الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

شمال غرب سوريا وأجواء داكنة جديدة

موفق نيربية *

ورد في إعلام المعارضة السورية الرسمية المتمركزة في إسطنبول، أن الهيئة العامة للائتلاف الوطني السوري قد أنهت «دورة اجتماعاتها الـ64 التي أقيمت يومي 17و18»، وقد ركزت على بحث الأوضاع الميدانية في ريف حلب، وطالبت في بيانها الختامي بوقف عدوان هيئة تحرير الشام الإرهابية على المناطق المحررة، كاشفة عن الانعكاسات السلبية الكبيرة التي ستلحق بالثورة السورية في حال استمرار القتال الفصائلي، أو سيطرة هيئة تحرير الشام على المنطقة، كما شددت على رفضها وجود هيئة تحرير الشام في منطقة عمليات «درع الفرات» و«غصن الزيتون»، مؤكدةً دعمها الحراك المدني في المناطق المحررة».

كان تجنّب ورفض، أو الالتفاف على تلك الإشارة الواضحة إلى إرهاب جبهة النصرة، التي تحوّلت إلى «هيئة تحرير الشام» من أسباب التفسّخ الذي أصاب الائتلاف في الأعوام السابقة، ذلك لم يكن بعيداً بالطبع عن استراتيجية الدولة المضيفة آنذاك، فما الذي حدث الآن؟ وهل هو من ضمن حقيقة ما جرى ويجري؟ تقول الوقائع إن اغتيال إعلامي محبوب مع زوجته الحامل في الباب والاحتجاجات الشعبية العارمة التي تلته؛ وتولّي الفيلق الثالث في الجيش الوطني (الجبهة الشامية خصوصاً) الأمر، ومداهمة وكشف واقع سجون ومقرات تحقيق وتعذيب فرقة «الحمزات» التي كان القتلة ينتمون إليها؛ قد استجرّ ردّاً صارماً من هيئة تحرير الشام، سرعان ما تمدّد واتّسع حتى شمل عفرين – عاصمة عملية غصن الزيتون التركية – وهدّد مشارف أعزاز البلدة الاستراتيجية على الحدود مع تركيا، بمعبرها الرئيس عبر الحدود. وعلى الرغم من توقّف الهجوم وانتشار القوات التركية حماية لأعزاز، وانسحاب الهيئة عسكرياً من عفرين إثر موقف تركي يشبه الأوامر؛ إلّا أنها تركت قوات أمنية ومؤسسات إدارية اقتصادية – اجتماعية في المدينة.

قيل في البداية إن السلطات التركية غضّت الطرف عن تقدّم الهيئة لرغبتها بتقليم أظافر الفيلق الثالث ومنع تغوّله، خصوصاً بعد تشجيعه لحركة الاحتجاجات «المزعجة». وقيل إن هناك تململاً تركياً من عجز الحكومة المؤقتة التابعة للائتلاف عن ضبط الأمور وإدارتها، وتململاً آخر من انفلاش قوى «الجيش الوطني» وصراعاتها المستمرة وفضائحها المتزايدة.. لكنّ أشياء أكثر أهمية تنتج عن هذا التطوّر، تحتاج إلى وقفة من نوع آخر. لطالما أعاق انتشار هيئة تحرير الشام – الموسومة كإرهابية دولياً – تنفيذَ اتفاقات محور أستانة، خصوصاً منها ما يتعلّق بإعادة فتح الطريق الاستراتيجي الرابط بين اللاذقية وحلب، والمتقاطع مع الطريق الاستراتيجي الآخر الممتد من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.. كانت تلك الاتفاقات تفترض قيام تركيا بإبعاد المنظمة الإرهابية عن الطريق الأول لفتحه وتشغيله، ومرّت سنوات على ذلك من دون تنفيذ. في ذلك الوقت الطويل كانت الهيئة قد مدّت جذورها أكثر، من خلال أداتها في الحوكمة «الإسلامية»- حكومة الإنقاذ- العاملة في محافظة إدلب، وأخذ زعيم جبهة النصرة ثمّ وريثتها- أبو محمد الجولاني- يعمل بانتظام على تحسين صورته و«تمدينها»، وعلى تطوير حكومته بشكل يقلّد الحكومات والدول، ويستدعي مثالها بشكل يكاد يكون هزلياً، لكنه يثبت نجاحاً أكثر ثباتاً من حكومة الائتلاف المؤقتة… كان يقيم دويلته في إدلب، ولكن عينه بقيت على بقية شمال غرب سوريا، في منطقة عمليتي غصن الزيتون ودرع الفرات التركيتين. فشل الحكومة المؤقتة جزء من فشل الائتلاف نفسه، الذي غرق في حالة الارتهان التي يعيشها عاجزاً عن الاستقلال بقراره – بعضه على الأقل، أو نسبياً- لفرض احترامه ولو قليلاً، ومتراجعاً في حقيقة تمثيله باطّرادٍ مع خلافاته والتوجه نحو حلّها بالبتر، أو الانسحاب يوماً بعد يوم، من دون إجراء مراجعة حقيقية صغيرة أو كبيرة، اللهم إلّا ببعض التلطيفات الشكلية التي تكشف العيب أكثر من أن تصلحه. فشل ما سمي بالجيش الوطني طبيعي بدوره، بعد أن تحوّل معظمه إلى مجموعات يقودها أمراء حرب، تعيش على الابتزاز ومكوس العبور وفرض الأتاوات والتهريب، وأحياناً تجارة المخدّرات والسلاح. لم تفلح كل «مراجعات» إعادة التنظيم والتوحيد في رتق الفتق ذاك، بل زادته، حين أدخلت موضوع استخدام تلك الوحدات في عمليات بعيدة جغرافياً – مقابل رواتب ومكافآت مغرية للمحتاجين أو الطامعين – كان حتماً أن تبعد تلك القوى عن أصولها «الثورية» أكثر مما ابتعدت بأيديها وأقدامها، وكان حتماً أيضاً ابتلاع الإهانة التي تتضمنها كلمة الارتزاق. تطوّر هذا الفشل وذاك تحت أعين ومراقبة الحكومة الداعمة، وتلك مسؤولية لا تلغيها مسؤولية الائتلاف الوطني الضعيف. فللارتهان طرفان، واحد حبس نفسه داخل حلقته الشيطانية والثاني يرعاها من خارجها ويرمي لها بوسائل الاستمرار بالحياة عند الحد الأدنى. لنعترف أيضاً بأن للدول مصالحها التي لا تستجيب للمبادئ والأيديولوجيات إلا بشكل عابر ومؤقت وجزئي، لا يلبث أن يخضع بدوره لتأثير المصالح وفعلها.

