الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

حرب أوكرانيا يُدشّنها بوتين ويُنهيها بايدن.. هل بدأ العد العكسي؟

سميح صعب *              

من المؤكد أن الرئيس الأميركي جو بايدن كان يتمنى ألا يضطر إلى الرد علناً على الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، بالنسبة إلى هوية الصاروخ الذي سقط على قرية بولندية حدودية ليل الثلاثاء الماضي، في وقت كان يتمسك الأخير بمقولة أن الصاروخ روسي الهوية وأن لا علاقة له بصواريخ الدفاع الجوي الأوكرانية، في تناقض صارخ مع استنتاجات حلف “الناتو”.       

الجدل حول الصاروخ يكشف على ما يبدو تبايناً أعمق بين أميركا وأوكرانيا حول الإستراتيجية التي يتعين إتباعها بعد الإنسحاب الروسي من مدينة خيرسون. ثمة من يقول إن خيرسون تعتبر نصراً كافياً لكييف وتالياً يتعين عليها أن تستغل هذه لحظة التراجع الروسية كي تدخل المفاوضات من موقع القوة. وفي المقابل، هناك من يقول بأن خيرسون لا ترقى إلى مستوى الهزيمة المدوية المنشودة في كييف وواشنطن، لإقناع موسكو بأن مغامرتها العسكرية في أوكرانيا قد أخفقت. ويترتب على الاستنتاج الثاني، مواصلة الاندفاعة الأوكرانية على جبهات أخرى في زابوريجيا ولوغانسك ودونيتسك وربما القرم، لم لا، إذا كان ذلك متاحاً، وقبل أن يتمكن الجيش الروسي من التقاط الأنفاس. لكن هذه نظرية مفعمة بالتبسيط وليست سهلة التحقق، وتنطوي على تمنيات ولا تستند إلى أرض صلبة.

في معرض تحميل روسيا المسؤولية في نهاية المطاف تبعة التسبب بسقوط الصاروخ على بولندا الأطلسية كون الدفاعات الجوية الأوكرانية كانت ترد على موجة غير مسبوقة من الصواريخ والمسيرات الروسية ليلتذاك، قال رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة الجنرال مارك ميلي حرفياً، وكأنه يوجه الكلام إلى زيلينسكي تحديداً، “إن دحر كل القوات الروسية من كامل أراضي أوكرانيا في القريب العاجل، يُعدُّ احتمالاً مستبعداً”. واتخذ الجنرال الأميركي مما سماه “المعاناة الشديدة” للجيش الروسي، منطلقاً كي يذكر بأنه بات الباب مفتوحاً أمام “العثور على حل سياسي”.

وقبل أكثر من أسبوع كشفت صحيفة “النيويورك تايمز” الأميركية عن جدل دائر داخل الإدارة الأميركية حول مسألة هل حان الوقت لفتح الحوار مع روسيا لتسوية الأزمة الأوكرانية، أم أنه يتعين الانتظار ريثما تلحق هزائم أخرى بالجيش الروسي، ترغم الرئيس فلاديمير بوتين على تقديم تنازلات مؤلمة وإلحاق ضرر بروسيا يجعلها غير قادرة على مهاجمة أي من دول الجوار، إلى أجيال قادمة.

وميلي بخلاف مستشارين آخرين لبايدن يؤيد بدء الحوار مع موسكو الآن، على اعتبار أن الإنسحاب من خيرسون سيتيح للجيش الروسي إعادة تدعيم خطوطه على الضفة اليسرى من النهر الذي يشطر خيرسون إلى شطرين، الأمر الذي قد يتيح للقوات الروسية الدفاع عن مواقعها في فصل الشتاء، وربما الزج بقسم من قوات التعبئة على الجبهات من أجل العودة إلى موقع الهجوم أو على الأقل تحويل المعركة إلى حرب خنادق.

وليس ميلي وحده من يميل إلى وجهة النظر التي تحذر من أن الأمور الميدانية قابلة للتحرك والتغير في قابل الأيام والأسابيع والأشهر القادمة. المؤرخ العسكري الأميركي “روبرت كيرتشوبل” أجرى مقارنة في مجلة “ذا ناشيونال إنترست” الأميركية استنتج منها أنه “برغم أن التاريخ ليس قدراً”، فإن القوات السوفياتية والألمانية خاضت بين صيفي 1941 و1943، ما لا يقل عن 12 عملية عسكرية في شرق أوكرانيا بين كر وفر، وكان يتم تبادل السيطرة على المدن والقرى، ومدينة خاركيف مثلاً خضعت لتبادل السيطرة أربع مرات بين الجيش الأحمر والجيش الألماني، ليصل إلى استنتاج بأن هذه “حرب سهول” وأن الجغرافيا عامل أساسي في تحديد نتائج الحروب، مثلما “تمنح الأنهار قدرات وتفرض حدوداً”.

