الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

لماذا تنهار الدول؟

معقل زهور عدي

ثمة مثالان في التاريخ العربي الاسلامي في إظهار السبب الحاسم لانهيار الدولة, صحيح أنه قبل الإنهيار تمر الدولة بمرحلة انحدار تطول أو تقصر وفق الظروف التاريخية المحيطة بكل دولة, لكن في النهاية وحين تتعرض لامتحان جدي تسقط كشجرة جوفاء ترمي بها الريح العاصفة مرة واحدة .

– إنهيار الدولة الأموية؛ بدأت الخلافة الأموية مع معاوية بن أبي سفيان عام 40 للهجرة واستمرت اثنتان وتسعون سنة حتى العام 132 للهجرة حين استولى العباسيون على الحكم وقُتِل مروان بن محمد آخر خليفة أموي.

وقد كانت الخلافة الأموية حافلة بالانجازات الكبرى، كما كانت حافلة بالصراعات الداخلية العنيفة، وفيها تمكن العرب لأول مرة في التاريخ من تأسيس امبراطورية عالمية امتدت من تخوم الصين شرقاً الى جبال البيرينيه غرباً والتي تفصل فرنسا عن اسبانيا الحالية.

وفيما أسفرت تلك الفتوحات الكبيرة التي تمت في فترة زمنية قصيرة عن اتساع رقعة الدولة وتدفق الثروات نحو خزائنها في دمشق، وتوجيه الطاقات العسكرية للقبائل العربية نحو الخارج بدلاً من الاقتتال فيما بينها، فقد أدت أيضاً الى تبعثر قوى الدولة وخلق فرص لدعوات التمرد والثورة خاصة في المناطق البعيدة عن المركز مثل خراسان.

وفي المراحل الأولى من عمر الدولة الأموية فقد تمكنت بحيويتها وبفضل قادة امتازوا بالقدرة السياسية والحنكة والعزيمة أمثال معاوية بن أبي سفيان وعبد الملك بن مروان من صنع انجازاتها الكبرى في ذات الوقت الذي واجهت فيه الثورات الداخلية التي لم تهدأ قط، فاستمرت الفتوحات عبر شمال افريقيا وصولاً للأندلس، وفي الشرق نحو السند وما وراء النهر، واستطاعت الدولة احباط الغارات المستمرة للامبراطورية البيزنطية التي هدفت لاستعادة مافقدته تلك الامبراطورية في بلاد الشام على يد العرب المسلمين. بل إن جيوش الدولة الأموية اقتحمت أراضي الامبراطورية البيزنطية واستولت على عدد من الحصون والمدن داخلها وطرقت أبواب القسطنطينية في عهد معاوية ثم في عهد سليمان بن عبد الملك قبل أن تتراجع عنها نحو شمال بلاد الشام.

لكن الأمور اختلفت في السنوات السبع الأخيرة من عمر الدولة الأموية فقد ازدادت الصراعات الداخلية بين الأمويين على السلطة مما أضعف مركز الدولة وحط من هيبتها، خاصة بعد وفاة هشام بن عبد الملك آخر الخلفاء الأقوياء عام 125 للهجرة.

لم يكن ينقص الخليفة الأموي مروان بن محمد الحزم والدهاء للتصدي للمعارضة العباسية الصاعدة، واستطاع حشد جيش كبير للقضاء على تلك الحركة التي اتخذت من الكوفة مركزاً لها، لكن حظ ذلك الخليفة الشاب كان سيئاً، فسمعة الخلافة الأموية وشعبيتها كانت قد تدهورت بسبب الخلافات الداخلية عقب وفاة الخليفة هشام وبسبب فضائح الوليد بن يزيد الذي تولى الخلافة بعد هشام وأثار موجة عارمة من الاستياء لسلوكه المتهتك كما قيل، وقد وصل الأمر إلى قتله برضى من بعض إخوته. إلّا أن قتله أحدث المزيد من الانقسامات داخل البيت الأموي. كما أن جفوة القبائل الشامية اليمانية الحُكمَ الأموي وانفصالها عنه- وهم كانوا دائماً السندالرئيسي له- بلغ ذروته في ذلك الوقت.