هنالك مصلحة «الأمن القومي»، التي ترى أولاً في الكرد خلف الحدود الرسمية خطراً قابلاً للانتقال والتأثير داخل تلك الحدود. ولا ترى حلاً دائماً كما يبدو إلّا في تغيير ذلك النسيج الاجتماعي في النهاية، الأمر الذي حدث بالفعل وإلى حدٍّ واضح في منطقة عفرين، حيث حلّ مهجّرو المحافظات الأخرى على مراحل تسويات مختلفة رعتها أطراف أستانة، محلَّ من هاجر عند تقدّم عملية غصن الزيتون على سبيل المثال. حدث ذلك أيضاً في منطقة عملية «نبع السلام» في الشمال الشرقي، بحدود أقل. ترى تلك المصلحة ثانياً أن الأمن ينبغي أن يستتب وراء الحدود، وتمّ تجريب مجموعات «الجيش الوطني» في ذلك، إضافة إلى تجريب إدارة الحكومة المؤقتة، ولم تفلح تلك التجارب.. في حين يلمع بريق تجربة إعادة تأهيل هيئة تحرير الشام، ويرى تفوّقاً لحكومتها على الأخرى في الثبات والاستقرار. لا يقف ذلك الخيار المحتمل أمام سبب وإمكانية إعادة التأهيل والتفوّق، وهو مركزية القوة الحاسمة، وعمى التخلّف والتطرّف وصلابته الإرهابية، ولا يعتبر أن ذلك ضروري أيضاً.

لقد نصّ الاتفاق بين الفيلق الثالث وهيئة تحرير الشام؛ الذي جرى بمراقبة أو رعاية تركية، استكملته كما يبدو بطلبات مباشرة؛ على ما بدا توقفاً للتمدد باتّجاه أعزاز، حدث إثره مباشرة كذلك انسحاب لوحدات الهيئة العسكرية من عفرين، مع إبقائها داخل المدينة لعناصر أمن وإدارة جديدتين. وكان الجولاني قد قال قبل ذلك التطوّر إن حكومة واحدة ستكون جاهزة قريباً، حين «تنتهي فترة الحكومة المؤقتة». وجاء التفسير لاحقاً! خلف مصلحة الأمن القومي التي يمكن تفهّمها إلى هذا الحدّ أو ذاك، هنالك المصلحة الأكثر حسماً، في الانتخابات التركية المقبلة بعد أشهر، ومخاطرها الداهمة والمحتملة. هنا تحتاج حكومة حزب العدالة والتنمية إلى إبطال مفعول مسألة اللاجئين، بالحدّ الأقصى الممكن، وكانت قد ابتدأت بمشروع إسكان مؤقت قابل للاستدامة في مرحلة أخرى، لا يبدو أنه قد أعطى نتائجه المرجوة حتى الآن، مع احتمال ظهور جديد وبراق له قبل موعد الانتخابات. في ذلك كلّه، يبقى مشروع» المنطقة الآمنة» مطروحاً، ويستكمل عدّته وتجاربه.

ليس مؤكداً بعد، وليس سهلاً تأكيده لاحقاً، أن إعادة تأهيل هيئة تحرير الشام بقيادة الجولاني وحكومة الإنقاذ التي يعمل على تطويرها بدوره، هو جزء من تلك التجربة في مناطق غصن الزيتون ودرع الفرات وإدلب. يمكن لذلك أن يؤمّن بنية «سنّية» جاسئة وراء الحدود وبعيداً عنها قليلاً، قابلة للاستمرار وللتحكّم في الوقت نفسه. غير معروف أيضاً ردّ فعل أطراف أستانة الأخرى بعد على ذلك، مع احتمال جانبي بأن يجري- أو جرى- شراء الموافقة بتنفيذ ما يتعلّق بفتح طريق اللاذقية حلب، وتقدّم النظام نحوه بقيادة روسية. قد تكون إشارات إعادة بناء العلاقات التركية مع حكومة بشار الأسد جزءاً من هذا المسار الطارئ..

ما هو معروف وأكيد أن السوريين سيدخلون في حالة إحباط جديدة، أكثر بعداً عن أفق استعادة بلدهم موحّداً، وبناء دولة فيه قابلة للعيش والسكن، لها مستقبل وملامح تشبه الدولة الحديثة المتعارف عليها.

* كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.