الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الاعتذار عن الاستعمار

بشير عبد الفتاح *

لسنين عدداً، عكفت الشعوب والدول التي عانت ويلات الاستعمار، على مطالبة القوى الاستعمارية السابقة، بالتكفير عما اقترفته من فظائع بحقهم إبان الحقبة الاستعمارية؛ الممتدة من حركة الكشوف الجغرافية نهاية القرن الخامس عشر، مروراً بالثورة الصناعية الأولى، خلال النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وحتى أفول ظاهرة الاستعمار الكلاسيكي، مطلع سبعينيات القرن العشرين.

تأبى الأمم المتضررة، إلا إلزام الدول الاستعمارية بتقديم ما يتجاوز إصدار بيانات شفهية للاعتراف، والتعبير عن الأسف، بحيث يتم الاعتذار، رسمياً، ودفع التعويضات الكفيلة بجبر الضرر. غير أن الأخيرة تصر على التهرب من المسؤولية، متذرعة بأن الأبناء والأحفاد، لا يجب أن يعتذروا عما فعله الآباء والأجداد. ففي حين أصدرت بعض الدول اعترافات رسمية، فيما أقرت أخرى بوقوع «أحداث معينة»، ترفض جل القوى الاستعمارية الاعتذار، مؤثرة تبني إجراءات استرضائية رمزية.

في عام 2018، اعتذرت الدنمارك لغانا، عن دور الدنماركيين في تجارة الرقيق عبر الأطلسي. وفي عام 2020، وعبر رسالة بعث بها إلى رئيس الكونجو الديمقراطية، بمناسبة الذكرى الستين لاستقلال بلاده، عبر الملك البلجيكي، فيليب، سليل الملك، ليوبولد الثاني، الذي حكم في القرن التاسع عشر، وهلك في عهده عشرة ملايين أفريقي، عن عميق أسفه، جراء الإذلال والمعاناة التي تعرضت لهما جمهورية الكونجو، طيلة 75 عاماً من الاستعمار البلجيكي. وفي عام 2021، اعترفت ألمانيا بأن مقتل ستين ألف شخص من عرقية «أوفاهيريو»، وعشرة آلاف من عرقية «ناما» في ناميبيا، على يد المستعمرين الألمان بين عامي 1904 و 1908، هو إبادة جماعية. ودون أن تعتبرها تعويضات، تعهدت برلين بتقديم «لفتة للاعتراف بالمعاناة الهائلة التي ألحقتها بهم»، تمثلت في تقديم مساعدات تنموية لأحفاد العرقيتين، بقيمة 1.3 مليار دولار، على مدى 30 عاماً.

ضمن مبادرة استثنائية، عمدت إيطاليا، أوائل تسعينيات القرن الماضي، إلى التكفير عما ارتكبته من جرائم بحق الليبيين؛ عبر الاعتذار، رسمياً، لليبيا، عن سنوات الاحتلال، مع التنازل عن مستحقات مالية لدى طرابلس، وتوقيع اتفاق لنزع الألغام التي تمت زراعتها هناك، مع تعويض المتضررين، وإقامة المستشفيات، ومراكز التأهيل. علاوة على الإقرار بانتصار الشعب الليبي في نضاله التحرري ضد الاستعمار الإيطالي. وفي عام 2008، اعتذرت روما رسمياً عن حقبة الاستعمار، على لسان رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق، سيلفيو برلسكوني، الذي تعهد بتقديم خمسة مليارات دولار، كتعويضات للدول والشعوب المتضررة، في شكل استثمارات على مدى 25 عاماً. وفي خطوة مشابهة، قدم رئيس الوزراء الهولندي، مارك روته، نهاية الشهر الفائت، اعتذاراً رسمياً، عن دور بلاده في العبودية، التي اعتبرها جريمة ضد الإنسانية. رغم أنها أسهمت في تمويل «القرن الذهبي» الهولندي، الذى شكل فترة ازدهار للتجارة البحرية إبان القرنين السادس عشر والسابع عشر؛ حينما ضحى الهولنديون في نحو 600 ألف أفريقي بين أفريقيا وأمريكا الجنوبية والكاريبي.