وفي سياق غير بعيد، يحذر أستاذ ومدير برنامج الدراسات العليا في الديبلوماسية والعلاقات الدولية في جامعة نوريتش بولاية فيرمونت الأميركية لاشا تشانتوريدزي في مقال بالمجلة ذاتها، من أن اقتحام الجيش الأوكراني لنهر “دنيبرو” في جنوب البلاد ليس مطروحاً للنقاش نظراً “لأن الخسائر البشرية التي ستنجم عنه لن تكون مقبولة”. المؤيدون لبدء الحوار الآن، يجادلون أيضاً، بأن لا ضمانات باستمرار الموقف الأوروبي موحداً حيال روسيا، كلما اقتربت أشهر الشتاء، وارتفع التضخم وهدد باضطرابات اجتماعية في غير بلد أوروبي. هنا قد يكون جديراً بالذكر أن دولاً أعضاء في الإتحاد الأوروبي تبدي تردداً في تأييد حزمة عقوبات جديدة على روسيا. ويحذر ‘كيرتشوبل’ بأن “التعب الأوكراني” في الغرب يلوح كتهديد دائم.

ناهيك عن ذلك، هذه الحرب تنهك أوكرانيا وتدمر بنيتها التحتية، وحتى لو زودتها أميركا بصواريخ “باتريوت” ومقاتلات “إف -15” و”إف-16″، فلن يشكل ذلك مظلة كافية تدفع عنها كل الهجمات الروسية، صاروخياً أو بالمسيرات. وعلى رغم تدفق المساعدات المالية الأميركية والأوروبية، فإن استمرار الحرب يجعل أوكرانيا مقبلة على كارثة اقتصادية تهدد وجودها، أكثر مما تهدده الحرب.

إن استمرار الحرب له ثمن، ووقفها لن يكون بلا ثمن. والأميركيون ومعهم حلفاؤهم الأوروبيون لا بد أنهم يتداولون الآن في الثمن الأقل فداحة. الصاروخ “البولندي” كان بمثابة جرس إنذار إلى أن الحرب قد تفلت عن السيطرة وتتحول حرباً عالمية ثالثة في أي لحظة يصيب فيها صاروخ طائش أي دولة أطلسية. في الساعات الأولى لسقوط الصاروخ على قرية “بريزدوف”، بدا أن المواجهة الروسية- الأطلسية باتت حتمية، ووقف العالم على رؤوس أصابعه لساعات، قبل أن يخرج المسؤولون الأميركيون ليشككوا في الأحكام المتسرعة التي أطلقها زيلينسكي والرئيس البولندي أندريه دودا ومعهما زعماء جمهوريات البلطيق ودول أخرى من أوروبا الشرقية. جميعهم دعوا إلى تفعيل فوري للمادتين الرابعة والخامسة لميثاق الأطلسي اللتين تحتمان إجراء مشاورات بين الدول الأعضاء واعتبار الهجوم على دولة عضو بمثابة هجوم على دول الحلف جميعاً. والمفارقة أن بايدن الذي ستكون بلاده رأس الحربة في أي مواجهة مع روسيا، لم يتأخر في الطلب من الجميع، الهدوء حتى تتبين هوية الصاروخ.

قرار الحرب اتخذ في موسكو، أما قرار إنهاءها فيتخذ في واشنطن وليس في كييف، حتى ولو كرر المسؤولون الأميركيون، إنهم لن يفرضوا على الأوكرانيين ما لا يرضون به، وأن القرار متروك للأوكرانيين كي يقرروا ما يريدون، ومتى يريدون الذهاب إلى التفاوض، وأن واشنطن مستعدة لمساندة أوكرانيا “طالما استلزم الوقت”.

هذا في العلن، أما في الخفاء فيتعين النظر إلى الاجتماعات بين مسؤولي الاستخبارات الأميركية والروسية في أنقرة قبل أسبوع، وإلى الاجتماعات المزمعة في القاهرة الأسبوع المقبل. الخلاصة الوحيدة المستفادة من معاودة الاتصالات الأميركية-الروسية، هي أن لا أميركا ولا روسيا تريد صداماً مباشراً يقود العالم إلى “هرمجدون”، كما سبق وأن حذر بايدن.

فهل بدأت واشنطن سلوك الواقعية طريقاً لإطفاء الحريق الأوكراني، في وقت تلوح بوادر مواجهة ساخنة جداً في شبه الجزيرة الكورية على وقع التجارب الصاروخية لـ“بيونغ يانغ” والتي تقترب أكثر من الجنوب ومن اليابان ومن القواعد الأميركية؟

* كاتب وصحافي لبناني

المصدر: 180 بوست

التعليقات مغلقة.