الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

العنف والنساء… دروس التاريخ

سمير العيطة *

تستحق الحملة التي تقوم بها الأمم المتحدة تحت شعار «اتحدوا من أجل النضال لإنهاء العنف ضد المرأة» وقفة حازمة، خاصّة في البلدان العربيّة والإسلاميّة. ليس لأنّ هذا النوع من العنف حِكرٌ عليها. فهو منتشرٌ في كلّ مكان، حتّى في المجتمعات المسمّاة «متقدّمة». بل لأنّ هذه البلدان تشهد، كما يقول الواقع، أعلى نسب من هذا العنف في مختلف أشكاله.

لقد شهدت أغلب الثقافات العالميّة تاريخيّاً تحوّلات أضفَت على مكانة النساء نظرة دونيّة. فلطالما نظرت الكنيسة إلى «حواء» أنّها هي التي أغوت «آدم» بقطف التفاحة المحرّمة في الجنّة وأنّها سبب السقوط إلى الأرض مع كلّ ما يتبع هذا من آثام وأمراض. وبالتالي شهدت مجتمعات بعض البلدان جرائم حرق للنساء من قبل «محاكم التفتيش»، خاصّة المتعلّمات منهنّ أو تلك اللواتي أخذنَ حريّتهن، حيث تمّ وصفهنّ بالساحرات.

في الواقع، عرفت المجتمعات العربيّة قبل المسيحيّة والإسلام آلهة نساء، كما الإغريق. وشهدت السيرة النبويّة دوراً بارزاً لنساء، انطلاقاً من زوجة الرسول الأولى خديجة، التي عمل الرسول لحسابها في التجارة، إلى زوجته الأخيرة عائشة التي توفّي بين يديها والتي قادت صداماً شهيراً مع عليّ بن أبي طالب، إلى ابنته فاطمة «الزهراء» التي دافعت عن ميراثها. كما تشهد آثار الأمويين أنّ المرأة لم تكن «عورة» في زمانهم. وعرفت الحضارة العربيّة الإسلامية حكّاماً نساء. وأفتى علماء الدين «السنّة» في الدولة العثمانيّة أنّ الحق باستغلال الأرض «الأميريّة» ترثه البنات بالتساوي مع الأبناء. وحتّى المجتمعات البدويّة استمرّت بتقاليد «المرأة الطموح» التي كان بمقدورها رفض الزوج الذي يختاره لها القائمون على القبيلة لتختار هي من تريده. كما في مصر، كان يُمكِن «لعصمة»، أي قرار الطلاق، أن تبقى بيد النساء. وعرف عصر النهضة أخيراً كتّاباً وأدباء انتصروا لحريّات المرأة وحقوقها، وحصول النساء على حقّ الاقتراعات في الانتخابات في بلدانٍ عربيّة حتّى قبل البلدان الغربيّة.

  • • •

لكنّ من الواضح أنّ التاريخ الحديث شهد تراجعاً لأوضاع النساء في البلدان العربيّة منذ أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي وحتّى اليوم، خاصّة في المجتمعات المدينيّة. ولهذا أسبابه سواء في التحوّلات الاجتماعيّة في كلّ بلد، وخاصّة نتيجة تسارع الهجرة من الريف إلى المدينة، أو في التحوّلات السياسيّة والتفاعلات بين البلدان العربيّة، خاصّة منذ انهزام الفكر التحرّري العربي عام 1967 ونهوض الفكر الإخواني والسلفي كجزءٍ من تحوّلٍ عالميّ نحو أيديولوجيّات «نهاية العالم الألفيّة»، من أوروبا التي تبنّت حصراً إرثاً مسيحيّاً إلى الولايات المتحدة وحتّى إسرائيل التي يسود فيها اليوم التعصّب اليهودي.

لكن هناك أيضاً عنصراً اقتصاديّاً يقف حاجزاً أمام «حريّة المرأة» ونهاية العنف ضدّها. فما الذى يسمح لرجلٍ أن يعنّف زوجته أو ابنته سوى «علاقة القوّة» التي يتمتّع بها؟… ليس فيزيائيّاً وإنّما اقتصاديّاً. وطالما لا تتمتّع النساء باستقلاليّة في العمل وكسب العيش وحقوق الملكيّة تبقى علاقة القوّة هذه قائمة. والواقع أنّ مشاركة المرأة في قوّة العمل تبقى متدنيّة في البلدان العربيّة وهي الأدنى في العالم. ولا تنفي هذا الواقع الأرقام الرسميّة حول هذه المشاركة في دول الخليج أو لبنان، إذ إنّ المشاركة المرتفعة نسبيّاً هناك مردّها العاملات الأجنبيّات اللواتي يشكّلنَ أغلب القوّة العاملة النسائيّة.

