الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

نشأة الدولة السورية الحديثة وتحوُّلاتها(*)(1 – 4)

د- عبدالله تركماني

شغلت ظاهرة الدولة علماء السياسة، والمدارس الفلسفية، والاتجاهات الفكرية، فراكموا حولها نتاجاً ضخماً من النظريات، في تفسير عوامل نشأتها، والكشف عن محدّدات خصائصها، واستجلاء الفروق الجوهرية بينها وبين مفهوم السلطة والعمليات المؤثرة في مجرى سيرورتها، وتطورها، ومآلاتها. لكنّ أكثر ما اتُفق عليه وجود الشعب، والإقليم، ومؤسسة السلطة.

إنّ الدولة السورية في تجلّيها المعاصر بعد سايكس- بيكو طورت هوية وطنية، تشكلت بحكم تعايش مختلف مكوّناتها، بل تماهيها مع بعضها البعض خلال قرن كامل من العيش المشترك والمصير المشترك والمصالح المشتركة. هذه الهوية السورية التي لا تعدم امتدادات تاريخية حقيقية، وجدت لنفسها منافذ كثيرة للتعبير على مختلف المستويات الاجتماعية، من لغة الشارع والعواطف الشعبية والأمثال والعادات والأذواق إلى الإرهاصات الثقافية من أدب وفن ومسرح وكتابة. وقد بدأت إرهاصات هذه الهوية الوطنية السورية بالتبلور إلى أن فتق الخيار الأمني لسلطة آل الأسد، في مواجهة ثورة الحرية والكرامة عام 2011، الكثير من لحمة السوريين وأعاد قسماً كبيراً منهم إلى الانتماءات الفرعية.

وفي الواقع لم يعد من الممكن اليوم الحديث عن مجرد أزمة الدولة الوطنية السورية، بل هو سؤال وجود، بعد أن تحولت الأزمة إلى مأزق تفجرت معه البنى المؤسساتية والمجتمعية في آن، وباتت أمام حالة إعادة تشكُّل لا يُعرف مصيرها بعد، خصوصاً أنها باتت تُصنَّفُ بأنها “دولة فاشلة”، ضمن المعايير الدولية المتبعة في تصنيف فشل الدول، ومن أهمها فقدان سيطرة الدولة على أمنها الداخلي وحدودها.

لقد ورثت سورية تركة ثقيلة من نظام الاستبداد: دولة متأخرة، ونفوذ جماعات تتسلط على مصالح البلاد والعباد، وحزب ومنظمات شعبية وأحزاب مشاركة مترهلة تبحث قياداتها عن مصالحها الذاتية، وإدارة اقتصادية غير حكيمة في إدارة الموارد الاقتصادية والبشرية بشكل عقلاني لإنتاج عناصر تطوير وتعظيم لها، وسجل حافل بانتهاكات حقوق الإنسان. فقد حوّلت سلطة آل الأسد سورية إلى دولة فئوية تقودها نخبة من أصحاب الامتيازات الذين يرفضون المساواة بين السوريين. كما أنّ مجتمع الحزب الواحد أشاع حالة من السلبية والعزوف عن الشأن العام، وغابت لدى غالبية الأفراد والجماعات المبادرة الذاتية والتفكير المستقل، وحصلت حالة من القطيعة بين عموم أفراد المجتمع والنخبة السياسية، في السلطة والمعارضة معاً، بعدما بطشت السلطة بقوى المعارضة وأنهت أي تعبير عن حياة سياسية طبيعية، من دون أن يعفي هذا أحزاب المعارضة من مسؤولياتها وأخطائها. وأفضت حالة الانفصال والقطيعة إلى إنتاج التكلّس ومراكمته في مفاصل المجتمع والسياسة، وإيجاد بنية مجتمعية راكدة فارغة من أي حافز للاجتهاد والإبداع، وأعادت إحياء روابطها الفرعية، ما قبل الوطنية، من عشائرية وقومية وطائفية وغيرها.

وهكذا، لم تذهب الدولة السورية في اتجاه العقل والعلم والتقدم، بل بقيت تراوح في إطار الدولة الخلدونية، دولة القهر والغلبة، بكل ما بينها وبين العقل والعلم من تجافٍ واستبعاد، فلم تفلح في مواكبة ثورة العصر الحداثية، بل أنها لم تحجم عن مصادرة حريات المجتمع وقضاياه، بمقدار ما كانت تنأى عن العقلانية وتقصيها في سيرورتها التاريخية.

