الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عامٌ يمضي بين “تفاؤل” «محفوف بالمخاطر» و“تشاؤم” «يزدادُ اتساعاً»

 

إنه الشهر الأخير من هذا العام، وفي الشهر الأخير من كل عام، تقوم الدول والشركات والمؤسسات، وعلى اختلاف أنواعها ووظائفها، بإجراء مراجعات لبرامجها وخططها واستراتيجياتها، لتحديد نسبة النجاح والفشل؛ وأين أصابت وأين أخطأت، وما هي الأسباب التي أدت إلى هذه النتائج، وكيفية معالجة الأخطاء والسلبيات، وما هي البدائل الممكنة والمتاحة؛ وكل ذلك يحدث وفق مبدأ الشفافية والمصداقية والمسؤولية.

في بلادنا العربية تحدث مثل هذه المراجعات، لكنها تفتقد إلى الحد الأدنى من الشفافية والمصداقية والمسؤولية، وبالتالي نجد أن الأخطاء تتكرر، لتصل إلى حد الكوارث، سواء على مستوى الدول أو الشركات والمؤسسات.

فيما يخص ثورات الربيع العربي، الحدث الأهم عربياً وإقليمياً ودولياً، بداية هذا القرن؛  يلمس المتابع هذا الكم الكبير من الكتب والدراسات والمقالات والنشرات والمؤتمرات الدولية والإقليمية، وعلى مستوى الجماعات المؤيدة والمعارضة لهذه الثورات، وحجم ملفات التوثيق والقرارات المتخذة، دون أن يكون لكل ما سبق ذكره من تأثير على أرض الواقع، لتغيير منحنى ومنحى حركة التاريخ، بما يخدم الشعارات والأهداف التي رفعها شباب الربيع العربي؛ والتي كانت تؤكد على الرغبة في الإصلاح والتغيير، وبناء الدولة الوطنية المدنية الديمقراطية المستقلة؛ خلاص وتخلصاً من حالة المراوحة في المكان، هذا إذا لم نكن مع التوصيف الأسوأ، وهو التراجع بمعدل متزايد، لتحصل الدول العربية على المواقع الأولى في سلم الفشل الذريع في إحداث أية ملامح لنهوض أو تقدم؛ وكذلك حالة الفساد الذي استشرى ليصل إلى كل مناحي الحياة، ويُعطل إمكانية التغيير، ويغلق المنافذ والأبواب أمام أية محاولة للإصلاح، مما أوصل الشعوب إلى هذا الانفجار الكبير، الذي لم تستطع الشعوب ولا نخبها من توظيفه لتحقيق التغيير المأمول، وإنجاز تحول تاريخي يصل بها إلى تجاوز عتبة الانطلاق نحو مستقبل منشود، ولتحقيق حلم طال انتظاره، في تحقيق وتحقق شعارات تغنت بها الشعوب في الحرية والديمقراطية والعدالة والوحدة، ودفعت أثماناً غالية في سبيل الوصول إلى مشارفها.

إنه الشهر الأخير من هذا العام، ويبدو أن أغلب الملفات إذا لم يكن كلها، سوف يتم ترحيلها إلى العام المقبل، كما جرت العادة، سواءٌ ملفات دول الربيع العربي، وبالأخص الملف السوري واليمني والليبي، أو ملف الحرب الروسية على أوكرانية، وما جره من كوارث اقتصادية طالت الجميع، وتأثرت به بشدة اقتصاديات الدول النامية والفقيرة، وسينتقل ملف ربيع الشعوب الايرانية، التي تحاول الخلاص من حكم الملالي الهارب من ظلال ظلامية قرون وسطى، لا يختلف دورها المخرب والممتنع عن أية إصلاحات، عن دور حكم العسكر، وكلاهما هدفه الأول البقاء في السلطة، حتى لو كان الثمن خراب البلاد، وإنهاك الشعوب قتلاً وسجناً وإفقاراً وتشريداً.

إنه عام 2022 الذي شارف على الوداع؛ عام كانت السمة الأولى الغالبة عليه، هي نيران الحروب في أكثر من مكان على وجه هذه الأرض، والسمة الثانية، هي أصوات الشعوب المتطلعة إلى مكانة أفضل، وتشاركية حقة، في عيش مشترك بين أمم الأرض؛ لا يعلو شعب على شعب، ولا تتغلب أمة على أمة، عالم تحكمه شرعة الحقوق المشتركة للإنسانية جمعاء؛ ففي الأرض ما يكفي الجميع ويزيد، لكن المتحكمين بالأرض، من الدول العظمى ومافيات السياسة والاقتصاد والسلاح لهم رأي آخر.

