الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“فورين أفيرز”: ما هو أكبر تهديد للعلاقة الأميركية-السعودية (2/2)

منى فرح *              

لم تعد السعودية “شريكاً تلقائياً” لأميركا. والعلاقة الإستراتيجية الحميمة التي سادت خلال العقود الماضية لن تعود. لكن لا يزال من الممكن إقامة تعاون محدود، حتى لو استمرت السياسات الداخلية، من الجانبين، في افتعال الصعوبات. كيف ذلك؟

تفضل السعودية دائماً أسعار نفط أعلى من تلك التي يرغب بها رؤساء الولايات المتحدة. ومع ذلك، اعتادت؛ من حين لآخر؛ الموافقة على طلبات واشنطن لزيادة العرض وضخ المزيد من النفط في السوق، وخصوصاً في الفترة التي تسبق الانتخابات الأميركية. لكن في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ذهبت كل نداءات واشنطن أدراج الرياح.

وترى الرياض أن من مصلحتها أن تستغل الفرصة قبل انتهاء عصر النفط. وعلى هذا الأساس، تهدف خطة إعادة الهيكلة الاقتصادية الطموحة لـ”رؤية 2030″، التي وضعها MBS (ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان) إلى خلق اقتصاد سعودي أكثر تنوعاً قادراً على الصمود أمام الضغوط التي يفرضها تغير المناح والانتقال إلى الوقود البديل (…). وولي العهد يحتاج إلى كل ما يستطيع الحصول عليه من نفوذ للاستثمار في القطاعات غير النفطية داخل السعودية وحماية شعبه من العواقب المؤلمة التي تفرضها سياسة الإصلاحات التي يتبعها، مثل خفض الدعم الكبير المخصص للمرافق العامة، وإدخال ضريبة القيمة المضافة بنسبة 15% على مشتريات المستهلكين.

هذا يفسر لماذا تركز السياسة النفطية السعودية على إبقاء أسعار النفط عند مستوى يمكن معه توفير التمويل اللازم لتنفيذ خطط MBS الطموحة، وفي الوقت نفسه يحافظ على مستوى ثابت من الطلب العالمي. هذه الضرورات لن تتوافق دائماً مع الجدول الزمني للانتخابات الأميركية. ومع وجود تداخل أقل بين استراتيجية واشنطن الكبرى ومخاوف السياسة الخارجية للرياض، فإن القيادة السعودية أقل احتمالاً مما كانت عليه في الماضي لتقديم أي خدمات انتخابية للرؤساء الأميركيين، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالنفط.

مثل الزيت والماء:

في الماضي، لم تحظ العلاقات مع السعودية بدعم كبير من الجمهور الأميركي، لكن كل من كان يصل إلى البيت الأبيض كان يضع على سلم أولوياته “المحافظة على علاقات قوية وجيدة” مع أكبر مُصدّر للنفط في العالم. وتطور هذا الوضع مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض.

فتاريخياً، لم يسبق أن تدخل رئيس أميركي بشكل علني في سياسة قصر الرياض. لكن ترامب فعلها: لم يُخفِ حبه للسعوديين، ولمحمد بن سلمان على وجه الخصوص. جعل الرياض أول عاصمة أجنبية يزورها، وهي خطوة غير مسبوقة من أسلافه. تفاخر، لا بل بالغ في مبيعات الأسلحة للمملكة. وفي خطوة محفوفة بالمخاطر، أعلن دعمه لمحمد بن سلمان في صراعه مع ابن عمه محمد بن نايف على الحكم (…). وراوغ بشأن تواطؤ ولي العهد في مقتل الصحافي جمال خاشقجي (…). حتى صهره وكبير مستشاريه، جاريد كوشنير، طوَّر علاقة مباشرة مع MBS خارج القنوات الدبلوماسية العادية. وحتى بعد انتهاء ولاية ترامب، تلقى استثمارات كبيرة من قبل صندوق الثروة السيادية السعودي في مشاريع خاصة (آخرها مجمع سكني فاخر وملعب غولف في عُمَان، تقدر قيمتهما بمليارات الدولارات).

بالنسبة للحزب الديموقراطي الأميركي، فإن السعوديين اختاروا أن يكونوا إلى جانب الجمهوريين، وتعاملوا معهم وفقاً لذلك. وكانت حادثة مقتل خاشقجي وقبلها حرب السعودية على اليمن قد نالتا الكثير من الانتقادات من جانب الديموقراطيين. فخلال حملته الانتخابية في عام 2020، وصف بايدن المملكة بأنها “منبوذة” (…). وعندما تولى منصبه، مارست إدارته ازدراءً علنياً بحق السعودية: فقد رفض بايدن التحدث مع MBS بشكل مباشر، وأذن بنشر تقرير لـCIA يحمله مسؤولية مقتل خاشقجي، وأصدر قراراً بتقليص الدعم للسعودية في حربها على اليمن، وسحب منها صواريخ “باتريوت” المضادة للطائرات (…).