أولاً – مداخل الدراسة:

1 – الدولة الوطنية الحديثة

استمد عصرنا وصفه بأنه حديث من تغيّرات جوهرية، في مقدمتها التمييز بين الدولة والسلطة، وتحوّل الشعب من رعايا إلى مواطنين، فصار هو مصدر السلطة وصاحب السيادة في الدولة. وهذه هي السمة الأساسية التي تميّز العلاقة بين الشعب والسلطة في العقد الاجتماعي الذي تقوم عليه الدولة الحديثة. وفي غياب هذه العلاقة، تكف الدولة عن أن تكون دولة بالمعنى الحديث، وتتجاوز السلطة وظيفتها، وتتضخم على نحو لا تبقى معه حاجة إلى المشاركة المجتمعية التي باتت أهم مصادر قوة الدولة. وتصبح السلطة على هذا النحو مستعدة في بعض الأحيان لأن تفعل أي شيء لمنع أي تغيير، بما في ذلك قتل الشعب أو تهجيره كما يحدث في سورية.

لقد نهضت الدولة الحديثة في صيغ عدة مستلهمة أفكار الفلاسفة الكبار، وأبرزهم هيغل (1770- 1831) الذي عدّها “الفكرة الأخلاقية الموضوعية الواجب تحقيقها، وهي الروح الأخلاقية بصفتها إرادة جوهرية تتجلى ذاتها بوضوح، وتعرف ذاتها وتفكر بذاتها وتنجز ما لا تعرفه لأنها لا تعرفه”. ناهيك عن اعتبارها أعلى مراتب التطور التاريخي، ويتجلى فيها سمو العقل وإحقاق الحق بين الأفراد (1).

إنّ ظهور الدولة الحديثة جاء كمحصلة لعملية تاريخية، متعرجة ومعقدة وطويلة، ولّدتها سلسلة حروب دموية ضارية شهدتها المجتمعات الأوروبية، قبل أن تفضي إلى إبرام معاهدة وستفاليا في سنة 1648 للسيادة والاستقلال. في حين أنّ هذه الصيرورة، التي استغرق تحققها مئات السنين في أوروبا لم تحصل في سورية، لا من حيث الولاء الوطني، ولا من حيث سيادة دولة القانون والمؤسسات والمواطنة المتساوية. في حين أنّ الدولة الحديثة لا تقوم إلا بشيوع مبدأ المواطنة، حيث يعرف الفرد بانتمائه للوطن، وليس لمهنته أو معتقده أو منطقته، أو ماله أو سلطته أو عشيرته أو دينه، وإنما يعرف قانونيًا واجتماعيًا بأنه مواطن، له حقوق وعليه واجبات، يتساوى فيها مع جميع المواطنين.

إنّ الدولة الوطنية الحديثة هي دولة حيادية، يجب ألا تكون خاضعة لحزب أو فئة اجتماعية أو دينية أو إثنية، أي أنها دولة جميع المواطنين، وأي انتقاص من المفهوم الحيادي للدولة هو مقدمة لشرخ بين الدولة والمجتمع، ومقدمة لاحتكار النظام السياسي للسلطة، وهو ما يؤسس – عملياً – لأزمات بنيوية قابلة للتفجر، ويكون من الطبيعي حينها أن يكون الصدام بين الشعب وسلطة الدولة هو التعبير الواقعي عن مستوى استفحال الأزمة، خصوصاً مع الغياب الطويل لأشكال التعبير النقابية والسياسية.

والإطار الصحيح لقيام هذه البنية هو: المواطنة كعقد لتنظيم علاقات الأفراد والجماعات، والديمقراطية كإطار لقيام مشاركة سياسية تضمن فصل السلطات، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وتداولها، والتنمية الشاملة لاستثمار الموارد الطبيعية والبشرية وتطويرها وتوظيفها لقيام اقتصاد منتج، يرفع مستوى معيشة السكان ويؤمّن العدالة الاجتماعية.

وفي أنموذج الدولة الوطنية الحديثة، يضمن نظام الدولة ودستورها للمعارضة حقوقاً واسعة، ليس في الرقابة على السلطة التنفيذية ومساءلتها فحسب، بل المشاركة في صنع القرار، إذ المعارضة – في منطق الدولة الحديثة – هي جزء من السلطة، وليست جسماً سياسياً خارج السلطة كما قد يُظن (2).