وهكذا فحين التقى على ضفاف الزاب الكبير- أحد فروع دجلة- مروان بجيشه مع أبي مسلم الخراساني لم يلبث جيش مروان أن تفكك وخار أمام عزيمة وحماس جيش العباسيين، وانهزم مروان في انسحابات متتالية إلى الموصل التي لم تستقبله ثم إلى حمص فأقام فيها مدة قصيرة ثم غادرها ولا بد أنه لم يجد ذلك الدعم المطلوب فيها، فدمشق وكانت فيها حامية للأمويين إلا أنها سقطت بيد العباسيين بعد حصار شهرين، ثم إلى فلسطين فمصر، وتتبَعهُ جيش أبي مسلم الخراساني إلى مصر فقتله هناك وانتهت بمقتله الخلافة الأموية.

ويمكن بسهولة رؤية مدى الانحلال الذي أصاب الخلافة الأموية في المعارك الأخيرة لمروان بن محمد، فقد كان جيشه يفوق جيش العباسيين وبعض الروايات تذكر أن عدده بلغ 120000 جندي في حين لم يكن يزيد عدد جيش العباسيين عن 25000 جندي وتذكر الروايات كيف أن قادة الفرق تخاذلوا وقت المعركة وأحجموا عن القتال حتى بعد أن قُدِّم لهم المال لإغرائهم بالقتال، كما تذكر كيف تلقى أهل الموصل مروان عند لجوئه إليها بالصد والتنديد ببني أمية والشماتة بهزيمته، وقريب من ذلك الاستقبال واجهه بحمص، وفي النهاية فقد كان يأمل في تجميع بعض القوى وفك الحصار عن دمشق ويبدو أنه فشل في ذلك وابتعدت عنه قبائل الشام وانفض جيشه عنه، والتحق قسم منه بالعباسيين، ولم يجد من يقف إلى جانبه خاصة بعد سقوط دمشق، وعندما تحقق من الهزيمة هرب وحيداً إلى مصر.

لكن العباسيين لم يكتفوا بالانتصار على الأمويين وقتل خليفتهم، فأظهروا قدراً غير معهود من سفك الدماء والتشفي حتى لاحقوا كل الأمويين وقتلوا منهم من بلغ الثالثة عشر من عمره فما فوق، ولم يتركوا سوى الأطفال والنساء.

هكذا طويت صفحة الخلافة الأموية من التاريخ بما لها وما عليها. وفتحت صفحة الخلافة العباسية.

يمكن دون عناء رؤية فقدان الحماس والتعبئة للدولة الأموية في مواجهتها الأخيرة للعاصفة العباسية, فهنا لم تعد الدولة الأموية تقنع الناس بالقتال من أجلها, سواء بسبب الفساد والفضائح التي لاحقت ملوكها في السنوات السبع التي تلت موت الخليفة هشام بن عبد الملك, أو بسبب السياسات الخاطئة التي أفقدت الدولة دعم القبائل اليمانية في الشام وكانت تلك القبائل قاعدة الدولة حين أنشأها معاوية بن أبي سفيان .

ما يهم في المحصلة أن الدولة حين تنهار تكون قد فقدت القدرة على حشد الناس وتعبئتهم للقتال من أجلها, فحين يشعر المقاتلون أنهم ربما يُضحون بأنفسهم من أجل حفنة من الفاسدين المنقسمين على بعضهم والذين لا تعود تربطهم بهم مشاعر الاحترام والقناعة بقضيتهم وأحقيتهم بالحكم عند ذلك يصبح المقاتل مستعداً لالقاء سلاحه والهرب من المعركة في أي وقت, ولا تعود الكثرة تعني ضمان الانتصار .

– في المثال الثاني هناك جيش القوط حكام شبه الجزيرة الإيبرية التي أصبحت فيما بعد بمعظمها بلاد الأندلس .