أثناء جولته الملكية بمنطقة الكاريبي، في آذار/ مارس الماضي، تحدث الأمير، ويليام، في جامايكا، عن «حزنه العميق بشأن العبودية البغيضة، التي ما كان يجب أن تحدث وتُلوث تاريخ بريطانيا إلى الأبد». لكنه واجه عاصفة من الاحتجاجات التي تطالب البريطانيين بدفع تعويضات لجامايكا عن تجارة الرقيق، وإنهاء تبعيتها للتاج البريطاني. مع ذلك، لم تستجب بريطانيا، مثلما لم تعتذر عن احتلالها لمصر أو الهند، أو حتى للشعب الفلسطيني عن وعد بلفور، الذي مهّد لإنشاء «الكيان الصهيوني الغاصب» على الأرض الفلسطينية؛ فيما احتفلت حكومة، تيريزا ماي، عام 2017، بمئوية إصداره المشئوم.

رداً منها على الإلحاح الجزائري، منذ العام 1962، للاعتذار رسمياً عن الموبقات الاستعمارية، تمادت فرنسا في تمنعها. حيث دأب الرؤساء الفرنسيون المتوالون على مناشدة الجزائريين التخلي عن مطلب الاعتذار الرسمي، مع طي صفحة الماضي ونسيانه، والتركيز على المستقبل. وما كاد الرئيس ماكرون يبدي استعداداً إيجابياً مغايراً بهذا المضمار، حتى تراجع، تحت وطأة الضغوط الداخلية، معلناً رفضه الاعتذار عن التاريخ الاستعماري لبلاده في القارة الأفريقية. مؤكداً أن الاعتذار لن يحل المشكلة، فيما يمكن للاعتراف أن يقود إلى الحقيقة؛ داعياً إلى إعادة كتابة تاريخ مشترك انطلاقاً من تلك المقاربة.

من بين عوامل شتى، تعيق اعتذار الدول الاستعمارية عن ماضيها المُشين، برأسه يطل تخوفها من الاضطرار إلى دفع تعويضات ضخمة، أو تسليم الأرشيفات ذات الصلة. خاصة أن الذاكرة الوطنية للشعوب لا تنسى، بينما لا تفرط ضمائر الأمم في تراثها. فقبل قليل، تعرض رئيس الوزراء الهندي، مانموهان سينج، لعاصفة من الانتقادات داخل بلاده، إثر إقراره بوجود تداعيات إيجابية للاحتلال البريطاني للهند، مثل شبكتها العتيدة للسكك الحديدية. وأخيراً، أشار أكاديمي صيني، إلى استمرار تموضع مرارات الإذلال الياباني لبلاده، بين طيات الذاكرة الوطنية الصينية.

من عجب، أن عزوف الدول الاستعمارية عن الاعتذار بشأن ماضيها الكولونيالي، لم يكن حكراً على حكوماتها وقادتها فحسب، وإنما امتد ليطال غالبية شعوبها. ففي فرنسا، وبعدما أبدى ماكرون، خلال حملته الرئاسية الأولى، ثم إبان أولى زياراته الرسمية للجزائر، استعداداً لتقديم تنازلات في هذا الملف الشائك. تلقى حماسهُ انتكاسة صادمة، إثر تعرضهُ لطوفان من الانتقادات والمضايقات، من لدن تيارات أقصى اليمين، ما دفعه للتقهقر، إلى حد المزايدة على اليمين المتطرف في هذا الخصوص. وفي هولندا، أظهرت نتائج استطلاع للرأي أجرته محطة تلفزة «إن. أو. إس»، قبل انقضاء العام المنصرم، معارضة نصف الهولنديين اعتذار بلادهم عن ماضيها الاستعماري.