وتكمن خصوصية التحديث في الدولة السورية في انفصاله الكلي عن المسألة الديموقراطية، والحداثة السياسية، سواء في مفهومها الليبرالي المتعلق بإحلال مفهوم المواطنة، والاعتراف بسلطة الفرد الحر المسؤول، وبناء المؤسسات السياسية والدستورية التمثيلية، وما تقتضيه من إحلال قيم المشاركة السياسية من جانب الشعب في الشأن العام، بما في ذلك حق الانتخاب وحق الرقابة على مؤسسات الدولة وعلى رجال الدولة باعتبارهم وكلاء المصلحة العامة، أم ببعدها المتعلق بالتوزيع العادل للثروة الوطنية وتوحيد جهود التنمية وفق اختيارات اقتصادية اجتماعية تخدم مصالح الطبقات والفئات الشعبية.

والحال، فإنّ ما نشهده اليوم من حروب وصراعات محلية وإقليمية ودولية في سورية وعليها، يبدو في أحد جوانبه وكأنه تكرار للحروب الدينية التي شهدتها أوروبا في القرون السابقة، قبل أن تفضي في محصلتها إلى بناء الدولة الوطنية الحديثة.

والسؤال المطروح الآن هو: هل سيتوجب على السوريين أن يعيدوا الكرة والسيرورة ذاتها التي مرت بها الشعوب الأوروبية قبل أن تصحو وتتفق على أنّ هذا النهج المدمّر لا يجدي ولا ينفع، ولا بدَّ من الاهتداء إلى ضرورة صوغ عقد اجتماعي جديد، يقود إلى بناء دولة تكون لكل مواطنيها من دون أي تفريق على أساس ديني أو أثني أو مذهبي أو عشائري أو مناطقي أو جنسي.

2- الدولة الفاشلة والدولة المستباحة والدولة المارقة

لفت مفهوم الدولة الفاشلة أنظار الباحثين بعد نشر مجلة ” فورين بوليسي” مقالاً في نهاية سنة 1992 بقلمَي جيرالد هيلمان وستيفن راتنر، حول ظاهرة تفكك الدولة القومية وتصاعد الصراعات الأثنية في العالم، لاسيما بعد انتهاء الحرب الباردة. وهو مصطلح يُتداول الآن على نطاق واسع في التحليلات الاستراتيجية، فهي كما قدمها نعوم تشومسكي قبل أعوام عدة تلك التي تفشل أولاً في حماية مواطنيها ثم في تأمين سيادتها وحدودها الإقليمية. وهناك الدولة المستباحة التي فقدت هيبتها تماماً وأصبحت أبوابها مشرعة على مصاريعها. أما الدولة المارقة فهي التي تخرق القوانين الدولية، المتعارف عليها في هيئة الأمم المتحدة.

وهذه المفاهيم الثلاثة تعبر عن حالة الدولة السورية، فمن جهة فقدت سلطة آل الأسد سيادتها على حدود سورية، ومن جهة أخرى باتت مستباحة من روسيا وميليشيات إيران الطائفية، ومن جهة ثالثة تسوّق مخدر الكبتاغون في المنطقة والعالم.

3- الاندماج الوطني

حتى تتم عملية الاندماج الوطني على خير وجه، وتؤدي دورها في رفع الجماعة ودفع المجتمع إلى الإمام فلابدَّ من توافر شروط عدة يمكن ذكرها على النحو التالي (3): الطوعية، لأنّ الوحدة الوطنية القسرية غير قابلة للديمومة. والخصائص البنيوية المشتركة، ومنها ما يتعلق بالقيم الاجتماعية السائدة والمتوارثة، ومنها ما يرتبط بالثقافة التي تحكم الأذهان وتصقلها، وتحدد السلوك وتعيّنه، بما تنطوي عليه من معارف وقيم وتوجهات يمكنها أن توظف لبناء الوعي الذي يؤسس للعيش المشترك، ثم يفتح الطريق أمام البحث الدائم والدائب عن الاندماج الوطني. ومنها كذلك ما يرتبط بالجوانب الاقتصادية ومقتضيات السوق التي تبني شبكة من المصالح بين الفئات والشرائح والطوائف تجعلها حريصة على أن تبقي علاقات جيدة مع الكتل الاجتماعية المغايرة. وهناك أيضاً الأبنية السياسية التي بوسعها أن تلعب الدور الأكبر والأهم في إيجاد تلاحم بين أبناء الوطن الواحد، مهما توزعت هوياتهم على اتجاهات عدة، فالأحزاب السياسية والبرلمانات يمكن في الدولة الديمقراطية أن تكون معامل لاندماج أتباع مختلف الهويات ودفعهم في سبيل إيجاد حلول لمشكلات تواجه المواطنين كافة، وتشريع ما يخدم الجميع. ويمكن أيضاً أن تكون المؤسسات البيروقراطية والجيش والمعاهد التعليمية أماكن جيدة لتعزيز التعايش والاندماج الوطني، من خلال إتاحة الفرص لمنتمين إلى هويات متعددة في أن يتفاعلوا في مكان واحد، وينفتحوا على أفكار وسلوكيات غيرهم.