وما يستحق الوقوف عنده هو الحجم الصغير للقوى العسكرية العربية- الإسلامية التي سيطرت على شبه الجزيرة الإيبرية ففي حين قُدر جيش القوط بقيادة لذريق الذي واجه طارق بن زياد قرب نهر برباط وفق المصادر العربية بمئة ألف رجل بينما تشكك المصادر الغربية بذلك الرقم. لكن أقل عدد ذكر في المصادر الغربية لجيش لذريق كان حوالي ثلاثين ألف رجل واجهوا جيش طارق بن زياد الذي لم يزد عن 12000 رجل وانهزموا أمامه شر هزيمة تحولت إلى سقوط تام لاسبانيا بيد المسلمين.

يقول ليفي بروفانسال في كتابه ” تاريخ اسبانيا الاسلامية ” في معرض حديثه عن الفتح العربي- الإسلامي وتفسيره لذلك الفتح الذي وصف بالمعجزة وعلاقته بالأوضاع الاجتماعية والسياسية لدولة القوط الآتي: ” وبرغم كل هذا, لايوجد مثال واحد في التاريخ يخبرنا بأن دولة منظمة قد تركت في استكانة أراضيها تغتصب من قبل بعض فصائل الفرسان الشجاعة, لو كانت تنعم بالصحة وهيكلها سليم معافى, ولحكامها الهيبة والطاعة, فالفتوحات الكبرى قد صادفت دائماً تحللاً سياسياً واجتماعياً للأمم التي هبطت فوقها..” وهذا ما حدث بالفعل لإسبانيا القوطية.

تميزت الفترة الأخيرة للقوط في إيبريا باضطراب سياسي أواخر القرن السابع الميلادي, وأحد أسباب ذلك الاضطراب يعود إلى تضارب طرق انتقال السلطة بين الملوك, ففي حين بذلت محاولات للوصول الى تشريع انتقال السلطة من الملك المتوفى الى أبنائه لكن تلك المحاولات لم تصمد أمام المجلسين اللذين هما قاعدة المؤسسة الملكية القوطية, مجلس النبلاء ومجلس الأساقفة, وقد عُرف عن القوط قتل ملوكهم والتآمر عليهم, لكن عوامل أخرى لا بد أنها لعبت دوراً في انحلال الدولة القوطية وقد سبق الإشارة للانحدار الكبير في اقتصاد البلاد في تلك الفترة .

ويستفاد من الروايات التاريخية أن رجال الدين المسيحيين كانوا يشتكون من تفشي الانحلال الخُلقي خاصة عند الطبقة القوطية الحاكمة وانغماسها في الترف والمتع المادية مقابل معاناة الطبقات الوسطى والفقيرة والأرقاء من الاستغلال والأوضاع الاقتصادية الصعبة. ولعلهم وجدوا في الإسلام والمسلمين نافذة خلاص لهم, ومما يدعم ذلك الرأي الاستقرار الواضح للحكم العربي- الإسلامي, يقول سير أرنولد توماس: ” ومن الثابت لدينا أن هؤلاء المسيحيين الذين مالوا للصلح ورضوا عن طيب خاطر بحرمانهم ما كانوا يتمتعون به من نفوذ سياسي وسلطة, لم يكن ثمة ما يدعوهم للشكوى, حتى إننا لم نسمع خلال القرن الثامن الميلادي كله إلا عن محاولة واحدة للثورة من جانب هؤلاء المسيحيين المقيمين بمدينة باجة, ويظهر أنهم انضووا في ثورتهم هذه تحت لواء رئيس عربي “، وتبدو الاشارة هنا الى ثورة علاء بن المغيث الذي أرسله العباسيون لتقويض سلطة عبد الرحمن الداخل عام 146هـ وكان عاملاً على مدينة مدينة باجة ومن الواضح أن ذلك التمرد كان عملاً سياسياً بالدرجة الأولى ولا يمكن النظر إليه كتعبير عن ثورة مسيحية خاصة مع وجود علاء بن المغيث على رأس ذلك التمرد مع جيشه العباسي.

وفي كل من المثالين السابقين كان جيش الدولة التي أوشكت على الانهيار أكبر وأفضل تسليحاً من العدو الذي انهزم أمامه, لكنه لم يمتلك الإرادة والروح المعنوية والقناعة بالقضية التي يحارب من أجلها والتي لم تعد تستحق التضحية بل أصبح مصيره الفردي أهم من انتصار دولة فقدت روح الحياة .

المصدر: صفحة الكاتب على وسائل التواصل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.