الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

(2/2)- العلمانية.. الديمقراطية في فكر جمال الأتاسي(**)

د. يوسف سلامة *

     ما من شك بأن جمال الأتاسي واحد من المفكرين القوميين الكبار الذين بدؤوا نشاطهم الفكري والسياسي والعلمي ابتداءً من أربعينات القرن الماضي في مدينة دمشق عندما كان الراحل طالباً في كلية الطب بجامعتها.

    ومنذ ذلك الوقت المبكر، أي عندما كان جمال الأتاسي في العشرينات من عمره، انضم إلى الجهود التي يبذلها المفكران السياسيان الكبيران ميشيل عفلق وصلاح البيطار يـوم كـان جمال الأتاسي على رأس رابطة العمل القومي، وهي إطار شبه تنظيمي كان الراحل يمارس نشاطه السياسي من خلاله هو ورفاقه من الطلبة السوريين والعرب في جامعة دمشق.

    وسرعان ما انعقد المؤتمر الأول الذي ضم نخبة ممتازة من الشخصيات السورية 1943، وعلى رأسها عفلق والبيطار، كان الأتاسي من الشخصيات الشابة في ذلك الوقت الذي انتهى إلى الإعلان عن تأسيس حزب البعث العربي والذي أصبح فيما بعد يحمل اسم حزب البعث العربي الاشتراكي نتيجة لاندماج البعث العربي مع الاشتراكي العربي، وهو الحزب الذي اسسه الراحل أكرم الحوراني مع نخبة ممتازة أيضاً من الساسة السوريون في مطلع الخمسينات.

     لقد كان الأتاسي بعثي النشأة، ولم يلبث أن تحول إلى شخصية ناصرية في الممارسة السياسية التي واكبت الانفصال مباشرة. وعلى الرغم من نشأته البعثية وتوجهه الناصري في العمل والممارسة، فقد ظل الأتاسي طوال حياته ‘وحدوياً’ يؤمن وبعمق أن لا حـل لمشكلات العرب، بصورة جذرية إلا عن طريق الوحدة العربية الشاملة. غير أنها كانت دوماً في نظر الأتاسي هي الهدف والغاية، ولكنها لم تكن أبداً في نظره وسيلة أو أداة لحـل مشكلات العرب إلا بقدر ما تكون حافزاً ومنشطاً ومحركاً لعواطف العرب وقواهم النفسية في العمل مـن أجلها والتضحية في سبيلها، ذلك لأن الديمقراطية كانت في رأي الأتاسي، هي الوسيلة لتحقيق الأهداف القومية الكبرى بقدر ما كانت غاية في حد ذاتها، الديمقراطية وسيلة لتحقيق الوحدة والاشتراكية من ناحية، وهي غاية في حد ذاتها من ناحية أخرى مـن حيـث كونها الإطار الوحيد والسبيل الوحيد الذي يسمح للشخصية الإنسانية بالتفتح الحر، وبالتعبير الأصيل مـن أعمق مكونات الذات الإنسانية، على ما يرى الأتاسي. فمن حق الشخصية الإنسانية أن تترجم عن نفسها في تعينات لا متناهية كماً وكيفاً في السياسة والعلم والفلسفة والأدب والاقتصاد حتى يتحول العالم، آخر الأمر إلى امتداد للشخصية الإنسانية، فيتم بذلك القضاء على الاغتراب المتبادل بين الإنسان وعالمه، ومن ثم يتحول العالم، نتيجة لهذا التفتح الحر للإمكانيات الإنسانية، إلى عالم إنتاج الذات والى مكان ملائم للحياة الإنسانية، لأن الإنسان في شروط كهذه يكون قادراً على التعرف على ذاته في هذا العالم الذي أضحى من يديه وإرادته وعقله.

    ولقد بدا للأتاسي بوضوح أن العالم الذي تستهدفه السياسة، آخر الأمر، لا سبيل إلى تحقيقه أو انتاجه إلا انطلاقاً من التسليم بحرية الإنسان من ناحية، وبترجمة هذه الحرية ترجمة فعلية وخاصة في الحياة السياسية من ناحية أخرى، من خلال ما اصطلح اليونان على تسميته منذ حوالي ثلاثين قرناً بـ(الديمقراطية) التي ورثتها الشعوب الأوربية عن اليونانيين فأغنتها ممارسة وتصوراً من خلال الثورة الديمقراطية الليبرالية الحديثة التي واكبت الرأسمالية في ظهـورها، هذه الليبرالية التي تحققت أول صورة لها من خلال (الثورة الفرنسية) على النظام الأبوي والأكليريكي عام 1789.