كما أنّ هناك الإطار العادل، فالدستور الذي يحكم التصورات والممارسات داخل الدولة يجب ألا يفرق بين المواطنين على أي من الاختلافات القائمة بينهم، بل تساوي نصوصه بين الجميع في الحقوق والواجبات. إضافة إلى وجود المشروع السياسي والحضاري المشترك، الذي يتحلق حوله جميع المواطنين ويعملون من أجل نجاحه، إذ إنّ حضور هذا المشروع بشكل طوعي يؤدي إلى التوحد والاندماج.

4 – التماهي بين السلطة والدولة

الدولة ليست السلطة أو نظام الحكم لتعاليها وحيادها أولاً، ثم لأنّ مجالها أوسع بما لا يقاس من مجال السلطة والنظام ثانياً، فالأخيران جزء منها. يقتضي ذلك أن نميّز بين المجالين راسمين حدودهما لتبديد التباس الصلة بينهما في الأذهان. والتمييز هذا يمكن أن يكون من مداخل منهجية مختلفة، من حيث مساحة التمثيل، ومن حيث الوظيفة الاجتماعية السياسية، ومن حيث الأدوات، كما من حيث درجة الاستقرار. ويمكن الاستعانة، في هذا المسعى، بالقانون وعلم السياسة وعلم الاجتماع والاقتصاد، فهي جميعها توفر الأدوات الكفيلة بإنجاز مثل ذلك التمييز (4).

إنّ منطق مؤسسات الدولة منطق مهني، محايد تجاه السياسة ومنازعاتها وأهوائها، ومنطق مؤسسات السلطة الحاكمة سياسي، غرضه تحقيق برنامج محدد. ومع تدهور وضع الدولة الدستورية، وسيطرة النزاعات المتعددة على النفوذ والسلطة، تخترق السلطة الدولة وتوجهها، وتشترط قواعد عملها، وصارت إرادة السيد الأوحد الذي يتحكم بالنظام هي القانون الذي يحكم الدولة نفسها، وصار الرئيس سيد الوطن، أي صاحبه ومالكه والمتصرف به.

وهذا ما يفسر سبب تراجع أنموذج الدولة الحديثة في سورية مع مرور الوقت، بدل أن يتطور نحو دولة مكتملة الوظائف والأوصاف والمهام، فالدولة لم تعد سوى أداة من أدوات الصراع على السلطة بين أجنحة النخبة المتنافسة، كالحزب والطائفة والعشيرة والأجهزة الأمنية، ومزرعة لشراء الأنصار، وليست مؤسسة لتحقيق برنامج بناء الوطن وضمان مصالح المجتمع، وتمكينه من الاندراج في حضارة العصر.

إنّ اختصار الدولة إلى حدود سلطة الحاكم الفرد، يقــود إلى قطيعة معرفية وسياسية واقتصادية مع طبيعة الدولة المؤسساتية، ويحوّلها إلى سلطة ذات جوهر شخصاني – فئوي. والسياق التاريخي لتطور بنية الدولة، وأشكال تجلياتها في سورية، كان يميل إلى تمكين دولة السلطة.

 5– سيادة الدولة

الفكر السياسي الحديث لا يعترف بوجود مواطن مجرد من الحقوق، أو من المكانة القانونية، فهذا بالضبط ما يميز مواطن الدولة الحديثة، مصدر السيادة، عن الفرد من “الرعية” في أنظمة الحكم المطلق، أو أنظمة العصور الوسطى وما قبلها، المستندة – أساساً – لفكرة التفويض الإلهي، أو الغلبة. ولم يُبتذل مفهوم سيادة الدولة بقدر ابتذاله، أو استخدامه في سورية، حيث ابتُذل فيها كل شيء، فالدولة قضمت، وأضحت مجرد نظام أو سلطة، والديموقراطية اختزلت بانتخابات صورية، والانتخابات باستفتاءات، والمواطن بالموالي أو الخانع أو الخائف، حتى الدساتير تم ابتذالها إلى مجرد حبر على ورق، تهمّشت فيها القوانين ولا سلطة فيها إلا للحاكم (5).

