الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“مباط عال”: هكذا يُستقبل شي جين بينغ.. وقبله بايدن في السعودية

         

يقارن الباحثان “الإسرائيليان” في “معهد دراسات الأمن القومي” “يوآل غوجانسكي” و“طوبيا غرينغ”، في مقالة لهما نشرتها دورية “مباط عال” بين زيارتي الرئيس الأميركي جو بايدن إلى جدة في تموز/ يوليو الماضي وزيارة الرئيس الصيني “شي جين بينغ” الشهر الحالي.

الفرق واضح ما بين الاستقبال الذي حظيَ به الزعيم الصيني شي جين بينغ، خلال زيارته إلى السعودية، وبين الاستقبال الذي حصل عليه الرئيس الأميركي جو بايدن: من جهة، تجد الأحضان الدافئة وإطلاق الرصاص تعبيراً عن الاحترام؛ ومن جهة أُخرى، تجد المصافحة الباردة لولي العهد الذي أراد بايدن “تجاهُله”.

هذه ليست صدفة؛ فعلى الرغم من أن لقاءات القمة الثلاثة ما بين الصين والسعودية، ومجلس التعاون الخليجي (GCC)، والدول العربية، مقررة مسبقاً، فإن زيارة ‘شي’ تأتي في وقت تزداد فيه حدة التوتر ما بين واشنطن وبيجين والرياض، إلى جانب أزمة طاقة عالمية ناتجة من اجتياح روسيا لأوكرانيا. وبحسب محللين من الخليج وخارجه، فإن لقاءات القمة التي حضرتها عشرات القيادات من الدول العربية في الرياض، تضمنت بعداً تحريضياً على الولايات المتحدة. وهو ما يشكل، بحسبهم، إشارة أُخرى إلى الضعف في مكانة الولايات المتحدة في المنطقة مؤخراً.

بالنسبة إلى الحاكم الفعلي للسعودية محمد بن سلمان، فإن التوقيت ممتاز. ففي الوقت الذي يضع أمامه خطة 2030 الطموحة في بلده، تسمح له الزيارة بأن يُظهر للعالم سياسة خارجية مستقلة، وتثبيت مكانة المملكة القيادية في العالم العربي والإسلامي، بالإضافة إلى إثبات زعامته أمام شعبه قبل حصوله على التاج.

وفي المقابل، أثبتت الصين خلال الأعوام العشرة الأخيرة أن اهتمامها بالشرق الأوسط وشمال أفريقيا أعمق بكثير من اختزاله بأمن الطاقة. فبالتدريج، عمّقت التعاون مع الدول العربية عبر الاستثمار المُكثف في البنى التحتية وتكنولوجيا المستقبل: تجارة، استثمار، أموال، موانئ، مراكز تجارية ولوجستية، طاقة خضراء، شبكات اتصالات، مدن ذكية، صحة عامة، فضاء، سلاح، سيارات، ثقافة وتعليم. والهدف من زيارة ‘شي’ تعميق التعاون ما بين استراتيجية التطوير الصينية وخطط الرؤية في دول المنطقة، وبذلك يتم ربط مصير هذه الخطط بالمصير الصيني.

تستغل بيجين أيّ توتر مفتوح في علاقة الولايات المتحدة مع شركائها، بهدف اختراق الهيمنة الأميركية التي تفرض نظاماً عالمياً أحادي القطبية، يخدم مصالح واشنطن وحلفائها. فكما روسيا بوتين، بيجين تركز على المصير المشترك، ظاهرياً، بين الصين والدول العربية كضحايا تاريخيين للاستعمار والسيطرة الغربية، وهو ما يحولهم في الحاضر إلى شركاء في صناعة عالم متعدد الأقطاب، من دون التفوق الغربي. لذلك، فإن الهدف من الزيارة الحالية هو تعميق التصدعات في الثقة واختراق منظومة التحالفات الأميركية مع تعزيز “الاستقلالية الاستراتيجية” للدول العربية.

على سبيل المثال، نشرت وزارة الخارجية الصينية تقريراً شاملاً بشأن العلاقات ما بين الصين والدول العربية في “العهد الجديد”، ويدّعي أنه وعلى عكس “الدول الأُخرى”، الصين تدعم الاستقلال الاستراتيجي لدول المنطقة، وهي لا تتدخل في شؤونها الداخلية، ولا تربط ما بين الإرهاب والإسلام، وتهتم فقط بالفائدة المتبادلة. وكتب باحث كبير في شؤون الشرق الأوسط في صحيفة حزبية إن “الدول العربية تعبت من الاستعلاء الغربي”، كما أن رسائل كثيرة كهذه انتشرت في الإعلام العربي في عدة أماكن في المنطقة. مثلاً، رئيس قناة “العربية”، العملاق الإعلامي السعودي عبد الرحمن الراشد، كتب أن الصين (على عكس الولايات المتحدة) هي حليف “مستقر، يمكن توقُّع ردات فعله، وموثوق فيه”.