    لوعدنا إلى كتابات الأتاسي المختلفة لوجدناه يتحدث بوعي دقيق والتزام أكيد عن الثورتين الإنسـانيتين الكبيرتين اللتين أنجبتهما أوربا في العصر الحديث: الثورة الديمقراطية الليبرالية، والثورة التي ربطت نفسها ومصيرها بنوع آخر من الديمقراطية هي (الديمقراطية الاجتماعية).

    أما جوهر الثورة الديمقراطية الليبرالية، التـي جـاءت ثمرة لتضحيات عظيمة قدمها الإنسان، فيما يرى الأتاسي، فهي أنها ‘تحمل الوعد بتحرير الإنسان من عبوديته من عهد الظلم والطغيان ومن أنظمة الحكم المطلق وعهود الإقطاع، وبعلمنة الدولة والمجتمع، وتحويل الناس من رعايا إلى مواطنين، وقالت بسيادة سلطة الشعب فوق كل سلطة، وبحكم الأكثرية والتصويت العام الحر، وبضمان الحريات السياسية كلها وحرية الفكر والمعتقد، وبإطلاق مبادرات الفرد والجماعة وإقامة المساواة وتكافؤ الفرص، ليكون ذلك مدخلها إلى تحقيق الحرية الفعلية للإنسان'(1) غير أن ذلك كله، من بين ما يميز الثورة الليبرالية الديمقراطية في نظر الأتاسي، ‘هو أنها قد أعطت قواعد ومفاهيم ترسخت وما زالت تشكل ركائز أساسية لمضامين الحرية السياسية وفهم سيادة القانون الذي يصنعه البشر بإرادتهم الحرة كناظم لحياتهم وعلاقاتهم ومنافعهم المتبادلة'(2) غير أن جمال الأتاسي، إذ يقرر أن جوهر هذه الثورة الديمقراطية الليبرالية هو سيادة القانون، في التحلـيل الأخير، فإنه كان على بينة من أن الطبقة البرجوازية قد استأثرت لنفسها بمعظم الخيرات المادية، وبأهم القرارات التي تتعلق بحياة الفرد والمجتمع. ومع ذلك فإن مبدأ سيادة القانون يظل قاعدة صلبة وراسخة في هذه الثورة يصعب على أي مفكر جاد أن ينظر إلى العالم نظرة جدية من غير أن  يكون هذا المبدأ عصباً رئيسياً في تفكيره. ولعل هذا المبدأ بالضبط من جعل جمال الأتاسي يبدي تعاطفاً واحتراماً شديدين لميراث هذه الثورة وتقاليدها الكبرى، ومن قلب الفكر الليبرالي خرجت الماركسية باعتبارها أيديولوجية الطبقة العاملة من أجل أن تعطي للتحرر الليبرالي فعلاً وشمولاً كمياً يطال الجميع بدلاً من أن تستأثر به طبقة واحدة من طبقات المجتمع . ‘وهكذا تقدم الفكر الماركسي في تياره العام على اعتباره أيديولوجية البروليتاريا العمالية المتنامية بسرعة في المجتمعات الصناعية المتقدمة على غيرها، ليكون التعبير عن نضج وعيها الطبقي بمصالحها ودورها التاريخي، وليكون الدليل إلى تلاحمها وبناء حزبها الثوري وتنظيمها السياسي الأممي لتفجر ثورتها العلمية وتنهي نظام الرأسمالية والمُلكية الفردية وتُقيم دكتاتورية البروليتاريا الأوسع امتداداً من غيرها في المجتمع، وليكون ذلك مرحلة وتمهيداً لإزالة نظـام الطبقات، ولتنهـي كذلك الدولة ذاتها كدولة طبقية، ولتزيل كل ألوان الاستغلال والاستبداد ولتحقق الديمقراطية الشاملة والمباشرة، وتقيم مجتمع الحرية والرفاه، أي المجتمع الشيوعي'(3).