المعنى أنّ فكرة السيادة هنا تفتقر إلى الركنين اللازمين، من زاوية الفكر القانوني الدولي، وهما التزام الحاكم بالدستور، أي بالعقد الاجتماعي، ووجود مواطنين بمعنى الكلمة، الأمر الذي يطرح التساؤل حول مضمون كلمة “وطنية” هنا، المقترنة بالسيادة، إلا إذا كان القصد منها الدلالة على الحاكم، الذي اختزل المواطنين والوطن بشخصه. والفكرة هنا أنّ هذا النظام هو المسؤول عن انهيار الدولة، وذلك قبل اندلاع الثورة بكثير، التي ما كانت لتندلع أصلاً لولا أنّ الأمور سارت على هذا النحو، وتفاقمت إلى هذا الحد.

6- محددات الدولة السورية

إذا ما أردنا أن ندخل إلى طبيعة محددات الدولة السورية فإنه يمكننا تثبيت النقاط التالية (6):

أ – بناء حداثة غير عقلانية مستهلكة وغير قادرة على النمو أو الإنتاج، أي بناء حداثة هشة وقشرية ورثة كما أسماها “برهان غليون” بـ “الحداثة المغدورة”.

ب – القطيعة بين الدولة والمجتمع، إذ حدثت قطيعة شبه كاملة بين الدولة، كظاهرة مهمتها بناء نظام سياسي وسلطة عادلة لخدمة الناس، وبين المجتمع كموضوع لعمل الدولة على مستوى التنمية والتطور والتقدم وتحقيق العدل والأمن والأمان، الأمر الذي حوّل الدولة السورية إلى دولة خاصة بأهل السلطة الحاكمة. وترافق ذلك مع نزع السياسة من المجتمع باعتبارها فاعلية اجتماعية ومجتمعية حرة ومجالاً عمومياً للمجتمع، وهي أحد أرقى الأشكال التنظيمية لوحدة المجتمع، الأمر الذي أدى إلى تغييب قسري كامل لدور المجتمع في السلطة.

ج – ضمان استمرار بعض أهل السلطة بأي أسلوب كان، والحفاظ على استقرارهم وثباتهم في مراكزهم ومناصبهم العليا، وقد تعمّد هؤلاء إلى شن حروب أهلية كامنة، بل وحروب أهلية صريحة، ضد مواطنيهم بواسطة أجهزة العنف المتعددة.

د – الخلط بين السلطة التنفيذية والدولة، في حين أنّ الحكومة ينبغي أن يُنظر إليها على أنها مؤقتة، وأنّ الدولة ومؤسساتها هي دائمة وتهم جميع المواطنين.

ه – مواجهة الطموح إلى التغيير بالقوة، وعندئذ تطفو على السطح ظاهرة الاحتقان السياسي والاجتماعي، وبالتالي الثورة.

7 – الثقوب السوداء التي قوّضت وظائف الدولة

ثمة ثقوب سوداء تبتلع جهود الشعب السوري وتقوّض وظائف الدولة، على ما بين الشعب والدولة من تباين في الدور والموقع، ومن أهمها (7):

أ- الدولة الفاشلة: فإذا استندنا إلى السمات العامة التي يقوم عليها تعبير الدولة الفاشلة، وقارناها بواقع الحال في سورية، لأُمكن القول: إنّ الكثير منها يندرج في سياق الدول الفاشلة. ففي سورية تنتشر حالة فقر شديد في أوساط شعبية واسعة تكاد تصل إلى 90 بالمئة من السكان وربما تتجاوزها. ولعلَّ الطبيعة الاستبدادية للنظام السياسي في سورية، تمثل الأساس في ظهور الدولة الفاشلة. ذلك أنّ الاستبداد يفرض أنماطاً في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة من شأنها خلق أزمات في الحياة العامة، ثم تأتي سياسات النظام لتضيف تفاصيل في تردّي الحياة العامة، فتدفع إلى بلورة بعض سمات الدولة الفاشلة أو أكثرها، وقد تأتي التدخلات الخارجية لتكرس سمات الدولة الفاشلة.

ب- الدولة الأمنية التسلطية: إذ هناك ثلاثة أركان تقوم عليها الدولة الأمنية التسلطية، وتمكّنها من إنتاج مجتمعها الجماهيري، هي: الإرهاب والأيديولوجية والإعلام الموجه. وثمة عدة مبادئ تضمن هذه الأركان وتعززها، هي: مبدأ الاحتكار الفعّال للسلطة والثروة والقوة، واحتكار الحقيقة، واحتكار الوطنية، ومبدأ الغلبة والقهر، ومبدأ شخصنة السلطة، وعبادة القوة، أي تماهي الشخص والمنصب الذي يشغله، وانتقال قوة المنصب المادية والمعنوية إلى الشخص الذي يغدو مثال القوة والعظمة. وفي هذه الحال تحلُّ الأوامر محلَّ القوانين، والامتيازات محلَّ الحقوق، والولاء والمحسوبية محلَّ الكفاءة والجدارة والاستحقاق.

