الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“بيروسوس”.. كاهن بابلي ما كنّا عرفنا كثيراً من التاريخ لولا كتابه

تيسير خلف *

يُعدّ المؤرّخ والكاهن الكلداني “بيروسوس” صلةَ الوصل الأُولى المعروفة بين الحضارتين العظيمتين: الرافدينية والهلنستية. فبفضل إتقانه للإغريقية والأكّادية، كان يستطيع الوصول إلى مصادر غير محدودة من الأرشيف البابلي؛ أتاحت له تقريب تواريخ ومعتقدات السومريين والأكّاديين للذهنية الإغريقية، ممّا شكّل لأجيال من المؤرّخين والمؤلّفين في العصور الكلاسيكية، مصدراً ثميناً عن تاريخ حضارة مجهولة، كان يُمكن أن تتأخّر معرفة البشرية بها أكثر من ألفي عام، أي إلى عصر الكشوف الآثارية الكُبرى في مدن العراق القديم قبل قرنين من وقتنا الراهن.

من بابل إلى جزيرة كوس:

وُلِد “بيروسوس” في مدينة بابل، أثناء حكم الإسكندر لهذه المدينة بين عامي 330 و323 قبل الميلاد على الأرجح. وبحسب ما وصل إلينا من سيرته، فقد نشأ في أسرة كهنوتية، إلى أن بلغ مرتبة كبير كهنة “بل مردوخ”، وهو أعظم آلهة البابليين. وثمّة تخريجات لغوية كثيرة لمعنى اسمه، أهمها أن اسمه الأصلي هو برعوشا، أو برعشنا، والذي يفيد معناه التعظيم. ومن الواضح أنه تعلم الإغريقية في الجوّ الذي رافق سيطرة السلوقيين على بلاد الرافدين، بعد صراع ضباط الإسكندر على وراثته. ويقال إنه كتب تاريخه “بابيلونيكا” بناء على طلب من الملك السلوقي أنطيوخس الأول سوتير (281-261 قبل الميلاد)، الذي كان يريد أن يعرف تواريخ ومعبودات وعقائد البلاد التي غدت جزءاً من مملكته. وربما هو ردٌّ على تاريخ الكاهن المصري مانيتون الذي وضع تاريخاً لمصر بطلب من ملوك السلالة البطلمية الإغريقية، كما يذهب بعض البحّاثة المعاصرين، حيث كان السلوقيون والبطالمة في حالة صراع دائم لكسب مشروعية وراثة الإسكندر، وتمثيل الحضارة الإغريقية العالمية.

ولكن؛ ما لم يجد له الباحثون المعاصرون جواباً، هو سبب انتقال “بيروسوس” من أنطاكية، عاصمة سورية السلوقية، إلى جزيرة كوس جنوبي بحر إيجة، والتي كانت تتبع للبطالمة، وتأسيسه فيها مدرسة تنجيم بدعم من ملك مصر.

قصة نشأة الخلق:

وضع “بيروسوس” تاريخه في ثلاثة كتب، وربما كان هو أول من اعتمد “الكرونولوجيا“، أي علم التحقيب الزمني في كتابة التاريخ، إذ كان المؤرّخون الإغريق قبله يعتمدون على سِير الشخصيات أكثر من اعتمادهم سجلّاً مرتّباً للأحداث، وقد ظهرت تأثيراته الكبيرة على المؤرّخين الذين كتبوا بالإغريقية واللاتينية في ما بعد، وخصوصاً أولئك المشغولين بتاريخ اليهودية والمسيحية، كما سنرى.

يروي “بيروسوس” في كتابه الأول؛ قصة الخلق وبدايات ظهور الحضارة الإنسانية وفق التصوّرات السومرية والأكّادية، فيبدأ من الإله أنوس، وهو الإله السومري آنو، ولكن على شكل رجل نصفه الأسفل سمكة، وهو وصف يختلف عن شكل الإله آنو المعروف حالياً من النصوص والمنحوتات السومرية، إذ إن فيه ملامح من الأبكالو، وهم الحكماء السبعة، وأيضاً من الإله العموري داجون. يخرج الإله أنوس من البحر، ويصل إلى بابل ليُعلّم رجالها الذين كانوا يعيشون حياة الوحوش، مبادئ الحياة المتحضّرة، من الأدب إلى الرياضيات إلى الفنون جميعها، بما في ذلك فنون عمارة المدن والمعابد، والزراعة، والقانون. قبل ذلك كان العالم، كما يخبرنا “بيروسوس”، يعيش فوضى تسيطر عليها كائنات وحشية لا تنتمي لا إلى البشر ولا إلى الحيوانات، وتحكمها أنثى تدعى “البحر”، وهي على الأرجح الإلهة السومرية أبزو والتي يعني اسمُها المياه العميقة.

