الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

السياسة الدولية.. نحو حرب عالمية ثالثة؟

أحمد عبدربه *

أي مستقبل ينتظر عالمنا المعاصر وخاصة في شقه السياسي؟ منذ أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر ٢٠٠١ وهذا هو السؤال الملح بين أساتذة ومحللي ومحللات العلاقات الدولية! وهناك اتجاهان رئيسيان في توقع مستقبل العلاقات الدولية!

الاتجاه الأول يرى أن العالم يتجه إلى حرب عالمية ثالثة بعد الحرب الأولى ١٩١٤-١٩١٨، والحرب الثانية ١٩٣٩- ١٩٤٥، بينما يرى الاتجاه الثاني أنه مهما كانت درجة التحديات والصراعات وتضارب المصالح في العلاقات الدولية، فإنه من المستبعد الدخول في حرب عالمية ثالثة!

يرى الاتجاه الأول أن التاريخ يعيد نفسه، فالحربان العالميتان الأولى والثانية ارتبطتا بمجموعة من الظروف الدولية والإقليمية مثل الثنائية القطبية، والأزمات الاقتصادية، وصعود النعرات القومية، وأن هذه الظروف متوافرة في البيئة الدولية المعاصرة في ظل الأزمة الروسية الأوكرانية واتجاه العالم للتحول إلى حلفيّن كبيرين، أحدهما يشمل الصين وروسيا وكوريا الشمالية، والآخر يشمل دول حلف الشمال الأطلسي (الناتو) والولايات المتحدة، في ظل أزمة اقتصادية طاحنة مرشحة للتصاعد خلال الأشهر القليلة القادمة وخاصة مع تفاقم أزمة الطاقة في أوروبا، وتصاعد الحركات الشعبوية وخصوصاً في أوروبا والولايات المتحدة وهي الحركات التي تشبه تصاعد النعرات القومية الأوروبية وخاصة في مرحلة ما بين الحربين الأولى والثانية (١٩١٩- ١٩٣٩)!

لكن ورغم اعتراف الاتجاه الثاني بكل هذه الأزمات، إلا أنه يرى أن فرصة نشوب حرب عالمية ثالثة ضعيفة وذلك بسبب عدة أسباب، أهمها مقدار التشابك الدولي والذي يجعل هناك قدراً كبيراً من الاعتمادية المتبادلة وعدم القدرة على الانعزال وهو ما يقلل من فرص نشوب حروب دولية على نطاق واسع! يرى هذه الاتجاه أيضاً أن الظروف الاقتصادية قد تكون أحد أهم الأسباب التي ستمنع قيام حرب عالمية ثالثة، حيث إن قدرة القادة السياسيين على إهدار الموارد في حروب عسكرية على حساب الإنفاق العام على التعليم والصحة والأمن الداخلي هي قدرة محدودة!

  • • •

الحقيقة أنه ورغم أن مسألة توقع التغييرات المستقبلية في العلاقات الدولية هي عملية شديدة التعقيد وعادة ما تعوزها الدقة، إلا أنه وبالنظر إلى تاريخ الصراعات الدولية في القرن العشرين يمكن رصد ستة عوامل تساعد على وقوع الحروب العالمية وهي:

أولاً: تندلع الحروب العالمية عادة في حالة القطبية الثنائية، أو في حالة الرغبة في التمرد على هيكل النظام الدولي القائم سواء من الناحية العسكرية، السياسية، أو الاقتصادية، كمحاولة تغيير نظام القطبية الأحادية إلى قطبية ثنائية أو متعددة أو العكس!

ثانياً: تندلع الحروب العالمية في حالة تزايد حالات الشك واللايقين نتيجة لغياب المعلومات أو ضعف التنسيق والتعاون بين الدول مما يخلق غياباً للثقة المتبادلة ومن ثم يعزز فرص الصراع.

ثالثاً: تندلع الحروب العالمية حينما تغيب قواعد القانون الدولي عن التطبيق، بحيث يعلم القائد السياسي أن فرص نجاح أو فشل الحرب مرتبطة بقدراته العسكرية والتكنولوجية لا بمواجهة عواقب قانونية تفرضها المنظمات الدولية مثل الأمم المتحدة أو ما شابه!

رابعاً: تندلع الحروب العالمية نتيجة لحسابات سياسية وعسكرية خاطئة، تدفع أحدهم بالمخاطرة في اتخاذ قرار الحرب، وعادة ما يكفي خطأ واحد فقط في حسابات الحرب حيث يتكلف العالم ثمناً باهظاً لهذه الأخطاء!

خامساً: تندلع الحروب العالمية حينما تتضاءل فرص الضغوط والمعوقات الداخلية في التأثير على قرار الحرب الذى يتخذه القائد السياسي، فتكون قرارات الحروب وتقديرات مخاطرها هي قرارات فردية للحاكم الفرد وبضعة أشخاص أو حتى مؤسسات لصيقة به ولا تستطيع معارضته أو الضغط عليه!

