الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عن رجال دين من أهل الجحيم لا من أهل السماء!

نصري الصايغ *          

“ليكن خريفاً/ أين بأس الريح/ ولتتأهب الحشرات/ وليجلس على عرش الجبل/ هذا الغراب/ لأنه، حقاً، ولي العهد”.

                (من قصيدة “الدردارة” للشاعر اللبناني الراحل حسن عبدالله).

ليس عند العرب أديان. بدايات الأديان كانت بشارة. مسارها بلغ ذروة، وأقام في حصون السلطة ومراتع المال. كان الدين توحيدياً. يا الله، لقد تفتت العالم. الثراء المليوني، رأسمال مستدام. الله والمال لا يجتمعان. قيل: “لا تعبدوا ربين، الله والمال”. أقالوا الله. المال معبود وصاحب الأمرة. إن الإنسانية صنيعة نفسها. ليس بإمكانها العودة الى الله. الفتاوى رائجة، وهي غب الطلب. إذا كان ذلك كذلك، فأين الانسان؟

مذهل في بيئاتنا قبول الانسان للخضوع. “مئة مرة جبان، ولا مرَة الله يرحمو”.. خضوع لقائد ثري، لسيد، لسياسي، لخطيب، لسمسار، لرجل دين، لعسكري، لرجل أمن. مذهل أن يقبل الإنسان خدمة وطاعة سلالة وحاكم ومرجع ديني، او أي مرجعية تدعي العصمة وتمارس الأذى والقمع والملاحقة والنبذ، وتصادر الحرية وتأمر بالمنكر. كيف يمكن الركون الى سيطرة شخص واحد فقط، على بلد، مدينة، أمة، شعب؟ الخريطة العربية شاهد مثالي، على تشييء الانسان وتسليعه ونفيه.

بائس هذا الانسان الذي نحر حريته بيده، وقبل ان يسلَم بما ورثه من بؤس. السؤال المفاجئ، لماذا الإصرار على اقحام الدين في قراءة الخريطة العربية، ماضياً وراهناً؟

الدين، في بداياته، تمتع بنقاء وصفاء وروحية سامية. هذه البدايات انتهت. النص التأسيسي مختلف كثيراً عن أنماط المسارات المدانة والفجوة الهائلة بين المعتقد والممارسة. هذان ضدان على الدوام. تاريخ البشرية يدلنا على نزف مريع. الدم غلب. “فالسيف أصدق انباءً من الكتب”.

الانشقاقات داخل الأديان، لم تكن على تفسير الآيات والنصوص. السلطة فتنة دائمة، والسلطة ترضع من المال، لا من الآيات. تاريخ المسيحية في أوروبا دليل. وكذلك الإسلام. الانشقاقات كانت سياسية بحتة. الاجتهادات كانت في خدمة القيادات. الشعب مسكين. يسمع ويطيع. المؤمن صادق وجبان. فما للسماء للسماء، وما للناس للحكام. الثورات داخل المسيحية والإسلام، أساسها طموح سلطوي، وحصد غنائم. والتاريخ شاهد بآثاره، على البذخ المسيحي، وعلى رجال الدين المكللين بالذهب، وعلى المعابد المكتظة بجمالات وفنون، دفعت اثمانها من جباية المؤمنين الفقراء. المؤمنون يزرعون الأرض عنباً، ورجال الدين يكرعون خمراً. وما حدث في المسيحية، يضاهيها في أنماط الخلافة، الأموية والعباسية. غير مدون، أين يكون الله، وفي أي جبهة قتالية. إن الآيات تقطر دماً بسيوف المؤمنين. والغريب، أن من يمثل الإيمان، يكون أحيانا قليل الإيمان، وأحياناً جاحداً للدين.

كتب التاريخ سجلت الارتكابات في الأديان. وهذا ليس اختصاصاً عربياً او غربياً. فبلاد اسيا عرفت أدياناً ومثلها الكثير من الكوارث!

بائس هذا الانسان الذي ينحر حريته بيده، ويقبل ان يُسلَّم بما ورثه من بؤس. مؤسف ان يسلم نفسه لسلطة او رجل دين، صاحب “شيكات”.

