الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

التعرف على السياسة السائدة في تركيا من خلال المعارضة

توران قشلاقجي *

من الضروري معرفة تاريخ المعارضة في تركيا جيدا لفهم وقراءة السياسة السائدة في البلاد بصورة أفضل. فالأنشطة التي مارستها المعارضة خلال العهدين العثماني والجمهوري، تتيح لنا إمكانية تحليل التطورات السياسية في تركيا بطريقة محكمة. في عام 1865، ظهرت في تركيا أول معارضة سياسية بالمعنى الحديث، قادها لأول مرة مصطفى فاضل باشا حفيد خديوي مصر محمد علي باشا، وكان مصطفى فاضل باشا يضع أسس أول معارضة سياسية في الدولة العثمانية عبر دعمه لكل من حركتي «العثمانيون الشباب» و«تركيا الفتاة».

ولد مصطفى فاضل باشا في القاهرة بتاريخ 20 شباط/ فبراير عام 1830 وهو الابن الثالث لوالي مصر إبراهيم باشا، وحفيد محمد علي باشا الكافالالي. تلقى تعليما خاصا في القاهرة وانتقل إلى إسطنبول عام 1845 ليبدأ العمل في المكتب المعني بالمراسلات لدى الصدارة (رئاسة الوزراء) آنذاك. وكان في تلك الفترة يتعلم الموسيقى على يد زكائي داده. عاد إلى مصر لفترة ثم جاء إلى إسطنبول من جديد عام 1851 ليتم تعيينه عضوا في المجلس الأعلى للقضاء. وفي عام 1857 ذهب إلى مصر وتولى وزارة المالية في حكومة سعيد باشا، ثم حصل على عضوية المجلس الأعلى للإصلاح برتبة وزير، وبعد توحيد مجلس القضاء والإصلاح تم منحه صفة العضو في المجلس الأعلى للقضاء، وبعدها نُقل إلى وزارة المالية بعد تقليده بوسام من الدرجة الأولى يوم 11 كانون الثاني/ يناير عام 1863 (نيشان آل عثمان).

أصبح وليا للعهد إثر تعيين أخيه إسماعيل واليا على مصر خلفا لعمه سعيد باشا (بعد وفاته). لكنه حُرم من حق تولي منصب الخديوي بسبب أنشطة قام بها إسماعيل باشا لدى الدولة العثمانية، وبعد ذلك كثف اتصالاته مع شخصيات بارزة من معارضي الحكومة، الذين أشرفوا لاحقا على تشكيل جمعية العثمانيين الجدد عام 1867 وكانوا يجتمعون بطرق سرية اعتباراً من عام 1865، مثل ضياء بك (باشا)، وعلي سعاوي، ونامق كمال. واستخدم منزل مصطفى فاضل باشا كمقر يجتمع فيه المعارضون للحكومة بقيادة الصدر الأعظم فؤاد باشا، ووزير الخارجية علي باشا. وتم عزله من منصبه في 18 شباط/ فبراير عام 1866، بعد أن علم الصدر الأعظم بالحقيقة. ونُفي فاضل باشا إلى باريس بطلب من الصدر الأعظم فؤاد باشا، وبفضل توصية من إسماعيل باشا. كتب مصطفى فاضل باشا مقالات مناهضة للدولة العثمانية في وسائل الإعلام الغربية، بدعوى تعرضه للظلم وبدأ يدافع عن الإدارة الدستورية. ثم دعا المعارضين المنفيين من إسطنبول إلى العمل معه ووفر لهم الدعم المالي اللازم. وفي وقت لاحق، نشرت رسالة (هناك خلاف على تاريخ كتابتها) تحمل توقيع مصطفى فاضل باللغة الفرنسية، موجهة إلى السلطان عبد العزيز. قدمت نسخة خاصة من الرسالة إلى نابليون الثالث، وأرسلت إلى العديد من الدبلوماسيين والسياسيين والوزراء ومحرري الصحف الأوروبيين. ونُقلت الرسالة في تلك الفترة إلى نامق كمال وزملائه أيضا ثم ترجمت إلى اللغة التركية وأصدرت بالطباعة الحجرية ووزعت. وفي 22 آذار/ مارس عام 1867 تم تقديم النص التركي لنسخة الرسالة الخاصة المكتوبة بخط يد الباشا إلى السلطان عبد العزيز، ونشر النص الكامل للرسالة في جريدة «ليبيرتي» بتاريخ 24 آذار/ مارس 1867 ونُشرت الطبعات التركية للرسالة في العام نفسه بعناوين «كتاب سياسي»، و«رسالة من باريس». كما تكفل مصطفى فاضل باشا بجميع تكاليف جريدتي «المخبر» و«الحرية» اللتين كانتا تصدران في باريس تحت إشراف القياديين المعارضين للدولة العثمانية علي سعاوي، ونامق كمال. وبذل الباشا جهودا مكثفة لضم الشباب الذاهبين إلى أوروبا للدراسة إلى صفوف المعارضة. وفي سبتمبر/ أيلول عام 1867 عاد مصطفى فاضل باشا إلى إسطنبول وتولى فيها وزارتي العدل والمالية. وفي 2 كانون الأول/ ديسمبر عام 1875 فارق الحياة في منزله بمنطقة فزناجيلار. وفي اليوم التالي، أقيمت صلاة الجنازة عليه في جامع الفاتح ودفن في مجمع ميهريشاه والدة سلطان، الذي يضم قبر أمه قرب ضريح أيوب سلطان (أبو أيوب الأنصاري). وكان لديه حينها 7 أبناء و4 بنات.

الأميرة نازلي هانم، ابنة مصطفى فاضل باشا، المولودة عام 1853، كانت من الشخصيات البارزة المعارضة للدولة العثمانية. انتقدت نازلي هانم الحكومة العثمانية في العديد من الندوات التي أقامتها في أوروبا، فقد كانت تجيد التحدث باللغات التركية والعربية والفرنسية والإنكليزية، لكنها عانت من مشاكل مادية بعد وفاة زوجها خليل شريف باشا، وعلى إثر ذلك خصص لها السلطان عبد الحميد منزلا وراتبا شهريا. وزارت في عام 1880 دولا في أوروبا وافريقيا بينها فرنسا والمجر والمغرب والسودان. وفي عام 1896 ذهبت إلى تونس لزيارة أختها وتعرفت هناك بخليل بوحاجب، أحد أهم شخصيات حركة «الشباب التونسي»، وتزوجت منه في 5 نيسان/ إبريل عام 1900. قضت نازلي هانم آخر 13 عاماً من حياتها في تونس، وفارقت الحياة في القاهرة عام 1913.

خلاصة الكلام؛ كما رأينا أعلاه، كان مصطفى فاضل باشا، قائد وراعي المعارضة الأولى في الدولة العثمانية. وكانت ابنته نازلي هانم، من أولى النساء المعارضات. دافع مصطفى فاضل باشا عن الحكم الدستوري، وكان من أوائل السياسيين الذين دعوا إلى العلمانية التي تعني فصل الدين عن الدولة، وطالبوا بالانتقال إلى اللاتينية في اللغة العثمانية. سوف نواصل الحديث عن المعارضة في العهدين العثماني والجمهوري في مقالنا التالي.

* كاتب تركي

المصدر: القدس العربي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.