ثم جاءت الحرب في أوكرانيا، ولاحقاً ارتفاع أسعار النفط (…). كان عزل واشنطن للسعوديين ممكناً أثناء انخفاض الطلب العالمي على النفط (فترة جائحة كورونا)، لكنها احتاجتهم عندما حاولت قطع صادرات النفط الروسية مع تعافي الاقتصاد العالمي وعودة الطلب على النفط. كانت الرياض واحدة من الجهات القليلة التي يمكنها ضخ المزيد من النفط وعلى الفور. ومع ذلك، فإن رحلة بايدن إلى السعودية لم تحقق الكثير، بل زادت من توتر العلاقات بدلاً من تهدئتها، وولَّدت المزيد من الاستياء عند السعوديين الذين اساءهم زعم البيت الأبيض بأن بايدن لم يأت للقاء ولي العهد بل لحضور اجتماع متعدد الأطراف مع دول مجلس التعاون الخليجي. حتى أن الطرفين تجادلا علناً حول ما إذا كان بايدن قد أثار قضية خاشقجي (…).

ومع ذلك فإن السعوديين أيضاً ليسوا بلا أخطاء. كان مقتل خاشقجي بالطبع جريمة لا تُغتفر. وهم احتضنوا ترامب علناً وبسخاء، وأشركوه وعائلته بمشاريع تجارية ضخمة حتى بعد هزيمته في تولي ولاية ثانية عام 2020 (برغم أن ترامب لم يُحرك ساكناً للدفاع عن المملكة عندما هاجمت إيران منشآتها النفطية عام 2019)، يبدو أن القيادة السعودية قد خلصت إلى أنها لا تستطيع الحصول على اهتمام عادل من الديموقراطيين، وأن عليها التعويل فقط على عودة الجمهوريين إلى البيت الأبيض. فعندما رفض السعوديون طلب إدارة بايدن تأجيل خفض إنتاج “أوبك بلاس” إلى ما بعد انتخابات التجديد النصفي، عزَّز ذلك الشعور بأن الرياض لا تريد أن تقدم أي خدمة للديموقراطيين.

يشكل هذا الاستقطاب الحزبي أكبر تهديد للعلاقة الأميركية-السعودية، ففي النهاية لا يمكن لعلاقات الولايات المتحدة مع الدول الأجنبية أن تستمر من قبل طرف واحد فقط.

إصلاح الأسوار:

بالنسبة لأولئك الذين يعتقدون أن السياسة الخارجية لأميركا يجب أن تمنح امتيازاً لحقوق الإنسان وتبحث عن بديل للوقود الأحفوري، فإن العلاقة المتوترة مع السعودية لا تشكل أي مشكلة. حتى إدارة بايدن، التي تولت السلطة وهي تتباهى بسياسة النأي بنفسها عن الرياض، سُرعان ما أدركت حاجتها للعمل مع أكبر مُصدّر للنفط في العالم (…). وبغض النظر عن مدى رغبة الأميركيين في الابتعاد عن الشرق الأوسط، فإن لواشنطن التزامات جيوسياسية في المنطقة: منع إيران من الحصول على أسلحة نووية، ومنع عودة الحركات الجهادية السلفية، والحفاظ على الاستقرار الإقليمي للتخفيف من ضغوط اللاجئين على أوروبا، بالإضافة طبعاً إلى ضمان أمن إسرائيل والحفاظ على علاقة مُستدامة معها. لذلك ستبقى علاقة العمل مع السعودية ضرورية.

إذا أرادت واشنطن الحفاظ على علاقة عمل مستقرة مع الرياض، عليها أولاً أن تستوعب كيف تغيرت السعودية. لقد ولَّت الأيام التي كانت فيها السعودية تقف تلقائياً إلى جانب الولايات المتحدة في القضايا الإستراتيجية الكبرى. الآن هناك الصين وروسيا تقفان في الأفق السعودي أكثر من أي وقت مضى. هذا لا يعني أن الرياض ستعمل ضد الأميركيين عالمياً، لكنها ستتعامل مع كل قضية على حدَّة. وسيتطلب ذلك من واشنطن إتباع نهج مفتوح وتشاوري، والحفاظ على قنوات الاتصال لإقناع السعوديين بوجود مصالح مشتركة تتعلق بالقضايا العالمية (…) وهذه هي الطريقة لإبقاء الرياض في الجانب الأميركي.

فيما يتعلق بالقضايا الكبرى في الشرق الأوسط، فإن واشنطن والرياض ليستا متباعدتين اليوم. فالعلاقة الوثيقة بين أميركا وإسرائيل لم تعد عقبة، بفضل الدفء في العلاقات السعودية-الإسرائيلية. فالسعوديون على استعداد متزايد للعمل مع إسرائيل، وربما أيضاً الانضمام إلى “اتفاقات أبراهام” لتطبيع العلاقات (…).

نقطة توتر أخرى تبدو أقل بروزاً اليوم، وهي أن السعوديين لم تعد تقلقهم جهود واشنطن لتقليص أنشطة إيران النووية من خلال الدبلوماسية (…). ومن المرجح أن جهود إحياء الاتفاق النووي الإيراني ستفشل. لكن واشنطن حتماً ستجد سياسة جديدة لمنع إيران من الحصول على أسلحة نووية مع الحد من نفوذها في المنطقة والمملكة لديها المصلحة ذاتها.