يصح السؤال: “لماذا أُقحم الدين في الاجتماع والتاريخ”؟ الجواب، الدين ليس النص. هو من يترجمه عملاً. الدين النقي، موجود فقط في النص التأسيسي. أي في الكتاب: “اقرأ”، و”في البدء كان الكلمة”.

الدين في مساره التاريخي، لم يكن على قاعدة الإيمان، إلا في البدايات، وعندما بلغ الدين حقل السياسة، تصرف “المؤمنون” كدنيويين. الملائكة تقيم بعيداً. الشياطين ساكنة ومطمئنة، في أحضان سلطة متمادية وأموال متدفقة.

تاريخ الحروب المسيحية والإسلامية هو تاريخ سفك دماء المؤمنين، على مدى مئات السنين.. الخريطة العربية في القرن الواحد والعشرين، ما زالت شعوبها تحمل القرآن على رؤوس الأسِنة. معاوية ما زال حياً، وابنه كذلك، وآخرون من بعدهما.

عندما يتحول الدين الى سلطة، لا تُسأل ولا تُحاسب، وتدعي انها مأمورة من الله وموحى بها بواسطة ملائكته. رجال الدين أقوى من الله ومن النص. رجال الدين سلطة لتحويل الناس الى عبيد. وغريب ان يُبشّر هؤلاء، بنعَمِ الفقر. وما أصاب الإكليروس المسيحي، أصاب رجال الدين المسلمين. من لباسهم وخواتيمهم وسياراتهم و.. تعرفونهم. معهم، تحول الله الى جلاد، شغله ممارسة العقاب. انه ليس الرحمن الرحيم، وليس الأب والابن والروح. التهديد بالجحيم، اقل كثيراً، من الوعد بالجنة. رجال الدين فتحوا أبواب الجحيم، اقفلوا أبواب السماء.

قلما نجد بيننا مثيلاً لأبي ذر الغفاري. عاقبته السلطة السياسو- دينية وأبعدته الى الصحراء. هذا قديس من العظماء الذين تفتح لهم أبواب السموات. تركوه في الصحراء حتى نهايته. واشقاء ابي ذر من بعده، عانوا العذاب والتعذيب. حظ الفقراء هنا، ان يكونوا ضحايا الأغنياء والسلطات العابثة بالدين.

من مثل الأب بيار في فرنسا، والام تيريزا. اختصاصهما الوقوف الى جانب الفقراء والعيش معهم وتلبية حاجاتهم بما تيسر من عطاءات كريمة غير مهينة وغير مطالبة بمواقف مخزية. الاب بيار صار شعباً وشعوباً. اختصاصه الحب. والحب، يبدأ بحب من هو بحاجة الى احتضان ودفء وخبز. لمثل هؤلاء، يستطاب الإيمان.

الآخرون، أصحاب المواقع والمراتع، تجار كلام ومروجو الاستتباع. الإيمان عندهم تجارة واستعباد. العالم العربي، بما فيه لبنان، ينطبق فيه القول الإلهي عن هؤلاء الممسكين بسلطة الدين: “اسمعوا اقوالهم، ولا تفعلوا افعالهم”.

كان يجب أن ابدأ من هنا. خفت ان يساء فهمي، وأن اتهم بالعداء للأديان وهذا امر طبيعي. الدين. ابداً. الأديان، كنصوص تأسيسية، هي عندي بمثابة كنوز روحية سامية. برغم الاختلاف في ما بينها في بعض الأمور، الأساسية والثانوية، وهذا امر طبيعي. الدين ليس نسخة واحدة. علاقتي بالأديان، علاقة ثقافية وقيمية وتاريخية.

الإسلام والمسيحية نبعان، يستطاب الارتواء بهما.. الإيمان عرضي. احترم كل مؤمن. مع معرفتي ان الإيمان الديني وراثي. فمن ولد مسيحياً وأصبح بطريركاً او مطراناً أو.. كان يمكن ان يولد من سلالة إسلامية.

لا فضل لمسيحي على مسلم ومسلم على مسيحي. مع تعدد الملل والنحل و.. دينهم جاء معهم، من الفراش الزوجي. حاولوا ان تغيروا المراجع عبر الباسها سلطة من غير دينها.