في مؤلفهم المعنون: «زمن الاعتذار.. مواجهة الماضي الاستعماري بشجاعة»، والذي أصدرت الهيئة العامة للكتاب، ترجمة له عام 2019، يؤكد أربعة من الباحثين والمؤرخين الغربيين، أن الدول الاستعمارية الغربية لا تفتأ تستنكف التعاطي مع مستعمراتها السابقة في العالم الثالث، على ذات النحو الذي تعاملت به في اتفاقية «وايتانجي» لعام 1840. وهي التي هندست العلاقات بين الحكومة النيوزيلندية وشعب «الماوري»، أو سكان البلاد الأصليين. كما مهدت السبيل لاعتذار ملكة بريطانيا ورئيس نيوزلندا، له فيما بعد. فقليلة هي الدول، التي قدمت اعتذارات لفظية، يشوبها الالتباس، للدول النامية، عن ماضيها الاستعماري. إذ لم تصغها في وثيقة رسمية واضحة، تستتبع التزامات قانونية صارمة، بتعويضات مالية، لجبر الأضرار الاقتصادية والنفسية للأمم المكلومة. تلكم التي كابدت الاستعمار المزمن، والنهب الممنهج لثرواتها، والمصادرة المجحفة لسيادتها وشخصيتها الاعتبارية، والإعاقة المقيتة لتنميتها المستقلة.

ينحو الخطاب الغربي التقليدي، الذي ساد منذ عصر التنوير، ونهض على أساسه مشروع الحداثة الغربية، باتجاه التفرقة بين البربرية، التي تميز شعوب العالم قاطبة؛ والمدنية، التي يستأثر بها الغرب منفرداً، بعدما خرج مُظفراً من غيابات ظلاميّة القرون الوسطى. ليطرق أبواب الثورة الصناعية، مزوداً بالعلم والتكنولوجيا، وبالآلة الحربية الحديثة، التي خولته الاضطلاع بأشرس هجمة استعمارية في التاريخ الحديث، حيال العالم الثالث. فمن رحم ذلك الخطاب العنصري البغيض، انبلجت نظرية «عبء الرجل الأبيض» لتمدين الشعوب البربرية الهائمة في جهالاتها وتخلفها!!!. ولقد شكلت تلك النظرية، وغيرها من الإدراكات المعرفية الغربية المتحيزة ضد «الآخر» غير الغربي، مبرراً إيديولوجيا لإضفاء الشرعية على الظاهرة الاستعمارية الخبيثة. وهي ذاتها، التي أنتجت الأساطير الفكرية المؤسسة للنظرية العنصرية، التي سادت طوال القرن التاسع عشر، وحتى بدايات القرن العشرين؛ فيما لم يبرأ زماننا من ارتداداتها. ففى سِفرهِ، الصادر عام 2016، بعنوان: «ثورة.. إنها معركتنا من أجل فرنسا» سلط، الرئيس الفرنسي ماكرون، الضوء على التداعيات الحضارية للاحتلال الفرنسي للجزائر، كمثل نشوء دولة جزائرية حديثة، ونمو ثروتها، وازدهار طبقتها الوسطى.

مع استمرار التقاعس الأممي عن اعتماد آلية ملزمة، قانونياً وأخلاقياً، بغية إنصاف ونصرة الأمم المتضررة من الاستعمار؛ يظل إعراض الدول الاستعمارية السابقة عن الاعتذار وجبر الأضرار، وقوداً يؤجج الكراهية، ويكرس ثقافة الصراع، وينكأ جراح الماضي، ويجتر عذابات الذاكرة التاريخية. كما يدعم تفشي الإرهاب الظلامي، ويغذي استشراء المد اليميني المتطرف. حيث يُزين للإرهابيين، حججهم الفقهية الزائفة لاستهداف غير الموالين. فيما يدبج لليمينيين الموتورين، مسوغاتهم الإيديولوجية المعوجة، لممارساتهم العنصرية والعدوانية إزاء «الآخر».

* كاتب أكاديمي وباحث مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.