ج- الفساد: الذي لا يلتهم فقط عوائد التنمية، ولا ينتزع اللقمة من أفواه معظم المواطنين، بل يقوّض كذلك ما قد يبذل من جهود للخروج من التأخر، ويُغرق السوريين في تأخر يتفاقم دون هوادة، فيجدون أنفسهم في وضع من يركض إلى الخلف ووجهه إلى الأمام.

ثانيًا – نشأة الدولة السورية الحديثة

لم تكن سورية وحدة سياسية مستقلة طيلة تاريخها حتى سنة 1920، فقد كانت منذ القرن الثالث عشر أحد مكوّنات السلطنة المملوكية ثم الإمبراطورية العثمانية، ويعتبر اسمها إرث من العصور القديمة، في حين استخدمت الحقب الإسلامية المختلفة تعبير “الشام”، وسمّاها الجغرافيون “سورية الطبيعية” أو “سورية الكبرى”، أي سورية ولبنان وفلسطين والأردن.

لقد أصبح شكل بلاد الشام بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى: احتلال فرنسي للبنان وسورية، واحتلال بريطاني لشرق الأردن والعراق وفلسطين. كما أنّ الجهود السياسية، التي بذلها بعض زعماء العرب لإعادة الثقة واستمرار تيار الحركة العربية، اتسمت بالعمل القطري، وانكفأت على مشاكلها الداخلية، ومثّلت تراجعاً عن زخم الحركة العربية واتجاهها الشامل الذي ظهر قبل الحرب العالمية الأولى.

إنّ الحصول على الاستقلال الوطني التام وبناء دولة وطنية حديثة كانا هدفَي الحركة الوطنية السورية، التي تسلمت السلطة تحت وصاية قوى الانتداب الفرنسي، ولكنّ المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية المتراكمة جعلت الأمر غير ممكن. وفي سياق النضال التحرري الوطني شكلت انتفاضة عام 1936 ضد الاحتلال الفرنسي منعطفاً هاماً في النضال الوطني السوري، حين اتفق رجال “الكتلة الوطنية” على تجاوز خلافاتهم والاتحاد لمجابهة الفرنسيين، وكانت قمة جهودهم المفاوضات مع حكومة ليون بلوم من أجل إبرام المعاهدة السورية – الفرنسية، وتلاها تشكيل حكومة الكتلة الوطنية. ولكنّ البرلمان الفرنسي، بعد تأجيلات عديدة، لم يصادق على المعاهدة، فتقوضت بذلك شعبية الكتلة ونفوذها.

لقد مرّت سورية الحديثة بعد الاستقلال في العام 1946 بعدة مراحل: جمهورية أولى نشأت بعد الاستقلال وصولاً إلى الوحدة، ثم جمهورية ثانية بدأت مع الوحدة وانقطعت لفترة بسيطة فيما بين 28 أيلول/ سبتمبر 1961 حتى الثامن من آذار/ مارس 1963 لتعاود التأسيس لنمط الحكم الشمولي الشعبوي، وأتت الثورة الراهنة في محاولة لتأسيس الجمهورية السورية الثالثة.

1- المرحلة الاستعمارية

تكمن الأهمية الأساسية لمرحلة الانتداب الفرنسي في كونها مرحلة انتقالية شهدت تبدلات نوعية، خاصة حين أدخلت سورية- قسراً- في علاقات رأسمالية مرتبطة مباشرة بالسوق العالمية. حيث شهدت المدن والأرياف تبدلات في العمق، إذ تشكل بعضها كمراكز تجارية وسيطة بين الأرياف والسوق العالمية، وارتبطت معها بشبكة من المواصلات، وساهمت في دخول الرساميل إلى قطاعي الزراعة والحرف، واستُبدلت المقايضة بالبيع النقدي، وانتشر العمل المأجور، وبرزت الملكيات العقارية التي تحددت وجرى تثبيتها قانونياً، وازدهرت الأعمال البنكية، وتعزز دور السلع الزراعية المُعدَّة للتصدير. وهذه السمات أعطت لمرحلة الانتداب الفرنسي على سورية طابعاً مميزاً في التاريخ الاقتصادي الاجتماعي المعاصر لسورية، خاصة لتاريخ المسألة الزراعية (8).