ما دخل الدين امراً إلا وأفسده. (الدين ليس النص. مرة أخرى. للتذكير). الدين الممارس، ابتعد عن جوهره وعن غايته، عندما اشعر المؤمنين، بأنهم إذا لم يصغوا الى “كلام الرب” (وهو ليس كذلك) فإن العقاب سينالهم. وعليه، هذه الطغمة، لم تعد الى الأصل التأسيسي، بل الى الفروع التي تحولت الى أحزاب وسيوف ومعارك وقتلى. والقتلى يتوزعون الآخرة. قتلاي الى النعيم، وقتلاك الى الجحيم.

حروب الكنيسة، ضد الكنائس، والمذاهب، والملل، استطالت على مدى قرون. سحقت وابادت وحاربت، اشقاءها في الدين. حرب المئة عام في أوروبا، ومن يدرك مجازرها، يعفو عن تيمورلنك وجنكيز خان وهتلر وعن الولايات المتحدة الأميركية، التي تباركها كنائس كثيرة اليوم، سواء في اميركا أم غيرها من العالم الذي أصيب بالعمى الإنساني.

حروب المسلمين لا تزال مزدهرة. نحن في القرن الواحد والعشرين. محكومون بالفتاوى والاجتهادات والمذاهب والإرهاب والقتل والفتن. يتولى النفط تأمين المال والذخيرة. المنطقة العربية، مخزن أسلحة. في ما بعد القرن العشرين، أي راهناً، أصبح الدين الإسلامي، في زمن الديكتاتوريات والإمارات والممالك، ساحة دماء، واداة قتل، ومشاريع إبادة. التعافي من هذه الكوارث الدينية، مستحيل. المنطقة مشطورة في القوس الشيعي، من طهران الى العراق الى سوريا الى لبنان الى.. في المقابل، هناك القوس السني – الأميركي (اين الدين) مدعوماً من ديار الإفتاء. حرام. السنة في أكثر مناطقهم يميلون الى أميركا التي كانوا ضدها، وبعضهم ينظر الى “إسرائيل” بعين الشهوة ويكيل للشيعة الرافضة، آيات التكفير والطعن. نُكرّر، ليس كل السُنة ولا كل الشيعة.

عاد الدين ليلعب بالسياسة. الله مع من في هذه الحروب؟

لا جواب.

في لبنان، المشهد واضح جداً. الدين في خدمة زعماء الطوائف. والسياسات لها مرجعيات يتولاها رجال الدين من بكركي، الى الكنيسة الارثوذكسية الى دار الفتوى، الى المجلس الشيعي الى.. اين لبنان وأين اللبنانيين؟

أين هي الحرية في العالم العربي؟ السلطات السياسية والدينية تُعامل الناس كالعبيد. تُجرد الانسان من ابرز قيمة تجعل منه كائناً، وهي قيمة الحرية: استذكر طفولتي ومراهقتي عندما كنا نُرتل، مراراً وتكراراً: “نحن عبيدك”. الله حررنا وليس مستعبداً لنا. الله يكره العبيد. ولا أستطيع ان أفسَر كيف تم إلصاق صفة العبودية بأسماء افراد وعائلات، في بلاد العرب. غريب. عبد الله، عبد الحميد، عبد الأمير، عبد الناصر، عبد النور، وعبد المسيح وعبد الحسين و..

من اخترع هذا الاذلال للبشر، بحيث ان الاستعباد يصير لقباً مشاعاً او اسم علم متداول؟ أفضل الإيمان، إيمان الاحرار. الحرية، معادية حتماً لعلاقات الأمر والإخضاع. أليس من الصواب، أن يكون المؤمن حراً، وغير مقيد، بالأوامر الكنسية وفتاوى الملل والنحل؟

لا بد من البحث عن أدلة مرجعية، في المسيحية والإسلام. أولاً، لا أعرف في الانجيل والقرآن، مقاماً لرجال الدين. لا رجال دين في المسيحية، كذلك في الإسلام. هذه بدعة دنيوية. اقتناص مكانة ومنصب. لا اشارة البتة الى هذه الرتبة” الفخمة”. ثانياً، في زمن يسوع وفي حياة محمد.

