفتها غنيمة معنوية حلالاً، شهادة على البراءة، تحرم ضحايا إجرامها من حقّ الادّعاء عليها بجريمة تخريب الكلمات الوجودية، على وتيرة تدميرها البشر والحجر.

* كاتبة وباحثة لبنانية

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.