ويخبرنا “بيروسوس” أن الفوضى سادت العالم، بعد ذلك إلى أن أتى الإله بيل (مردوخ) إله بابل الأكبر، فيُدخل النظام إلى العالم، منتصراً على آلهة المياه “البحر”، فيشقّ جسدها إلى نصفين، ويشكّل منهما السماء والأرض، ثم يخلق الرجال الأوائل الذين صنعهم من تراب الأرض ودم الآلهة.

من الواضح أن القصة التي يرويها “بيروسوس” هي ترجمة لملحمة الخلق البابلية “إينوما إيليش” الشهيرة، ولكن تفاصيل الملحمة البابلية كما وصلتنا من الألواح التي اكتشفها عالم الآثار البريطاني هنري لايارد (1817-1894م) عام 1849 في “مكتبة آشور بانيبال” في نينوى، وطبعها جورج سميث عام 1867، إذ تبدو أكثر تفصيلاً من حيث عدد الآلهة. ولا ندري الآن منِ المسؤول عن هذا الاختزال، أهو “بيروسوس” نفسه، حرصاً على تقريب الأسطورة من العقل الإغريقي، أم الذين نقلوا عنه؟

تاريخ بلاد ما بين النهرين:

ينتقل “بيروسوس” في كتابه الثاني للحديث عن تاريخ بلاد ما بين النهرين، من الملوك الأوائل إلى فترة ملك بابل الكلداني نابوناصر (747-728 قبل الميلاد). ومن غير المعروف طبيعة سرده لتاريخ هؤلاء الملوك، أهي قائمة بأسمائهم مع فترة حكمهم، أم تتضمّن سِيَرهم ومنجزاتهم؟ ونميل إلى الرأي الثاني، لأن الحوليات البابلية التي عُثر عليها في القرنين الماضيين تضمُّ سجلّات بمنجزات الملوك، وليس فقط فترات حكمهم، وهي الحوليات التي أخذ عنها “بيروسوس” كتابه الثاني على الأرجح.

ومما وصلنا من هذا الكتاب نقرأ عن قائمة بعشرة ملوك في فترة ما قبل الطوفان، نقلها المؤرّخ الكنسي يوسابيوس القيصري (265-339م)، وبالمقارنة بين هذه القائمة وبين قائمة الملوك السومريين المكتشفة في القرن التاسع عشر، يجدُ المرء أن قائمة “بيروسوس” تشبه القائمة السومرية مع فروقات بسيطة في فترات حكمهم. وفي هذا الكتاب يستخدم “بيروسوس” قصة الطوفان البابلية، مع اختلافات بسيطة ربما نجمت عن تحويرات لاحقة من جانب المؤرّخين الذي اقتبسوا النص عنه، وفي كلا الحالين؛ كان لافتاً للانتباه ذلك التشابه الكبير بين قصة الطوفان في “سِفر التكوين”، وبين ما كتبه “بيروسوس”، وكان لافتاً أن اسم بطل ملحمة الطوفان عند “بيروسوس” هو خسوثوروس المأخوذ عن زيوسودرا السومري وليس أوتنابشتيم البابلي.

ومن المعلومات اللافتة في هذا الكتاب حديثه عن سلالة عربية حكمت بابل لمدّة 245 عاماً، ضمّت تسعة ملوك، وثمة سجل بأسمائهم ومدّة حكم كلّ واحد منهم، ويجعلهم “بيروسوس” قبل احتلال الآشوريين لبابل على يد ملك آشوري يدعى تيكولتي نينيب، والذي تمت مواءمته مع تيغلات فلاصر الأوّل حوالي عام 1300 قبل الميلاد. وقد ظهرت دراسات كثيرة حول هذه النصوص ذهبت معظمُها إلى أن المقصود بتلك السلالة هو السلالة العمورية الأولى التي حكمت بابل منذ عهد نارام سن.

