الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الحنين إلى تيتو.. عبدالناصر وعصره

عبد الله السناوي *

كأن بلجراد تطالع وجهها القديم في فيلم وثائقي. بدت المفارقة حادة بين ما كانت فيه وما أصبحت عليه، بين الصعود والتهميش.

الفيلم الوثائقي، الذي لم يتسن أن يعرض حتى الآن في بلاده، أقرب إلى قصيدة حنين إلى الزعيم اليوغوسلافي الراحل «جوزيب بروز تيتو» بعد أكثر من أربعة عقود على وفاته.

استدعت مخرجته «ميلا تورا جلك» أرشيفاً مهجوراً في رحلة البحث المضني عن المجد الذي كان قبل أن تضمحل الأدوار وتتفكك يوغوسلافيا بعد ثلاثين عاماً من انعقاد قمة عدم الانحياز الأولى في عاصمتها.

في كل استدعاء للوثائق المصورة كادت أن تسأل: هل نسينا تاريخنا حين كانت بلجراد مركزاً للعالم الثالث مطلع ستينيات القرن الماضي.. تتحدى القوى العظمى.. تلهم وتقرر؟

إذا ما طرحنا السؤال نفسه على الذاكرة الوطنية في مصر، التي قادت مع يوغوسلافيا والهند حركة عدم الانحياز، وتحملت أكثر من غيرها مسؤولية دعم وإسناد حركات التحرر الوطني، فإن الإجابة لن تختلف كثيراً.. «نعم نسينا!».

إذا ما طرح على الذاكرة المُعتلة سؤالاً بديهياً: «من يستحق أن يوصف بالبطل الأول في معركة تصفية الاستعمار، التي استدعت تأسيس حركة عدم الانحياز في سنوات الحرب الباردة، فإن الإجابة التي يصعب أن ينازع فيها أحد.. «إنه جمال عبدالناصر». بتعبير الزعيم الإفريقى «نيلسون مانديلا» فهو: «زعيم زعماء أفريقيا».

لم تكن مخرجة الفيلم الوثائقي قد ولدت عندما استضافت بلجراد لستة أيام القادة الكبار لحركة التحرر الوطني ذلك المؤتمر التأسيسي، لكن قوة الحنين إلى سنوات المجد استدعت صورة «تيتو» إلى الذاكرة.

بالوثائق المصورة يروي الفيلم قصة ما جرى في بلجراد، قبل وبعد، المؤتمر التأسيسي، كيف تدفقت المشاعر في الشوارع وآلاف المواطنين يحاصرون مقر الاجتماع التاريخي، وأجهزة الراديو تنقل إليهم ما يحدث داخله، من مداخلات وكلمات لأبطال التحرر الوطنى في العالم الثالث.

في ذلك المؤتمر جرى الاعتراف لأول مرة بدولة الجزائر الحرة قبل أن تحصل على استقلالها.

كان ذلك تحدياً لا يستهان به في وقته وحينه.

مال الفيلم إلى فرضية رئيسية، لها أدلة وعليها شهود، أن الدور الذي لعبته بلجراد في تأسيس وقيادة حركة عدم الانحياز وتحدي الغرب في سنوات الحرب الباردة، بجوار القاهرة ونيودلهي، أحد دواعي تفكيك يوغوسلافيا وجرها إلى مستنقعات الدم.

إنه الانتقام بأثر رجعي من ذلك الدور التاريخي.

باليقين فإن خلل البنية الداخلية السبب الرئيسي لما جرى ليوغسلافيا السابقة من تمزقات واحترابات عرقية دامية، لكن فكرة الانتقام شبه مؤكدة ونالت قيادات ودولاً أخرى على رأسها مصر.

لم يكد «عبدالناصر» يعود إلى القاهرة بعد الإنجاز التاريخي لـ«قمة بلجراد» حتى ضرب الانفصال الوحدة المصرية السورية فى نفس الشهر (سبتمبر 1961).