النقطة الثالثة هي “الإرهاب”. فواشنطن لا تزال مهتمة بمنع عودة السلفية الجهادية، والتطرف والجماعات الإرهابية (“القاعدة” و”داعش”). وفي عهد محمد بن سلمان، لم تعارض السعودية تلك الجماعات في المنطقة فحسب، بل قلَّلت أيضاً من تأثير المؤسسة الدينية السلفية داخل المملكة نفسها. فعندما تُشجع السعودية تفسيراً أكثر تسامحاً وانفتاحاً للإسلام، فإنها تقوّض جاذبية السلفية الجهادية.

النقطة الرابعة هي أسعار النفط. فرغم الخلاف حول هذا الموضوع، لا تزال المصالح الاقتصادية للبلدين متداخلة. فالحفاظ على هيمنة الدولار الأميركي مصلحة مشتركة: الرياض تسعّر نفطها بالدولار، وهذا يدعم العملة الأميركية كعملة احتياطية للعالم (…)، في حين أن إيران وفنزويلا وروسيا يحاولون أحياناً إجراء معاملات نفطهم بعملات بديلة. والسعودية تقاوم مثل هذه المبادرات، لأن أي شيء يضر بمركزية الدولار يُقلّل من قيمة الأصول المقومة بالدولار لديها، وهو أمرٌ مهمٌ بالنظر إلى حجم الأصول المالية للمملكة في الأسواق الأميركية (…).

النقطة الأخيرة، من مصلحة كل من أميركا والسعودية مواصلة التعاون في القضايا العسكرية والاستخباراتية، لما لهذا التعاون من فوائد كبيرة وطويلة الأمد للطرفين (…). فالتعاون مع السعودية في حالات الطوارئ العسكرية يزيد من الكفاءة العسكرية الأميركية في المنطقة. فإذا فشلت المحادثات النووية، على سبيل المثال، فقد تزداد فرصة المواجهة بين أميركا وإيران، وسيكون دور السعودية مهم جداً.

القبول بالآخر كما هو:

لا يمكن فعل الكثير لعكس التحول في ميزان القوى العالمي أو لتخفيف الضغط الذي تشعر به الرياض للاستفادة من النفط. لكن يمكن للبلدين تعزيز العلاقات الثنائية إذا أعاد كل جانب النظر في كيفية رؤيته للسياسة الداخلية للطرف الآخر. يجب على السعوديين أن يتخلوا عن الاعتقاد بأن الحزب الديموقراطي ضدهم والجمهوري معهم (…). تحتاج الرياض إلى بذل جهد كبير لإقناع المؤسسة الديموقراطية في واشنطن بأنها تسعى إلى علاقات جيدة مع الولايات المتحدة، وليس فقط مع الجمهوريين (…)، وهذا ممكن أن يجعل مخاوفهم بشأن التدخل السعودي في السياسة الداخلية للولايات المتحدة يمكن أن يهدأ.

بالمقابل، يجب على الديموقراطيين قبول حقيقة أن محمد بن سلمان سيكون على الأرجح الملك القادم للمملكة وسيحكم لفترة طويلة. وبالتالي لا معنى لمحاولة عزله أو الإلتفاف عليه. المدافعون عن حقوق الإنسان قد لا يستسيغون الأمر، ولكن إذا تمكن الدبلوماسيون والمسؤولون الأميركيون من التعامل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الصيني شي جين بينغ، وممثلي جمهورية إيران الإسلامية والعديد من الحكومات الأخرى (…) يمكنهم بالتأكيد تقبل محمد بن سلمان والتعامل معه.

في النظام العالمي الجديد، الذي بدأ يتشكل وفق تعددية الأقطاب، سيتعين على واشنطن بالتأكيد التعامل مع الرياض في كثير من الأحيان، ومحاولة إقناعها برؤية الأمور على طريقتها (…). إن عناصر التعاون بين النظامين لا تزال قائمة، لكن يتعين عليهما أن يضعا جانباً أحلامهما غير الواقعية في تغيير السياسة الداخلية للطرف الآخر أو حتى التأثير عليها. يجب أن يتعلم كل طرف التعامل مع الآخر كما هو وليس كما يرغب في أن يكون.

………………

– النص بالإنكليزية على موقع “فورين أفيرز”:

https://www.foreignaffairs.com/united-states/gregory-gause-kingdom-and-power-us-saudi-relationship

(**) غريغوري غوس الثالث، أستاذ الشؤون الدولية ورئيس “جون إتش ليندسي 44” في كلية بوش للإدارة الحكومية والخدمة العامة، جامعة “تكساس إيه آند إم”. وهو مؤلف لثلاثة كتب والعديد من المقالات حول الشرق الأوسط ، مع التركيز بشكل خاص على شبه الجزيرة العربية والخليج العربي.

……………………….

(انتهى)..

ـــــــــــــــــــــ

* صحافية لبنانية

المصدر: 180 بوست

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.