 في أي صف تقف:

الأهداف الأساسية من زيارة بايدن في تموز/ يوليو هذا العام كانت زيادة إنتاج النفط في المدى القصير، بهدف خفض أسعار السوق وتقليص العبء عن أميركا وشركائها في أوروبا، وكذلك التلميح إلى الدول العربية بأن بلاده لا تتركها في المدى البعيد. وصرّح بـ”أننا لن نغادر ونترك الفراغ لتملأه الصين، أو روسيا، أو إيران”، مضيفاً أن “الولايات المتحدة لن تذهب إلى أي مكان.”

لكن كان من الواضح أن القيادات العربية التي اجتمعت في السعودية غير مقتنعة. وفي الوقت الذي اعتقدت الإدارة الأميركية أنها وصلت إلى تفاهمات مع أكبر دولة منتجة للطاقة في ظل الأزمة الدولية، أعادتها منظمة الدول المصدّرة للنفط (أوبك+) بقيادة السعودية، من دون أن تمنحها ما تريد. وأكثر من ذلك، المنظمة أغضبت واشنطن حين قررت تقليص إنتاج النفط بـ2 مليون برميل يومياً، قبل شهر من الانتخابات النصفية الأميركية. الاستقبال الملكي للزعيم الصيني يتطابق مع الإجابة التي منحتها السعودية للبيت الأبيض، بحسبهم: “قواعد اللعبة تغيرت، لا تضعوا لنا الشروط ولا ترغمونا على الاختيار”.

حتى لو كانت دول الخليج تبالغ في تقييم نفسها، لا شك في أن التدخل الصيني المتصاعد في ظل الأزمة العالمية والتنافس بين القوى العظمى يمنحها بدائل. وستستمر الدول العربية في تنويع مصادر اعتمادها، بهدف تطوير مصالحها القومية، وإدارة المخاطر، والاستفادة من جميع الأطراف، أما الولايات المتحدة فهي، في رأيهم، مَن يجب أن يلائم نفسه من جديد.

وعلى الرغم من ذلك، فإن إدارة بايدن لا تزال متمسكة برأيها، وتدّعي أمام العرب أنه ما من بديل حقيقي في المنطقة من الولايات المتحدة. ففي الاجتماع الأمني الذي عُقد الشهر الماضي في عاصمة البحرين، أراد المسؤولون الأميركيون تمرير الرسالة: الولايات المتحدة هي الوحيدة القادرة على الدفع قدماً بالتعاون الإقليمي لإقامة تحالُف (أمام إيران)، وأنه “سيكون من الخطأ أن تقوم دول المنطقة بالمراهنة ضدها”.

وحذّرت الولايات المتحدة من أن شبكة الإنذار المسبق من الصواريخ والمسيّرات الإيرانية التي تعمل هي على إنشائها، بالتعاون مع إسرائيل، سيلحق بها الضرر بسبب الاختراق الصيني للبنى التكنولوجية في الخليج. فالأميركيون يعتقدون أنه كلما ازداد التعاون مع الصين، كلما ضعف الغطاء الدفاعي الأميركي في المنطقة، ويدّعون أنهم “لا يطالبون أياً من الدول بالاختيار بين الأطراف”، لكن كل ما تسمعه دول المنطقة هو “إما أن تكونوا معنا، أو معهم“.

بالنسبة إلى دول الخليج، فإن الالتزامات الأمنية للإدارة الأميركية تتزعزع. الولايات المتحدة لم تنجح في منع هجمات إيران وأذرعها على السعودية في سنة 2019، وعلى الإمارات في كانون الثاني/ يناير هذا العام. وفي نظر السعودية، لم تقُم إدارة بايدن فقط بإزالة الحوثيين من قائمة الإرهاب، إنما “أذلّت” أيضاً ولي العهد بشكل شخصي، وأضرّت بالتعاون التاريخي، عبر استغلال موضوع “حقوق الإنسان”. وفي رأي الدول العربية، الولايات المتحدة فشلت أيضاً في منع تحوُّل إيران إلى دولة نووية. إذ يتم التعامل مع الأخيرة في المنطقة على أنها دولة على “عتبة نووية” بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.