تاريخ حقيقي:

في الكتاب الثالث يبدأ “بيروسوس” سرد تاريخ حقيقي يتضمّن سرداً مُفصّلاً للأحداث، مع مناقشة مستفيضة لدلالات ذلك في زمن متسلسل واقعي ودقيق على العموم. وينبئ هذا الكتاب (الثالث) عن أن “بيروسوس” كانت لديه إمكانية الوصول إلى مصادر تأريخية مسمارية تبدأ من عام 747 قبل الميلاد، وصولاً إلى الملك السلوقي أنطيوخس الأول سوتير (334-261ق.م)؛ وتتفق مع السجلّات البابلية المعروفة من النقوش المسمارية وتكملها في تفاصيل عديدة. ورغم فقد معظم هذا الجزء بقيت مقاطع مهمّة منه حول عصر نبوخذ نصر الثاني (604 – 562 ق.م)، ونابونيد (556-539ق.م)، وفي هذه المقاطع نستطيع أن نقرأ رؤيته التاريخية، حيث تحفل المقاطع بتفسيرات للأحداث، وتقييمه الأخلاقي لسلوكهم، وهو ما يجعله قريباً من رؤية التواريخ الكنسية والدينية بشكل عام.

كتاب فريد ومقارنة مع هيرودوت:

زاوج “بيروسوس” بين معرفته الكبيرة بأساليب الكتابة الإغريقية، وبين فهمه العميق للأساطير السومرية والأكّادية، فأنتج مؤلَّفاً فريداً غير مسبوق، ومن غير المعروف إنْ كان قد ضمَّن كتابه معلومات عن حياته الخاصة، ولكن الإشارات التي ذكرها ماركو فيتروفيو (80/70ق.م- 23م) حول إقامته في جزيرة كوس تؤكّد أنه ذكر شيئاً من سيرته في كتابه. وكان لافتاً أن يترك وصفاً جغرافياً لمدينته بابل، يشبه كثيراً ما كتبه مؤرّخ الإغريق الشهير هيرودوت (484ق.م-425ق.م) في وصف مصر، وبهذا يُمكن تلمّس بعض التأثيرات الإغريقية على تصانيفه.

ولكن؛ وخلافاً لطريقة هيرودوت السطحية في سرده لبعض أساطير وطقوس بلاد النهرين، والتي كان يقارنها بأساطير الإغريق، فإن “بيروسوس” أوضح بشكل عميق أبعاد هذه الأساطير، ووضعها في سياق مُحكَم، جعل كتابه المصدر الذي فهم منه قرّاء الإغريقية حقيقة ما كان يفكّر فيه قدماء العراقيين، بلسان واحد منهم.

وتتيح لنا الشذرات المتبقّية من تاريخ “بيروسوس” الزعم بأنه كان ملتزماً إلى حدٍّ كبير بِسَرد تاريخٍ زمني صارم، لم يكن مألوفاً في مؤلفات المؤرّخين الإغريق الذي سبقوه، وهو ما جعل بعض الدارسين المعاصرين يقارنون بينه وبين ما كتبه هيرودوت، مرجّحين كفة المؤرّخ اليوناني لأنه كتب تاريخاً أكثر تنوعاً، وقدّم وصفاً للكثير مما رآه، ولم يشغل نفسه بأحكام القيمة التي أثقلت كتاب “بيروسوس” كما يعتقدون. وبحسب هؤلاء؛ فإن “بيروسوس”، ربما كان أسيراً لمنهجه المتأثّر بالسجلّات البابلية.

هيكل عام:

ومع ذلك يمكنُ الردّ على هذه الآراء بأنّ ما وصلنا جدُّ شحيح، ولا يمكن من خلاله الحُكم بشكل قاطع على أسلوب الرجل، خصوصاً أن المقتبسات التي وصلتنا كانت منقولةً هي الأُخرى عن مصادر أقدم منها مفقودة أيضاً. ومع ذلك نجد أن “بيروسوس” لا يُخالف من حيث الهيكل العام لتاريخه، ما ورد في كتب المؤرّخين الذين سبقوه أو عاصروه، فهو يبدأ تاريخه، تماماً كما فعل هيسيود (750-650ق.م)، وهيرودوت، والمؤرّخ المصري مانيثون (من أبناء القرن الثالث قبل الميلاد)، وحتى “الكتاب المقدّس”، وتحديداً “سِفر التكوين” بقصة خلق مُدهشة، تليها فترة حياة أسطورية للأجداد، ثم سرداً لحياة الملوك التاريخيين.

يبدو أن تاريخ “بيروسوس” فُقِد في فترة مبكّرة، والمؤرّخ الأكثر حفظاً لأجزاء منه هو “بوسيدونيوس” الأفامي (135-50ق.م)، حيث نقل عنه فيتروفيو، وبليني الأكبر (79م)، وسينيكا الأصغر (65م)، وسبعة كتّاب وثنيين آخرين. كما احتفظ المؤرّخ أبيدينوس (حوالي 200ق.م)، بأجزاء واسعة من تاريخ “بيروسوس” في كتابه حول “الكلدان والآشوريين”، وكذلك ألكسندر بوليهيستور (65ق.م)، ويوبا الثاني ملك موريتانيا النوميدي (50ق.م – 20م)، حين كتب هو الآخر عن الآشوريين والبابليين. ولكن؛ وكما هو الحال مع بوسيدونيوس، لم تنج أعمال بوليهيستور، ولا يوبا الثاني، ولكن تم الاحتفاظ ببعض شذراتها لدى مؤرّخين لاحقين.

