الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“ملك اللصوص”: استعادة مظلومية العبيد السوريين

بشير البكر *

رواية تيسير خلف “ملك اللصوص” الصادرة عن “دار المتوسط” ترجع بالقارئ إلى سورية البعيدة جدًا، تلك التي كانت قائمة قبل الميلاد. وتبدأ أحداثها في منطقة أفاميا القديمة القريبة من نهر العاصي خلال حكم المقدونيين الرخو، وفي أثناء استشراء حروب القادة على المصالح، مما جعلها تثير شهية الطامعين من وراء البحار بأعز ثرواتها، وهي البشرية. فصار فتيانها وفتياتها هدفًا لعصابات خطف منظمة تنقلهم إلى صقلية لبيعهم في سوق النخاسة، ولكن هؤلاء الأحرار السوريين صبروا حتى اليوم الذي لاحت فيه فرصة الثورة من أجل استعادة الحرية، بقيادة كاهن سابق من أفاميا تعرض بدوره للاختطاف.

الرواية على لسان الكاهن العاصي “أونوس” الأفامي الذي حاربته روما أربع سنوات، ولم تعترف بالمظلومية التي شكلها مع عشرات الآلاف، حتى أن المؤرخين الرومان لقبوه بـ”ملك اللصوص”، بعد أن أقام مملكة للعبيد السوريين في جزيرة صقلية. إلا أن الفيلسوف والفلكي والمؤرخ السوري الشهير “بوسيدونيوس”، الذي ولد وعاش في أفاميا، كتب رواية أخرى تسجل حكاية وصعود وسقوط المملكة صاغها بأسلوبه، ومنه أخذها الجميع.

الرواية تتناول أحداثًا تاريخية دارت قبل 150 عامًا من الميلاد، وتتحدث عن عمليات خطف السوريين واقتيادهم إلى روما من أجل العمل في الزراعة والجندية بشكل خاص، وكان هؤلاء من المرغوبين، نظرًا لأنهم يعرفون الإغريقية، ويجيدون قواعد السلوك، ولا حاجة لتعليمهم من جديد، إلا أن هؤلاء ولدوا في مجتمع مستقر لا مكان للعبودية فيه، متطور اجتماعيًا وثقافيًا، ولديه طقوس عبادات راسخة، ويعتمد في حياته على الزراعة والرعي. وهذا خلق نوعًا من التناقض الأساسي بين هؤلاء والسلطات الرومانية التي فرضت عليهم نظام عبودية، وباتت تبيعهم في أسواق النخاسة رجالًا ونساء.

تقدم الرواية “أونوس” الأفامي على أنه شخصية غير عادية، ولذلك أثر على الفيلسوف “بوسيدونيوس” في حداثته، عندما كان دائم التردد على بيته، وإليه يعود سبب إيمانه بخوارق الآلهة، وقبل أن يموت سلم إليه سلة من لفائف البردى التي تسجل أصل حكاية مملكة العبيد التي أنشأها “أونوس” الأفامي ابن مارتا الساقية في حانة الغرباء، والذي ولد بعينين متغايرتين، والاسم يعني عون ومساعدة باللغة السورية، وليس إيونوس كما يلفظه الاغريق والرومان، ويقصدون به المسلي.

ولادته غير العادية، واختلاف العينين، حوَّلا الطفل إلى مزار لنساء المناطق المجاورة، وكان الحل أن تعطيه أمه لمن يسميها أمه الثانية شمشي، ليكبر بين أبنائها الذين حسبهم أخوته، حتى أنه لا يتعرف على أمه الأصلية مارتا، ونظرًا لطباعه الغريبة، نصحت الأم شمشي الأم مارتا بأخذه إلى معبد الربة أترعتا، ربة العدالة، وزوجة حدد إله العواصف والأمطار والطقس. ونصح الكاهن بأن يرسلوه إلى منبج، لأن له عين مقدودة من حجر اللازورد، وأخرى من حجر الياقوت، وثمة أمر عظيم ينتظره هناك. وبالفعل أخذته إلى هناك، حيث أمضى 12 عامًا في منبج وأنطاكيا بين رهبان الربة أترعتا، وعاد إلى بيت أمه في أفاميا، وطلق الرهبنة نهائيًا، رغم إلحاح والدته، وضغوط كبير الكهنة عليه بالعودة، فأصبح كاهنًا عاصيًا يرفض عبودية التراتب الكهنوتي الغامض، وأخذ يرى في الرهبان عصبة من اللصوص السفلة، يكاد أن يكون الصادق منهم عملة نادرة.

في عامه السابع في الرهبنة، قرر “أونوس” اختيار طريق الرهبان المتنبئين اتباع هيرميس، وعدم الانخراط في جماعة الجاليين الذين يستأصلون أعضاءهم التناسلية، ويقمعون الغريزة الجنسية، وحين عاد إلى أفاميا ليعيش بالقرب من والدته كان شكله قد تغير كثيرًا، وصار في نظر أمه بالرضاعة شمشي يشبه شكل إله عربي من آلهة حوران. لم يطل مكوثه هناك، حيث تم اختطافه من أفاميا، ونقله مع آخرين لصالح تاجر رقيق روماني هو النخاس أرخيلوس في مدينة إينا.