نظرية اللعبة:

على الرغم من الشكاوى المتكررة، فإن الدول العربية عموماً ترى في العلاقة بالولايات المتحدة، مع قدراتها الكبيرة، حاجة حيوية لأمنها، وتدرك أن الصين لا تقدر، وغير مهتمة بأن تكون بديلاً من هذه العلاقة في المدى القريب. في نظرة إلى المستقبل، تتخوف هذه الدول من عدم اهتمام البيت الأبيض بالتحديات الأمنية التي تواجهها، ومن النبرة القاسية ضدها في الكونغرس، والاختلاف في الآراء بشأن موضوعات، مثل الحريات السياسية وحقوق الإنسان. وعلى الرغم من عدم خفض القوة البشرية العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط، فإن هناك شكوكاً في استعداد الولايات المتحدة لاستخدام هذه القوة للدفاع عن أمن دول الخليج.

بالإضافة إلى ذلك، وبينما هذه الدول غارقة في رؤاها التنموية، تحاول واشنطن تقليص خيارات التنمية، من خلال فرض “اختيار طرف” في مواجهة ليست مواجهتها. وكلما تعمقت الخصومة بين الدول الكبرى في كل ساحة ممكنة، فإن هذه الدول تتعامل مع الشرق الأوسط بمصطلحات لعبة حصيلتها صفر؛ فأيُّ تقارب بين بيجين ودولة إقليمية يُعتبر ضد واشنطن، والعكس صحيح.

زيارة الرئيس الصيني أثبتت على الأقل أن الدول العربية عموماً، ودول الخليج خصوصاً، ليست عاجزة. فالصين تحولت إلى أكبر شريكة تجارية والمستثمرة الأكبر في أغلبية الدول العربية، ووقّعت مذكرات تفاهُم واتفاقات تساوي عشرات مليارات الدولارات في أكثر من 30 قطاعاً استراتيجياً. من الناحية التكنولوجية مثلاً، يُذكر أنه خلال زيارة الرئيس بايدن إلى الرياض جرى التوصل إلى اتفاقات على شراكة أميركية- سعودية في بناء شبكة بنى تحتية للاتصالات من جيل متطور، بينما تضمنت رزمة الصفقات التي وقّعها ‘شي’ هذا الأسبوع مذكرة تفاهُم بين الشركة الصينية العملاقة هواوي من أجل تركيب إنترنت سريع للهاتف الخليوي ومنشآت للحوسبة والـcloud في المملكة. كما أن الصين تشارك في المشروع الضخم لولي العهد السعودي، بناء مدينة المستقبل “نيوم” رغماً عن إرادة الأميركيين.

من الناحية الأمنية، شركات أمنية صينية تعرض منظومات سلاح سيبرانية بأسعار تنافسية. على سبيل المثال، ذكرت وسائل إعلام صينية أن السعودية اشترت سلاحاً يقدَّر بـ4 مليارات دولار في الشهر الماضي من أحد المعارض الأمنية في مدينة تشو- هاي، وقبل عام، جرى الحديث عن بناء الصين معملاً لإنتاج المسيّرات المتقدمة في المملكة، وهي تأمل بأن تبيعها طائرتها الجديدة “الشبح”، وذلك بعد أن وقّعت صفقة لتزويد الإمارات بطائرات تدريب/ وهجومية خفيفة (في ضوء صفقة طائرات أف-35 العالقة). في العقد الأخير، كثرت التقارير التي تحدثت عن تعاون صيني- عربي في إنتاج الصواريخ وسلاح الليزر للدفاع الجوي، وفي السايبر، والاستخبارات، وفي محاربة الإرهاب، بالإضافة إلى نشاطات مشتركة في مجال الوقود النووي. وهذا التعاون يتطلب اهتماماً إسرائيلياً.

في الخلاصة، تدرك الدول العربية أفضلية الولايات المتحدة على الصين، ولا سيما في المجال العسكري – الأمني، وهذه الدول ربطت نفسها في المجال الأمني بالولايات المتحدة أعواماً طويلة مؤخراً. فمن خلال العلاقة بالصين، ترغب الدول العربية في الحرص على نمو واستقرار دولها، وفي المقابل، الحصول على أداة ضغط على الولايات المتحدة. وهذه عملية توازُن دقيقة وحساسة، ومن المحتمل أن يكون بعض زعماء دول الخليج بالغ في تحديد المخاطر. إن علاقات الصين مع دول الشرق الأوسط تتأسس بالتدريج، بعيداً عن مجال الطاقة، وعن علاقتها بالولايات المتحدة. فقد ثبت في العقد الأخير أن هذه العلاقات هي علاقات استراتيجية ومهمة بحد ذاتها. ولا شك في أن الولايات المتحدة هي جزء مهم من القصة، وسيواصل كبار المسؤولين الأميركيين التشديد على أن الولايات المتحدة باقية وليست ذاهبة إلى أي مكان. لكن زيارة شي أثبتت أن هذا الأمر صحيح أيضاً بالنسبة إلى الصين.

المصدر: مؤسسة الدراسات الفلسطينية

التعليقات مغلقة.