اهتمام يهودي ومسيحي:

مع ظهور المسيحية عاد الاهتمام بتاريخ “بيروسوس” من جديد، نظراً لأنه كان يُعدُّ كنزاً ثميناً لكُلِّ مؤرّخ يسعى لكتابة رواية متكاملة لتاريخ العالم منذ بدء الخليقة، وقد بدأ هذا النوع من التواريخ مع المؤرّخ اليهودي جوزيفوس فلافيوس (37-100م)، المشغول بإثبات أقدمية الرواية التاريخية اليهودية على الروايات الأُخرى المنافسة لتاريخ العالم. ويبدو أن عثوره على أسماء ملوك آشور وبابل الذين اضطهدوا اليهود، بحسب الترجمة السبعينية للكتاب المقدس، قد أشعره بوجود أدلة على حقيقة تاريخ اليهود من خارج “الكتاب المقدس”، تُضاف إلى ذلك قصة بدء الخليقة التي تتّفق في عناصر كثيرة مع “سِفر التكوين”.

وثمّة دراسات أكاديمية كثيرة قارنت بين ما ورد عند “بيروسوس”، وبين “سِفر التكوين”، وطرحت بعضها تساؤلات مُحقّة حول أسبقية كتاب “بيروسوس” على أقدم نسخة معروفة من “الكتاب المقدّس”، والمقصود هنا النسخة اليونانية المعروفة بالترجمة السبعينية التي كُتبت في أيام الملك بطليموس الثاني فيلادلفوس (285-247ق.م)، حيث تبدو تفاصيل “سفر التكوين” وأسطورة الخلق والطوفان وكأنها متأثّرة بنص “بيروسوس”، هذا إذا تغاضينا عن سِيَر الملوك الآشوريين والبابليين أمثال تجلات فلاصر الثالث، وسنحاريب واسر حدونن، ونبوخذ نصر، الذين لم تكن ثمة وسيلة للتعرّف عليهم وعلى أسمائهم لولا “بيروسوس”.

وبعد قرنين من ذلك؛ وجد المؤرّخون المسيحيون في كتاب “بيروسوس” مَعيناً مهمّاً لتواريخهم، بدءاً من المؤرّخ يوليوس أفريكانوس (249م)، مروراً بالمؤرّخ يوسابيوس القيصري، وخصوصاً في عمله “كرونيكون”، وصولاً إلى المؤرّخ البيزنطي جورجيوس سينسيلوس (810م)، حيث كان همُّ هؤلاء إثبات صحة الأعمار الطويلة للآباء ما قبل طوفان نوح، بمقارنتها مع ما ورد عند “بيروسوس” حول طول أعمار ملوك ما قبل الطوفان السومري.

تأثيرات على الأساطير الإغريقية:

تأثيرات “بيروسوس” على مدونات التاريخ اليونانية واللاتينية، أكبر بكثير من أن يحصرها المرء ببعض السرديات المتعلّقة بتاريخ بلاد ما بين النهرين، فقصة الخلق السومرية- الأكّادية، أصبحت متاحة بلغة عالمية يمكنها الوصول إلى الكثير من الشعوب والثقافات، وهي قصة تُجيب، وإن بشكل أسطوري، على سؤال نشأة الخلق، ذلك السؤال الذي لم تنفكّ البشرية تطرحه منذ فجر التاريخ. ولذلك نجد أن قصة الطوفان سرعان ما وجدت طريقها إلى المعتقدات الهلنستية نفسها، عبر قصة دوكاليون ابن برمثيوس التي ظهرت بعد “بيروسوس”، حيث تروي هذه الأسطورة أن زيوس، كبير آلهة الإغريق، قرَّر القضاء على جميع البشر بالطُّوفان بسبب شرورهم، فقام برومثيوس بتحذير ابنه دوكاليون وزوجته بيرْها من ذلك، وطلب منهما بناء سفينة لإنقاذ الجنس البشري، وحين حل الطوفان لمدة تسعة أَيَّام نجا دوكاليون وزوجته والحيوانات التي اصطحباها إلى ظهر السفينة، فكانا الوحيدين من أبناء الجنس البشري الباقيين على وجه الأرض.

* كاتب وباحث سوري فلسطيني

المصدر: العربي الجديد

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.