الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

فتوى تحريم الهجرة: وصاية على الناس واحتكار غير مشروع لمعرفة الواقع

مناف الحمد

بعيدًا عن أن المفتي إنما يصدر فتواه إذا استفتاه المستفتي، فإن فتوى تأثيم من يهاجر من السوريين وحرمة هذه الهجرة التي جاء فيها أن “كل سفر لم يكن آمناً يُعرض حياة صاحبه إلى خطر الموت أو الضياع أو الغرق فهو سفر ممنوع شرعاً، ويأثم قاصده وطالبه” تقوم على ركن تعريض الحياة للخطر، وواضح أن مقصد الحفاظ على النفس، وهو من مقاصد التشريع، هو الذي تستبطنه هذه الفتوى كمقصد يبرر صحتها. وهو واضح من عبارة “خطر الموت أو الغرق”، ولكن إضافة كلمة “الضياع” تجعل الأمر ملتبسًا؛ فلا ندري ما معنى “الضياع” المقصود هنا، وهل تجنب الضياع هكذا مبهمًا بدون تحديد هو من مقاصد الشريعة. إذا كان المقصود بالضياع ضياعًا يفضي إلى خطر الموت فلا بد من تحديده، والبناء عليه لكي ينسجم مع روح الفتوى والمقصد الذي تستند إليه.

ولنفترض جدلًا أن العبارات واضحة المعاني، مبررة بمقصد الحفاظ على النفس، وأن الفتوى كانت جوابًا عن سؤال مستفتٍ، فإن السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا: هل يمكن لعلة الحفاظ على النفس أن تصلح أصلًا يلحق به واقع هجرة السوريين كفرع يلحق بهذه العلة كأصل؟. إن كلمة “واقع” المذكورة هنا إنما تمثل ركنًا أساسيًا لتحقيق المناط الذي هو: “إثبات علة متفق عليها في الأصل في الفرع لإلحاق الفرع بها”.

ولا بد لمعرفة الفرع وصلاحيته لأن يكون محلًا صالحًا لتنزيل الحكم المعلول بالعلة عليه من معرفة الواقع معرفة تشمل كل تضاريسه، وتربط بين لحظته الحالية وما سبقها، وما يمكن أن تؤول إليه استصلاحًا واستصحابًا وسدًا للذرائع.

أما معرفة الواقع  بكل تضاريسه في حال هجرة السوريين، فهي معرفة لا يمكن تحققها برؤية سطحية تقتصر في مداها على ما يمكن أن تتسبب به الهجرة من تعريض حياة المهاجر لخطر الموت، ففضلًا عن أن الواقع متغير وجدلي وسيال، ولا يحق لجهة ما أن تدعي إمكانية القبض عليه، وهو كما قلت مرارًا يحتاج من أجل الاقتراب من معرفته حوارًا بين رؤى متنوعة للخروج بالقدر الممكن من الإحاطة به، وهي إحاطة لا تصل إلى تمامها أبدًا، فهي رؤية تقتصر في مقاربتها للواقع على مآل من مآلات الواقع لكي تنزل حكم الحظر على هذا الواقع، وهي رؤية -وحالها هذه- تختزل الواقع في بعد واحد مغفلة جوانبه الأخرى التي من أهمها القلق الوجودي الذي يعانيه جمع كبير من السوريين  جراء التضييق الذي يعانونه في محل إقامتهم بسبب فقدانهم لصفة اللجوء القانونية، ولكونهم -بسبب وضعهم هذا- عرضة لتغيرات العلاقات السياسية التي قد تدفع بهم نحو المجهول، وهو مجهول قد ينطوي على أخطار أكبر  من الخطر المذكور في الفتوى، اخطار قد تطال النفس والمال والعرض.

كما أن هذا الواقع الذي يبتسر في الفتوى يشمل في جزئياته أطرافًا أخرى يمثل السوريون واحدًا منها، وهي أطراف دولية وإقليمية، والمهاجرون أو الذين يسعون إلى الهجرة هم الطرف الأضعف الذي تخاطبه الفتوى من دون النظر إلى ما يربط هذا الطرف ببقية الأطراف التي تعمل مباضعها فيه وتفاقم من حالة ضعفه وقلقه.