تُفرد الرواية مساحة لعمليات صيد الفتيات والفتيان من أفاميا وجوارها للمتاجرة بهم في أسواق النخاسة ما وراء البحر، والسبب هو أن الحكام المقدونيين باتوا مشغولين بكل شيء سوى حماية البلاد التي صارت مستباحة، وهنا يجد القارئ نفسه يقرأ صفحات الماضي بعين الحاضر، ويقاطع ما حصل للسوريين في تلك الأزمنة الغابرة مع ما عاشوه في السنوات الأخيرة من مغامرة البحر التي تتعادل فيها نسبة الموت والنجاة، وتعطف الحالة السورية الراهنة نفسها على ذلك الماضي البعيد، من حيث تقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ ضعيفة غير قادرة على حماية مواطنيها، في الوقت الذي يتنعم فيها حاكموها بكل الامتيازات. وفي ذلك الزمان كان هنالك ملكان لا واحد، أحدهما ديمتريوس الشهير الملقب بـ”المنتصر” في معركة واحدة ضد شعبه، وهو هش ضعيف الإرادة، أحمق ذو ضحكة بلهاء في المواقف التي لا تستدعي ضحكًا، قرر معاقبة العاصمة فور تنصيبه ملكًا بدعوى أنها أهانت كرامة والده، وكلما تابع القارئ أكثر التفاصيل الخاصة بهذا الحاكم تيقن أن تاريخ اليوم يعيد تلك الأيام، التي حلت فيها النكبات على السوريين بسبب حاكم تافه “شقية أنت يا سورية فشبابك باتوا أسرى من دون حروب”.

وعلى ظهر السفينة، تمكن “أونوس” من أن يبني علاقات مع البحارة والمخطوفين، وكلهم من سورية التي كان التجار الصقليون يدفعون ثمنًا للسوري ضعفي بقية الجنسيات، وذلك بسبب الفارق الحضاري، وهو ما حصل له حين تم عرضه من قبل أرخيلوس للبيع، فحصل ذلك خلال ساعات. ولم يطل الوقت حتى تأتي “أونوس” وصية الربة “أترعتا” ربة العدالة، “فكر مثل ملك وعش مثل كاهن“، وطلبها إليه “انهض أيها الملك أنطيوخس وقُدْ شعبك“، وذلك بعد ثلاث سنوات من رحلته الجديدة عبدًا لدى شاريه الجديد أنتيغينيس. وفي ليلة خروجه من البلدة ليلًا إلى أطراف البحيرة، حيث أمضى الليل تحت شجرة دردار هناك دله طائر الحمام الأبيض على معبد الربة الذي كان مهملًا، فقام مع الرعاة السوريين بتنظيفه من أجل الاحتفال بعيد المشاعل. هي الربة ذاتها التي يتعبد لها الناس في سورية وبقية البلدان، ولكن صوَر الآلهة في هذه البلدان مختلفة عنها في سورية.

وكانت النتيجة أنه استطاع أن ينظم أول احتفال بعيد الربة حضره العبيد السوريون من مختلف المناطق، والمعروف عنهم أنهم ولدوا أحرارًا. وهناك التقى مع بيرتا، وهي تعني بالسورية القلعة، ولا يلبث أن يظهر اللهب الأزرق علامة للثورة ضد النخاسين، فالسوري الصبور، الذي يصفونه بالخانع، قرر أن يكسر قيوده، ويثور ضد مُلاك العبيد الصقليين، الذين أثروا بسبب الحروب داخل روما، وبفضل تجارة الرقيق من سورية تحديدًا. وفجأة تحول هؤلاء إلى بركان، فهم الذين ولدوا في سورية أحرارًا قبل سنوات، وكانت لديهم حياة طبيعية، باتوا موسومين بوسم من الحديد والنار حولهم إلى عبيد في سوق النخاسة الصقلية.

بعد انتفاضة العبيد على النخاسين، واعتقالهم جميعًا، وإعلان مدينة إينا محررة، تم تنصيب “أونوس” الأفامي السوري ملكًا على مملكة السوريين الأحرار باسم “أنطيوخس” المنقذ، وتلاه هتافات بين جموع الحضور في الساحة العامة “تحيا سورية الحرة، وملكها المنقذ“. ويليه زواجه من بيرثا الفتاة الصهباء التي ستصبح ملكة السوريين الأحرار، حين تم تتويجه ملكًا، وعلى رأسه تاج من الغار، وليس الذهب. رأى “أونوس” أن ما حصل هو من عطاء الربة أترعتا. وتم بشكل سريع تشكيل محكمة لمحاكمة أثرياء المدينة، فحصلت محاكمات بعيدة عن المنطق، أدت إلى تصفيات جسدية كثيرة في صفوف الصقليين، مما أدى إلى القلق والانقسام داخل المجلس الرباعي الذي قاد الثورة، فمن جهة أخيرس، الذي دعا إلى محاكمة المتجاوزين على القانون، ومن جهة أخرى هيرمياس وزيوكسيس، اللذان أرادا تدريج قانون الانتقام، بينما وقف “أونوس” في الوسط. وفي هذا الوقت كانت تصل أعداد متزايدة من الرجال للالتحاق بالمجموعة، ممن يصعب التحقق من دوافعهم، ومن غير الواضح هل هم من العبيد الثائرين، أم من القراصنة.

عدم إدارة المرحلة بطريقة منظمة ساهم في حصول اختلافات داخل قيادة الثورة، وأدى تدريجيًا إلى تشتيت الشارع، في الوقت الذي كانت روما تشن الحملة تلو الأخرى ضد الثورة، حتى نالت منها في السنة الرابعة. وبذلك انهار حلم السوريين بإنشاء مملكة للعدالة تحميهم من الاختطاف، وتحولهم إلى عبيد في سوق النخاسة، وعاد “أونوس” الأفامي إلى بيت والدته في أفاميا يحمل سلة من لفائف البردي تسجل تاريخ تلك التجربة الفريدة التي صاغها روائيًا تيسير خلف الباحث في التاريخ والتراث.

* كاتب وشاعر سوري

المصدر: ضفة ثالثة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.