إنها السفن التي تبحر عبر بحار لا يبدو أن لها ضفاف ومرافئ، سفن تكسرت مجاديفها، أو كُسرت عنوة، وتمزقت أشرعتها، وتاهت بوصلاتها، في خضم مجالات كهرومغناطيسية، تتجاذبها مصالح لدول تحكمت واستحكمت، ولا ترى سوى مصالح اللوبيات التي تمسك بعنان السياسة فيها، وتعتلي صهوة حصان شرير، لا يكف عن رفس الكرة الأرضية وسكانها بكل قوة، مودياً بهم إلى وديان سحيقة من التخلف، وما يجره هذا التخلف من جهل ومرض وفقر ويأس، يدفع بهم إما إلى الانخراط في جماعات مسلحة، تتلبسها مفاهيم وقيم تجاوزها الزمن، أو إلى هجرة محفوفة المخاطر، وصولاً إلى بـرٍ يظنونه آمناً.

إنها السفن التي لم يكّفِها أن الأنواء كلها تعمل ضدها، بل زاد في سوء حالتها وأحوالها، أن رُكابها لا يكادون يتفقون على خطة أو رؤية مشتركة تصل بهم وبسفنهم إلى بر الأمان، بل إن التخوين والتكفير والتخالف سيد الموقف بل كل موقف.

وإن كانت بداية الحديث عن الكرة الأرضية وما تواجهه من كوارث تتهدد سكانها وبيئتها وحتى حيواناتها ونباتاتها والتي تواجه العديد منها إمكانية انقراضها ننتقل لحدثٍ هام في نهاية هذا العام، وهو “بطولة العالم في كرة القدم”، والتي تستضيفها دولة عربية هي قطر، فكان التواجد فيها لبعض المسؤولين- خاصة العرب منهم- أهم من التواجد في القمة العربية في الجزائر وقمة المناخ في شرم الشيخ، ذلك، من خلال “الحضور الكثيف للسياسة” في المونديال؛ وكم كنا نتمنى مع الكثيرين، أن تكون الصراعات بين شعوب الأرض، هي صراعات رياضية أو أدبية أو فنية أو علمية، لتحديد مكانة الأفضل، فقد كان أجدادنا العرب قبل الإسلام، يمتنعون عن الحروب في الأشهر الحرم؛ مفسحين المجال لإقامة العبادات وإجراء المسابقات، وكانت مسابقة اختيار الشاعر الأفضل، لتُعلقْ قصيدته على أستار الكعبة، هي المسابقة التي تحظى بأرفع مكانة، لما للغة والكلمة من أهمية لدى العرب.

وإن كان لما لعبته التدخلات الخارجية في الربيع العربي دوراً أكبر وأخطر في إفساد محاولات شعوبنا العربية لنيل الحرية والديمقراطية، سواء من قبل قوى إقليمية أو دولية، التي لعبت دوراً مهماً مع قوى محلية لتحديد مصير موجة الانتفاضات الشعبية العارمة التي اجتاحت المنطقة العربية بثورة 2011، ورغم هذه الأجواء التي لا تَسرْ، يبقى التفاؤل مطلباً باعتبار أن الكلمة الأخيرة هي للشعوب الثائرة المُحبة للحرية والخير والسلام، مع التغيرات الممكنة “جيوبولوتيكياً” بمناطق النفوذ على مصالح الدول المتدخلة بالشأن الوطني السوري؛ وهكذا انتقلت ثورة الربيع العربي وبعنفوان شديد لشعوب جغرافية إيران السياسية، وبدورٍ هام لنسائهم وحرائرهم- كما هو دور نساء وحرائر الربيع العربي- للقضاء على نظام الملالي، الذي كان- مع روسيا- عوناً للتدخلات الخارجية في الربيع العربي وإفساد وتدمير بلداننا العربية، التي ثارت على استبدادٍ وطغيـانٍ لا يختلفُ عن ظلامهـم وطغيـانهـم.

التعليقات مغلقة.