إن الاستقواء على الطرف الأضعف في معادلة الواقع ذي الأطراف المتعددة بتوجيه خطاب يمنعه من النجاة بنفسه من أخطار هو وحده الذي يصلح لتحديدها، وهو الذي يمكنه في واقعه المعقد هذا أن يكلف بتحقيق المناط بسبب معرفته أكثر من غيره بحيثيات واقعه، وبإغفال أطراف الواقع الأخرى يمثل جانبًا من جوانب افتقار الفتوى إلى مبررها الشرعي.

أما معرفة الواقع بأبعاده، فلا يكفي لتحققها البناء على ما يتعرض له المهاجر من مخاطر على حياته أو على ماله أو على ما يمكن أن يتعرض له من إهانات وإذلال، وهذه الأخيرة لا ندري تحت أي مقصد من مقاصد التشريع تندرج، وإنما لا بد لتحققها من معرفة اللحظة التي سبقتها واللحظة التي تستشرفها. وعلى الرغم من أن هذه المعرفة تحتاج إلى تلاقح رؤى متنوعة كمعرفة تضاريس الواقع بأبعاده، فإن المهم هنا هو أنه إذا كانت اللحظة الماضية معروفة للعموم، فإن ما يمكن أن يستشرف في لحظة قادمة لا يقل في انطوائه على المخاطر المتنوعة عما تتضمنه مخاطر الهجرة عبر الطرق غير الآمنة.

لا يمكن لمن يجلس مسترخيًا مستقرًا، آمنًا في سربه، مدللًا عند مضيفيه أن يقرر عن المهاجر الفاقد لكل ما سبق ما الفعل الذي ينبغي أن يبادر إليه للنجاة من مخاطر حالية ومستقبلية، وقد دفعته إليها مخاطر في لحظة ماضية ووعود بذلت له لم يتحقق إلا أقلها.

إن تحقيق المناط بما هو الجسر الواصل بين حكم منصوص على علته، وبين واقع مشخص لتحقيقها من اجل تنزيل الحكم على هذا الواقع في حالة السوري الذي يقرر الهجرة مهمة صاحب هذا القرار؛ لأنه الأعرف بواقعه وما يحفّ به ظروف.

ليست الوصاية في هذه الفتوى مقتصرة على الحلول محلّ المكلف في تحقيق المناط، وإنما في عموميتها وشمولها لكل مهاجر أو راغب في الهجرة عبر الطرق التي تسميها الفتوى غير آمنة، ومعلوم أن المفتي الذي يعطي فتوى واحدة للجميع هو كالطبيب الذي يصف دواء واحدًا لكل مرضاه كما قال ابن القيم.

إن للحكم الوضعي بأسبابه وشروطه وموانعه دورًا في تقييد مطلق الحكم التكليفي وتخصيص عمومه، ولا يطلق الحكم التكليفي على عواهنه بعلة يختلط فيها توخي مقصد الحفاظ على النفس مع ما لا يندرج تحت أي مقصد تشريعي (الإذلال والإهانة) مع ما لا يتبين المقصود به(الضياع).

كان الأجدر بإخوتنا ومشايخنا في المجلس الإسلامي السوري أن يحاولوا تخفيف الوطأة على السوريين الذين ضاقت بهم الأرض بما رحبت، وحاصرهم القلق من كل مكان، وبعدت الشقة بينهم وبين بصيص الأمل في مكانهم عبر حوارات مثمرة مع أصحاب القرار بدل إصدار فتوى تحريمية قاطعة شاملة تفتقر إلى معرفة تضاريس الواقع، كما لا تأبه لبذل الجهد في دراسته بكل أبعاده.

لقد كانت وصايتكم على الناس لتكون أسهل في تقبلها لو أنكم قصدتم أصحاب القرار لرفع بعض ثقل القلق الوجودي عن كاهل السوريين، وهي مهمة أكثر إلحاحًا بكثير من محاولتكم البائسة إقناع قادة حماس بالعدول عن مدّ الجسور مع نظام الأسد.

التعليقات مغلقة.