إنّ جميع الباحثين في التاريخ الاقتصادي- الاجتماعي لسورية، خلال عهد الانتداب، يتفقون على أنّ 80% من الفلاحين السوريين كانوا عبارة عن مستأجرين للأرض أو عاملين على أساس نظام المحاصصة، مما جعلهم من أكثر الجماهير السورية حرماناً من الحقوق، وأكثرهم جهلاً وتعرّضاً للاضطهاد، ومعظمهم أميون ويعيشون تحت تأثير القيم والعادات التقليدية ما قبل الوطنية.

أما البرجوازية السورية فإنّ فئتها التجارية تضررت خلال مرحلة الاستعمار الفرنسي، حيث خُرّبت الروابط التجارية التقليدية لسورية مع الأقطار العربية الأخرى، عن طريق وضع فلسطين والأردن والعراق ومصر تحت الانتداب البريطاني وفصل لبنان مع جزء من أراضي سورية في دولة واحدة ذات خصائص جمركية مميزة، وكذلك عن طريق تقسيم سورية نفسها إلى عدد من المناطق بحدود مصطنعة. لقد كانت هذه البرجوازية تتعرض للمنافسة من قبل الأسواق الخارجية التقليدية، وحتى داخل السوق السورية. إذ إنّ تدفق البضائع الأجنبية الرخيصة قد خرّب إنتاج سورية الحرفي في عدة مدن سورية مثل حلب ودمشق وحمص وحماه واللاذقية.

إنّ التطور الرأسمالي لسورية قد سار في طريق كولونيالي حيث كان يتم تسليم الخامات الزراعية للاحتكارات المتطورة صناعياً، مما أدى إلى الإفلاس الجماعي للحرفيين والتجار الصغار والمتوسطين، بيد أنّ قسماً كبيراً من البرجوازية التجارية الكبيرة المرتبطة بعمليات التصدير قد بدأ يتخصص في عمليات الوساطة مع الاحتكارات الأجنبية، ويتحول تدريجياً إلى كومبرادور. بحيث تشابكت مصالح هذه الفئة من البرجوازية مع مصالح الرأسمال الاحتكاري الأجنبي.

ونظراً لعدم إمكانية البرجوازية السورية الناشئة توظيف رأسمالها في الصناعة فقد وظفته في التجارة والربا والعمليات الكومبرادورية، وارتبطت مصالحها بمصالح الرأسمال الأجنبي، أو في شراء أراضٍ زراعية، مما جعل مصالحها ترتبط مع مصالح طبقة كبار الملاك. إلا أنّ الحرب العالمية الثانية شكلت مرحلة هامة في التطور الصناعي السوري، وقد تناقص إدخال البضائع الصناعية إلى سورية، وفي الوقت نفسه فإنّ الحاجة إلى البضائع والمنتجات الصناعية قد ازدادت بسبب وجود قوات الحلفاء في سورية، مما أدى إلى إنعاش نشاط الورشات الحرفية الوطنية. وبذلك ظهرت إمكانية تراكم رأس المال وتوسيع الإنتاج، وبدأ عدد من الورش الحرفية الصغيرة في التحوّل إلى مؤسسات رأسمالية. وبالرغم من ذلك فقد بقي الإنتاج الصناعي على مستواه المنخفض من ناحية تركّز الإنتاج والعمل المأجور وسيطرة العمل اليدوي.

إنّ التركيب شبه الكولونيالي للاقتصاد السوري قد ترك بصماته على خصائص تشكل الطبقة العاملة السورية وتركيبها الاجتماعي، فقد كانت نسبة هامة من العمال مكوّنة من الفلاحين الموسميين الذين يسافرون إلى المدينة بهدف العمل، مع الاحتفاظ بصلات وثيقة بالريف. وكان النساء والأطفال يشكلون نسبة كبيرة من العمال (كانت عاملات الصناعة النسيجية تحصلن على نصف وحتى ثلث ما كان يحصل عليه الرجال من الأجرة). لقد كانت ظروف الطبقة العاملة في سورية في ظل الانتداب قاسية جداً، فيوم العمل كان بين 14 إلى 16 ساعة، وأجرة العامل كانت ضئيلة لدرجة أنها لم تستطع تأمين حتى الحد الأدنى من الحياة لعائلته. لم يكن هناك أي قانون للعمل، كما لم يكن هناك أي أمن صناعي (9).