كانت تلك ضربة على العمود الفقري لمشروع الوحدة العربية.

بعد شهور قليلة كانت ردة الفعل التاريخية مدوية بانتصار الثورة الجزائرية، التي حظت بدعم لا نهائي من «عبدالناصر» و«تيتو» وباقي زعماء حركة عدم الانحياز.

في عام (1966) جرى التخلص من الزعيم الإندونيسي «أحمد سوكارنو»، أحد القادة الكبار في حركة عدم الانحياز، بانقلاب عسكري رعته الاستخبارات الأمريكية، وجرى تخلص مماثل من الزعيم الغاني «كوامي نكروما»، الذي ترجع إليه أكثر من غيره فكرة «الوحدة الأفريقية».

فى ذلك العام المنذر أبلغ وزير الخارجية الباكستاني «ذو الفقار علي بوتو» الرئيس «عبدالناصر»: «أرجوك أن تعرف أنهم خارجون لاصطيادك يا سيدى».

كان التخلص من «عبدالناصر» على رأس الأولويات الأمريكية في إدارة «ليندون جونسون».

كان الوصف الأمريكي لعملية (1967) دالاً على أهدافها: «اصطياد الديك الرومي»، الذي يتيه بقيادته لحركات التحرر الوطنى وتصفية الاستعمار.

بالمقام الأول فإن الهزيمة العسكرية تعود لأخطاء جوهرية في بنية النظام الناصري، لكن استبعاد فرضية الانتقام تجهيل بالتاريخ كما جرى فعلاً.

بعد رحيل «عبدالناصر» اشتدت حملات الانتقام لتصفية إرثه التحرري والاجتماعي حتى الآن.

في سنوات الصعود والمجد احتلت مصر مكانة دولية مؤثرة كأحد المراكز الفاعلة في النظام الدولي، التي لا يمكن تجاهلها، وكانت قيادتها لحركة عدم الانحياز تعبيراً عن مدى نفوذها في العالم الثالث.

الشعوب لا تعيش على التاريخ، لكنه قد يُلهم فكرة الإرادة والقدرة على التغيير واكتساب المكانة.

وقد كان الانتقام من إرث «تيتو» مروعاً، لكنه انتظر حتى رحيله في (4) أيار/ مايو (1980).

كان «تيتو» زعيماً استثنائياً، شعبيته ما زالت ماثلة في يوغوسلافيا السابقة رغم كل ما جرى لها وبها من احترابات أهلية مُرعبة أنهت وجودها كدولة موحدة.

قاد المقاومة المسلحة ضد النازية أثناء الحرب العالمية الثانية، وَحّد بلاده، انفصل عن الاتحاد السوفييتى ولم يقبل معونات من الغرب، أيّد الثورة الجزائرية بكل ما يملك من قوة ودعم الجيش المصري أثناء حرب (1973) بمائة دبابة.

الفيلم أقرب إلى بحث في أرشيف يضم آلاف التسجيلات الفيلمية التي تابعت حركة «تيتو» في سنوات المجد.

اختير يوم واحد في التاريخ لبناء الفيلم، ما جرى قبله وبعده. إنه يوم إعلان حركة عدم الانحياز من بلجراد.

فكرة عدم الانحياز تعود إلى رئيس الوزراء الهندي «جواهر لال نهرو»، «عبدالناصر» أعطاها الديناميكية وعمقها الإفريقى، و«تيتو» أضفى عليها امتداداً أوروبياً له وزنه وتأثيره.

ربطت «عبدالناصر» و«تيتو» علاقة قوية وراسخة، كأنهما يعرفان بعضهما منذ زمن طويل، كما يقول «ستيفان لابودوفيتش» المصور المفضل للزعيم اليوغوسلافي الراحل، الذي تابعه في كل مكان ذهب إليه.

