الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

اسكتش الورقة البيضاء وانتظار الروح القدُس

محمد حجيري *

في زمانه، عندما كان الرئيس الراحل الياس الهراوي يُسأل عن أسباب أخذ رأي الوصاية السورية في كل شاردة وواردة، حيث كان يجيب: “لأن اللبنانيين لم يبلغوا بعد سن الرشد”…

لم يكن الهراوي مخطئاً في حينها، بغض النظر عن جحيم الوصاية السورية وعصا غازي كنعان وكرباج رستم غزالي، والجدل الذي رافق مقولة الهراوي من السياديين والمثقفين. لكن في المجمل يبدو أن السياسيين اللبنانيين (قشة لفة، من الاقطاعيين إلى الملشياويين إلى التغييريين)، إن لم نقل لم يبلغوا “سن الرشد”، فهم عاجزون، أو يتقصدون العجز عن الوصول إلى مكان، في معظم المسائل الحياتية والاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية، بسبب سياسية الكيدية والنهب المبرمج أو “المناهبة” بحسب التعبير الثقافوي الدارج…

سئمنا من الكلام عن الكهرباء، وخطط الوزراء و24 على 24، والفيول الايراني والنفط العراقي والغاز المصري والميغاوات الأردني وقرض البنك الدولي وتسليف المصرف المركزي وتصريحات ندى بستاني البلهاء ووعود نجيب ميقاتي الجوفاء وتوقيعات وزير المالية الرعناء. بالمجمل ليست وزارة الطاقة في لبنان إلا مغارة علي بابا…

ومع انهيار العملة الوطنية اللبنانية، أو سقوط ورقة التوت المتمثلة في تثبت سعر صرف الدولار، بات كل شيء في هذا البلد، يشبه كهرباء لبنان، أو بمعنى آخر العتمة، من التعليم إلى الوظائف الى الطبابة إلى الضمان إلى النقل إلى البيئة إلى البلديات إلى السياحة إلى الراوتب إلى القضاء إلى القدر إلى المستقبل.

وأقطاب الجمهورية عاجزون عن أبسط الأمور، فقط يتشاطرون في تسوّلهم ومد أيديهم في العواصم العربية والدولية.

السياسيون عاجزون عن إضاءة لمبة، وعاجزون في لجم فوضى الدولار والتهريب، وعاجزون عن انتخاب رئيس.. والملف الرئاسي، ذاك الموضوع الشائك منذ القدم، تحوّل مسرحية، وازداد تعقيداً منذ العام 2005، أي منذ لم يعد للجانب السوري اليد الطولى في تعيين الرئيس. عدنا إلى عقود خلتْ. نعرف كواليس انتخابات الرئاسة والتدخلات الخارجية، والصراعات الداخلية. لم يخرج بشارة الخوري من القصر من دون أزمة، ولم يخرج كميل شمعون من الرئاسة من دون أزمة، وخاض بشير الجميل “أطول انقلاب” ليصل الى الرئاسة، ولم يصل الى القصر، وخاض ميشال عون حروبه شمالاً ويميناً ليبقى في القصر، فكان أن سيَّدَ النظام السوري على لبنان.

بعد اتفاق الطائف صار التعيين يجري في دمشق. لكن، منذ 2005، بعد الانسحاب السوري، لم يتلقف السياسيون اللبنانيون الفرصة لإدارة أنفسهم بأنفسهم، أصبحوا في انتظار جولة لهذا المندوب الغربي من جهة، أو في ترقّب لما سيقوله أمين عام “حزب الله” من جهة ثانية، كأن لبنان انتهى من وصاية أحادية سورية إلى وصايات غربية عربية إيرانية. صحيح أن “حزب الله” يسيطر في الموضوع الاستراتيجي وقرار الحرب والسلم، لكن في الواقع، بتنا في ولايات لبنانية متناقضة، بتنا في بلد ينتظر غودو. مشهد الوصايات واللارُشد السياسي اللبناني يتجلى في أزمة انتخاب رئيس للجمهورية، رغم أن السياسيين المسيحيين يصرحون في الطالع والنازل والشاردة والواردة بأن رئيس الجمهورية أصبح بلا صلاحيات بعد اتفاق الطائف، لكنهم في سباقهم، وجموحهم في السباق الى الرئاسة، يتصرفون وكأن رئيس الجمهورية هو الجمهورية، من اتفاق مار مخايل إلى اتفاق معراب، إلى التسوية الرئاسية بين عون والحريري، كلها صولات وجولات زادت من الفراغات… خاض عون أطول تعطيل من أجل الكرسي، ولم تكن رئاسته إلا فصلاً ثانياً من الفراغ الجحيمي، واليوم تكتمل المسرحية مع صهره وخصومه وحلفائه. كلهم شركاء في صناعة الفراغ، كلهم ممثلون في مسرحية مجلس النواب في اسكتشات الورقة البيضاء في المرحلة السوداء وهذا الاسم وذاك الاسم.

نعود إلى الراحل الياس الهراوي، اذ سألته إحدى المذيعات، بعد قرابة سنة من انتخاب الرئيس إميل لحود خَلَفاً له، وكان قد بدأ “الود المفقود” بينهما يزداد فقداناً: مَن اختار الرئيس لحود لرئاسة الجمهورية؟ أطرق الرئيس الهراوي لحظةً، ثم أجاب بنبرته الزحلاوية: “مين اختار الرئيس لحود؟… الروح القُدُس”! وكأننا اليوم ننتظر أرواح القُدُس، في عواصم العالم.

* ناقد وروائي لبناني ورئيس القسم الثقافي في صحيفة المدن

المصدر: المدن

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.