الإنسان، هو انسان وليس إلها، ولا ابن إله. هو كائن متعدد، مختلف، يستعمل كل الأفعال. نعم. كل الأفعال. الأفعال المنتشرة في القواميس والمراجع، هي من صنع انساني وممارسة إنسانية. ربط أفعال الانسان بالإرادة السماوية، غير مُجدٍ. لا يحاسب الانسان على كونه عبداً ومأموراً. يحاسب الحر على ما يقوم به. الحرية ليست مجانية. انها مسؤولية، ولها تبعات كثيرة.

أما رجال الدين، فهم بدعة من البدائع الفاشلة روحياً. رجال الدين تحوَلوا الى سلطة. سلطة قاهرة وآمرة وجابية. (الجباية ليست مدنية فقط). رجال السلطة لا يؤمنون بالكلمات، بل بالقوة والاخضاع والجباية والسرقة والفساد. ترسانة التهديد باسم الله هدفها رفع الترهيب الى موجب إلهي. وهي تستعمل للإضافة والاخضاع واستعباد المؤمنين. وسيفضى ذلك الى لعب دور تصبح فيه المؤسسة الدينية، سلطة سياسية تقود الحروب والحروب المضادة، تغذي الفتن وترتكب المجازر. ايضاً نكرر. هناك دين الملوك. ودين الفقراء. دين الملوك استعباد. دين الفقراء عبادة.

جان كالفن البروتستانتي الإصلاحي حوَّل جنيف في عصره الى قندهار. كان سبّاقاً لـ”الداعشية”.

أين هو المسيح المطلوب؟ إنه مذهَب على صليب من ذهب وزمرد وياقوت. أين المحبة؟ أين العدالة؟ أين الرحمة؟

أخيراً نهبط من علياء الكلام الى ارض الواقع في لبنان:

سؤال أول خاص بالشكل فقط: رجال الدين في مواقعهم العليا، هل تظهر عليهم علامات الفقر أم علامات الثراء؟ ذهب، سيارات، مرافقون، خدم، حشم، أموال.. الى آخره. أليسوا على ثراء؟ طبعاً، هم نذروا الطاعة والعفة والفقر. ابداً. من سيماهم تعرفونهم.. رجال الدين ليسوا فقراء، الا من خرج من صراط الاجتماع السياسي، وتمثل بأبي ذر والأب بيار.

سؤال ثانٍ: من كلام الانجيل ما يلي: “فليكن كلامكم نعم نعم، ولا لا، وكل ما عدا ذلك فهو من الشرير”. حسن، انهم يتقنون فن الكلام المتبدل بين ليلة وضحاها. لبنان محظي بالمرجعيات الدينية. هي ليست دينية بالمرة، هي مرجعيات سياسية، وعلى وفاق تام، الى حدود التبعية، للسلطات السياسية والمالية، وهي عابرة للحدود. لبنان ضيق عليها. يستثنى الدروز من هذا الرقص بين العواصم ذات الأموال والانياب. لأنهم اقلية بلا معين او سند خارجي. المال هو إله المرجعيات.

سؤال ثالث: دخلت المرجعيات الدينية مساحة القول والفعل. هي تتناغم طائفياً، مع سياسيين في ذروة الفساد، مع مصارف في منصات التبادل و.. (ضع الكلمة المناسبة). المرجعيات لها حق الفيتو، وتدعمها دول، مثال اميركا وفرنسا والسعودية وايران و.. ولا خجل في ذلك. والغريب، ان الأكثرية الدينية على دين قادتها السياسيين والروحيين المزدانين بالذهب والزبرجد والاقحوان. لا أعرف مرجعية دينية وحاشيتها، لا تمدُ يدها. أي: “هات”.

أخيراً، أخيراً، أخيراً؛ إننا بانتظار الآخرة القادمة على أسنة الآيات. أليس هذا ما يدعى الحروب الأهلية؟

لم يتجرأ أحد بعد على الدم. توازن المرجعيات، يمنع ذلك.

لأننا، “ما شفنا مين مات”. والذين ماتوا، ذهبوا مع النسيان. ولم يتحقق من شهادتهم إلا الخراب.

مارون عبود كان على حق. من يعيد قراءته الساخرة؟

أما الشاعر الراحل حسن عبدالله، فقد أحسن الوصل بين الغراب وولي العهد.

* مثقف وكاتب لبناني

المصدر: 180 بوست

التعليقات مغلقة.