لقد وعى كتّاب عصر النهضة لهذا الواقع مثل رفاعة رافع الطهطاوي الذي قال في أواخر القرن التاسع عشر «إذا كانت البطالة مذمومة في حقّ الرجال، فهي مذمّة عظيمة في حقّ النساء». والحقيقة أنّ المرأة لم تكتسِب حريّاتها في الولايات المتحدة وأوروبا كما في روسيا والبلدان الشرقيّة إلا بعد أن أضحت المرأة عنصراً أساسياً في قوّة العمل، خاصّة خلال الحربين العالميّتين.

وما يطرح تساؤلاً جوهريّاً حول «تحرّر النساء» في البلدان العربيّة بما فيه تحررهنّ من العنف المجتمعي والأسري: كيف لهذا التحرّر أن يحصل دون استقلالها المادي وانخراطها في العمل وحقوقها في المُلكيّة؟ إنّ الإجابة لا تكمُن حقّاً في بعض حالات سيدّات الأعمال اللواتي تُبرزهن «منظّمات المجتمع المدني»، رغم إنجازاتهنّ المشهودة، بل في انخراط عميقٍ للنساء في مختلف النشاطات الاقتصاديّة الصناعيّة والتجاريّة والخدميّة.

الحريّة لا تُعطى، وإنّما تؤخذ. والبادئات بالتحرّر سيعانينَ من رفض الأهل والمجتمع. بالضبط كما عانت النساء المبادِرات في مختلف المجتمعات. وواجب الدولة كمؤسّسة هو أن تحمي وتصون هذه الحريّة وهذه المبادرات، حتّى في مواجهة مع المجتمع.. و«أعرافه». التحرّر والقضاء على العنف ضدّ النساء يتطلّب أيضاً حراكاً شعبيّاً نسائيّاً، مع تضامنٍ فعليّ من رجالٍ يؤمنون حقّاً بالمساواة.

  • • •

اللافت أنّ لا حراك شعبيّ حقيقيّ يُبرِز غضب النساء في البلدان العربيّة ويفرض بالتالي تغييراً أو يبشّر فيه. لا في مصر حيث تتكرّر حوادث الاعتداء على النساء، ولا في لبنان أو الخليج حول ظروف القهر التي تعيشها النساء العاملات الأجنبيّات أو اللاجئات، أو في سوريا في مواجهة «عنف حروب الرجال» الذي تعاني النساء، خاصّة في المخيّمات، من استمراره إلى ما لا نهاية… مع واقع أنّ غضب النساء الشعبيّ هو وحده ما يُمكِن أن يوقف هذا التدهور، وليس الأمم المتحدة ولا بعض وسائل الإعلام و«منظّمات المجتمع المدني» التي ربّما لا تفيد سوى في لفت الانتباه إلى هذا العنف… وربّما الأسوأ أنّها تقود إلى «تطبيعه» على أنّه سمة بنيويّة من سمات هذه المجتمعات… فلا حول ولا قوّة..

الأنكى من هذا هو أنّ استمرار العنف عامّة، والعنف ضدّ النساء خاصّة، يساهم في خلق صورة نمطيّة تنتشر بشكلٍ واسع أنّ الشعوب العربيّة والإسلاميّة تميل بفطرتها إليه وأنّ الإسلام بطبيعته والفتوحات العربيّة والحضارة العربيّة الإسلاميّة كانت وستبقى بطبيعتها عنيفة، حتّى بين أبناء هذه الحضارة. صورة تاريخيّة مغلوطة مقارنة مع تاريخ شعوب الإغريق والرومان وفايكنج أوروبا الشمالية والصين والتركمان والمغول وأوروبا واليابان والولايات المتحدة. تاريخٌ زاخرٌ بالعنف، بما فيه تجاه المرأة.

النساء الإيرانيّات المسلمات يكسرنَ اليوم هذه الصورة عبر نضالهنّ ضد عنف مجتمعٍ وسلطة يريدان أن يفرِضَا عليهنّ كيف يلبسنَ ويتصرّفن. رغمَ أنّ كُثراً تحرّكهم إرادة استغلال هذا النضال لأغراضٍ أخرى مهما كانت.

في المحصّلة، وحدهنّ نساء البلدان العربيّة والإسلاميّة سيكون بمقدورهنّ ذات يوم دحض الصورة النمطيّة السائدة وتفكيكها من أجل حريّاتهن. الحريّة لا تُعطى، وإنّما تؤخذ.

* باحث اقتصادي سوري ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.