ومن جهة أخرى كان التركيب الاجتماعي لسورية يتصف بوجود نسبة مئوية كبيرة من الفئات البينية في تركيب سكانها، أغلبهم كانوا من الحرفيين والتجار الصغار والمهنيين الذين لم يدخلوا في نطاق العلاقات الرأسمالية، بينما بقوا مرتبطين بالعلاقات الإنتاجية القديمة، ومع المؤسسات التقليدية.

لقد أعاق الاستعمار تكوين فئة مثقفين وطنية في سورية عندما عرقل انتشار التعليم والثقافة، فقد كانت الأكثرية المطلقة (80% من سكان سورية) أثناء عهد الانتداب أمية، وفي عام 1944 كان في البلاد فقط /610/ مدارس ابتدائية وإعدادية يدرس فيها /83225/ طالباً وأربع دور معلمين يدرس فيها /721/ طالباً، ومعهداً عالياً واحداً هو جامعة دمشق التي كان يدرس فيها /494/ طالباً. إنّ نظام التعليم في عهد الانتداب كان موضوعاً على أساس تهيئة مستخدمين وموظفين إداريين للجهاز الإداري الاستعماري، لذا شكل الموظفون ومستخدمو المكاتب نسبة أساسية من المتعلمين المحليين، إنهم كانوا سكان المدن النموذجيين الذي استوعبوا نموذج الحياة الأوروبية المعاصرة.

لقد سعى المستعمرون، من خلال إثارتهم النعرات القومية والدينية، إلى أن يجعلوا من الجيش وقيادته أداة طيعة لتحقيق سياستهم المفضلة “فَرِّقْ تَسُد” وقوة غير متجانسة ومعادية لحركة التحرر الوطني. وقبل أن يصبح هؤلاء المنحدرون من أسر كبار الملاك ضباطاً كانوا يقومون بدورة إعداد أيديولوجي خاص في المعاهد العسكرية في فرنسا، حيث رُبّوا على روح الاحتقار لشعبهم، الذي أصبحوا يعتبرونه “شعباً خانعاً جاهلاً”، ويعتبرون أنفسهم الصفوة “المتفرنجة”. إنّ روح النخبة وشعور التفوق على الشعب قد تطعّم بها الضباط السوريون، وأصبحت إحدى العلامات الأساسية التي تميزهم، وقد ظهر ذلك جلياً في الفترة الأولى بعد الاستقلال الوطنـي لسورية (10).

الهوامش:

  • – نقلًا عن د. هيثم غالب الناهي، الدولة وخفايا إخفاق مأسستها في المنطقة العربية، مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت 2016.
  • – د. عبد الإله بلقزيز، المعارضة بوصفها حاجة سياسية، صحيفة ” الخليج ” الإماراتية – 6 حزيران/يونيو 2016.
  • – د. عمار علي حسن: كيف تنجو الدول من التفكك؟، صحيفة ” الاتحاد ” الإماراتية –   21 تشرين الأول/أكتوبر 2016.
  • – د. عبد الإله بلقزيز: الدولة غير النظام السياسي، صحيفة ” المستقبل ” اللبنانية – 6 حزيران/يونيو 2015.
  • – ماجد كيالي، تصدع فكرتي السيادة والجمهورية السوريتين – صحيفة ” الحياة ” اللندنية – 11 تشرين الأول/أكتوبر 2015.
  • – د. عبدالله تركماني، الدولة وصعوبة تأمين سلامة الإنسان العربي (ورقة قُدمت في إطار ندوة دولية حول ” تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2009 تحديات أمن الإنسان في البلدان العربية ” في مراكش، بدعوة من مركز التنمية لجهة تانسيفت CDRT  مراكش – المغرب، بالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ومنظمة ” كونراد أديناور ” في الفترة 15 – 16 نيسان/أبريل 2011).
  • – د. عبدالله تركماني: الدولة وصعوبة تأمين …، المرجع السابق.
  • – د. مسعود ضاهر، الدولة والمجتمع في الشرق العربي المعاصر (1840 – 1990)، دار الآداب ط 1 – بيروت 1991.
  • – نقلا عن: د. عبد الله حنا، الحركة العمالية في سوريا ولبنان (1920 – 1945)، دار دمشق ط1 – دمشق 1973.
  • – نيفيوديفا . ن.ك، على المبدأ /نضال الحزب الشيوعي السوري من أجل الجبهة الوطنية الموحدة (1936 – 1966)، ترجمة زياد الملا، دار العلم ط 1- دمشق 1992.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(*) – فصل من كتابي المنشور في كانون الأول/ ديسمبر 2020 ” أنماط من بناء الدولة القومية في التاريخ الحديث “.

 المصدر: سوريا المستقبل

التعليقات مغلقة.