هو الراوي الرئيسي لقصة ما جرى، الآن يكاد يقترب عمره من التسعين، ذاكرته تسعفه، ومشاعره حاضرة في الشرائط التي صورها بنفسه.

لم يكن محض مصور، إنه رجل صاحب حلم ومشروع، يعتقد في صحة توجهات «تيتو» ويخلص لها.

أرسله «تيتو» لتصوير وتوثيق أعمال المقاومة المسلحة في الجزائر، قضى فيها ثلاث سنوات، حتى يمكن استخدام المادة الفيلمية في عرض قضية التحرير على العالم.

في متحف الثورة الجزائرية قسم خاص لصور منسوبة إليه.

كان لافتاً أن قدامى المجاهدين الجزائريين، الذين تحدثوا في الفيلم الوثائقي، أشادوا بيوغوسلافيا ودورها ووصفوا فريق العمل بـ«اليوغوسلافي»، فيما المخرجة نفسها تقول صراحة: «أنا أفضل أن يناديني الناس كيوغوسلافية لا كصربية».

بعض ما احتواه الفيلم من صور وتسجيلات لم يسبق لأحد في مصر وعالمها العربي أن أطل عليها، أو وصل إلى علمه أنها محفوظة بأرشيف في بلجراد.

بدت تغطية مصور «تيتو» لأعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة مطلع الستينيات، التي حضرها «تيتو» و«عبدالناصر» و«نهرو» و«سوكارنو» و«نكروما» و«فيدل كاسترو» وبقية قادة التحرر الوطنى فريدة بصورها النادرة ولمساتها الإنسانية ومعانيها التاريخية.

على مائدة واحدة التأم قادة العالم الثالث في نيويورك بمقر البعثة الأممية اليوغوسلافية.

بدا العالم كله منتبهاً لما يحدث، التاريخ يتغير، العالم الثالث ينهض، وحركات التحرير تملي كلمتها.

بذلت المخرجة مجهوداً مضنياً حتى يكون ممكناً تركيب الأصوات على الصور.

في بلجراد حاكم «عبدالناصر» الإرث الاستعماري الذي بنى نهضته على نزح ثروات البلدان الأفريقية والأسيوية، وأشار «نكروما» إلى «إننا غالبية العالم» وسط تصفيق القادة الآخرين.

لماذا عُقد ذلك الاجتماع التاريخي في مقر البعثة اليوغوسلافية؟

كانت إجابة «بوديمير لونشار» آخر وزير خارجية يوغوسلافي بنصها ورسالتها إلى الذاكرة التي كادت أن تُمّحى: «تيتو أقدم القادة، الوحيد الذي حارب في الحرب العالمية الثانية، ومكانة بلاده تخولها أن تحتضن الاجتماع، الذي استبق إعلان حركة عدم الانحياز من بلجراد في العام التالي».

وثّق الفيلم لعنصرية مقيتة سادت الإعلام الغربي، الأمريكي والفرنسي على وجه الخصوص، في تغطيته لذلك الاجتماع التاريخي حيث جرى التلاعب بصور «ستيفان لابودوفيتش» لوصف اجتماع قادة العالم الثالث بـ«حديقة الحيوانات»، و«عبدالناصر» نفسه بـ«المتعالى» و«المتغطرس».

بصورة أو أخرى فإن القادة الكبار الذين جلسوا يومها على مائدة اجتماع واحدة في نيويورك جرى تصفيتهم واحداً إثر آخر.

إنها حرب معلنة امتدت في الزمن حتى نكفر بفكرة التغيير والثورة ووحدة العالم الثالث وأية قيمة إنسانية استدعت ذات يوم تأسيس حركة عدم الانحياز، التي تحولت اليوم- بتعبير الفيلم الوثائقي- إلى «بيت أيتام»، غير أن المعاني الكبرى لا تموت والقيم الإنسانية لا تنمحي وذكرى الرجال الكبار لا تغادر المكان مهما امتدت الحرب على الذاكرة الوطنية.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.