سادساً: تندلع الحروب العالمية حينما يغيب الردع، أي عندما يعتقد صاحب قرار بدء الحرب أنه لن تكون هناك ردة فعل من العدو بنفس الحدة أو القدرة التي قد تؤدي إلى هزيمة الجيش المعتدي! والمثال الأبرز على ذلك هو امتلاك القنبلة النووية من قبل العديد من القوى العالمية والإقليمية، والتي يعتقد أنها السبب في عدم وقوع حرب عالمية ثالثة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة، وما اشتملت عليه الأخيرة من حروب بالوكالة بدلاً من شن الحروب بشكل مباشر بين الأطراف المتصارعة!

  • • •

بمراجعة هذه العوامل التي توافرت خلال الحربين الأولى والثانية، نجد أن فرص اندلاع حرب عالمية ثالثة مفترضة ضعيفة، ليست مستحيلة، ولكنها ضعيفة!

سبب ضعف فرضية حرب عالمية ثالثة مع الإقرار بعدم إمكانية استبعادها تماماً له العديد من الأسباب، السبب الأول أننا وحتى اللحظة لسنا أمام ثنائية قطبية، فرغم تصاعد النفوذ الاقتصادي للصين، ورغم تصاعد الأطماع العسكرية في روسيا، إلا أن كلتا الدولتين لم يحصلا بعد على مكانة دولية تمكنهما من مواجهة جبهة الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا (حلف الناتو) حتى اللحظة!

فالصين ما زالت تركز على الجوانب الاقتصادية لصعودها ونفوذها الدولى، ومقدراتها العسكرية رغم خطورتها لكن ما زالت لا تشكل تهديدا حقيقيا للمقدرات العسكرية والتكنولوجية للدول الغربية!

ومن ناحية ثانية، فرغم أن حسابات بوتين لم تكن دقيقة حينما قام بغزو أوكرانيا، وهو بلا شك خطأ استراتيجي، إلا أن رد فعل الدول الغربية ما زال يحافظ على الحد الأدنى من الرشادة في رد الفعل، بحيث تحرص دول الناتو على عدم التورط في الحرب مع روسيا وتكتفي بدعم أوكرانيا دون الدخول في مواجهة مباشرة مع الروس!

كذلك، فقدرات روسيا والصين على حشد تأييد شعبي لسياستهما العالمية وخاصة إذا ما اندلعت حرب عالمية، تظل محل شك! صحيح أنه لا روسيا ولا الصين يمكن اعتبارهما دولاً ديموقراطية، وبالتالي فمن غير المتوقع أن تلعب مؤسسات أو أشخاص آخرين داخل النظامين الصيني أو الروسي دوراً في تغيير سياسات الرئيسين «شي» أو «بوتين» بخصوص الحرب، إلا أن الرأي العام الروسي المعارض للحرب على أوكرانيا من ناحية، وكذلك احتمال دخول الصين في مقامرة كبرى حال اندلعت حرب عالمية كانت بكين متورطة فيها بشكل مباشر، يعني أن هناك فرصة حقيقية لتمرد الأقاليم الغربية للصين والتي تملك عوامل تاريخية وسياسية وثقافية ستشجعها على محاولة الانفصال عن بكين حال اندلاع مثل هذه الحرب!

ومن ناحية رابعة، فإن الظروف الاقتصادية غير المستقرة في الولايات المتحدة ودول غرب أوروبا، تجعل الرأي العام هناك، بالإضافة إلى العديد من المؤسسات السياسية والاقتصادية والقيادات العسكرية داخل هذه الدول، متحفظة على أي قرار من شأنه المجازفة في شن حرب على روسيا أو الصين وجعل ذلك الخيار هو الأخير بعد استنفاد كل الخيارات الأخرى!

وعلى الرغم من ذلك، فلا يمكن استبعاد فرضية الحرب العالمية تماماً لسببين هامين: السبب الأول، أن منظومة القانون الدولي والتي طرحت بقوة في السياسة الدولية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، أصبحت مهترئة وغير قادرة على الردع وخصوصاً في ظل الشلل الذي أصاب الأمم المتحدة وخاصة مجلس الأمن الدولي! فالهيكل المنظم للعلاقات بين الدول وبعضها البعض وبين الدول وغير الدول أصبح هيكلاً متهالكاً شديد القدم لا يعكس حقيقة القوى الدولية والإقليمية على الأرض! أما السبب الثانى والأخير، فهو أن الأزمات الاقتصادية الدولية إذا ما تفاقمت خلال السنوات القليلة القادمة- وهو أمر مرشح للحدوث- فستكون فرصة النعرات القومية والسياسات الفاشية على الصعود تدريجياً لاستغلال حنق الجماهير من ناحية، ولصرف النظر عن المشاكل الداخلية من ناحية ثانية، كبيرة مما قد يورط العالم في مأساة لن يكون من الممكن الآن توقع عقباها!

* باحث مصري، أستاذ مساعد للعلاقات الدولية- جامعة دنفر

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.