    غير أن الثورة الاشتراكية، الثورة  البلشفية التي اشتعلت في روسيا عام 1917 سرعان ما تبدي بعد رحيل لينين أن ميراثها الأساسي إنما هو الستالينية بكل ما تشير إليه من قمع واستبداد ومركزية وإنكار لحق الفرد في التفكير والتعبير الحر من ذات الفرد وذات الجماعة، وبذلك لم يبق، من حيث الجوهر، من الثورة الاشتراكية إلا طموحها الاجتماعي الاقتصادي الذي نجحت في تحقيقه إلى حد لا بأس به. فالثورة الاشتراكية في نظر الأتاسي ‘لم تنجز وعدها الديمقراطي، وإن ماحـقـته مـن إزالة للملكية الفردية واستغلال الطبقة الرأسمالية لم ينهِ جميع ألوان الاستغلال كمحصلة مباشرة لذلك. ولم ينهِ ضياع حرية الإنسان، وعلى الصعيد الأيديولوجي نجد أنه جمد حيوية الفكر الماركسـي كفكـر جدلي نقدي يفترض فيه التجدد باستمرار واستيعاب الواقع المتغير، وأن يكون دليل تجربته الثورية ذاتها، فتحول بذلك الفكر إلى مذهب رسمي للدولة ليسخر كدلـيـل تبرير، وليقـيم نظام الهيمنة الجماعية للبيروقراطية، لا الديمقراطية الشعبية الجماعية'(4) وعلى الرغم مـن ذلك كله، فمن المؤكد أن جمال الأتاسي كان نصيراً للمضمون الاجتماعي للحرية والديمقراطية، غير أنه لم يقبل أبداً التضحية بالديمقراطية من حيث هي فاعلية إنسانية تضمن تفتح الشخصية الإنسانية تفتحاً حراً في كل الاتجاهات من خلال الديمقراطية السياسية بالتالي لا يكون المضمون الاجتماعي للثورة إلا تعييناً من تعيينات الحرية، ولا يغني عنهما أبداً.

    وربمـا كانت واحدة من أهم ركائز فكر جمال الأتاسي اعتباره المضمون الاجتماعي للحياة مجرد واحدة مـن تجليات الحياة الحرة التي لا تتكشف مثلما تتكشف في الديمقراطية السياسية، ولعل هـذا ما يفسر لنا السر في إصرار الأتاسي على منح الصدارة للديمقراطية بكل صورها، وخاصة الديمقراطية السياسية على كل ما عداها من الاعتبارات والمفاهيم أو المقولات السياسية. وهكذا أضحت الديمقراطية هي القاعدة التي يستند إليها كل ما عداها من المفاهيم أو المقولات، ومن ثم تحولت المضامين الاقتصادية للديمقراطية إلى نواتج تشتق من قاعدتها الديمقراطية وليس العكس.

    للديمقراطية عند جمال الأتاسي ثلاثة محاور أو أضلاع أساسية غير قابلة للانفكاك الواحد منها عن الآخر، يبين أو يتضح في منظومته الفكرية. وبالعودة إليها مجتمعة أنها تتناول شتى الظاهرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالدرس والتحليل.

    أما الضلع الأول أو المحور الأول في المثلث الذي يفهم جمال الأتاسي الديمقراطية السياسية من خلاله، فهو كون الديمقراطية نزعة إنسانية تجمع بين جميع بني البشر، بمعنى أن جميع الناس قادرين على ممارستها لا فرق فيها بين بلدان متقدمة وبلدان متخلفة، أو بين من هم في السلطة ومن هـم خارجها. فالكل قادر ومؤهل بالفطرة على أن يكون حراً، أي أن يكون إنسان. ومن هنا جاء وصف الأتاسي للديمقراطية بأنها ‘نزعة إنسانية هدفها تحقيق الشروط اللازمة في الدولة والمجتمع ، وتفتح الحرية الشخصية الإنسانية وقدراتها المبدعة'(5) ولكن هذا المضمون الإنساني عند جمال الأتاسي لا يظل معلقاً في الفضاء بكليته المجردة، بل هو يتعين لديه عندما يبين أن من البعد الإنساني للديمقراطية إنما يتعين في (الفعل القومي) وفي إنتاج (الوجود القومي) للأمة العربية. وبعبارة أخرى، لا يرى جمال الأتاسي من سبيل إلى إنتاج القومية العربية إلا على أسس ديمقراطية تستمد قيمتها وأهميتها من البعد الإنساني الطبيعي للديمقراطية. ولذلك فإن جمال الأتاسي يمضي إلى القول عن الديمقراطية بأنها ‘ترسي قواعد الاندماج الوطني للفئات الاجتماعية المختلفة. كما تأخذ أبعادها وتوجهاتها في الإطار الكامل القومي للامة وتبقى لناـ في هذه المرحلة بالذات من تاريخناـ مرتكزاً أساسياً وضرورة لبناء وحدتنا القومية، وللبناء الديمقراطي لدولة الأمة الواحدة، وبناء علاقاتهـا مع بقية الدول والأمم من خلال التطلع إلى نظام دولي ديمقراطي جديد'(6).

    وهذا كله يعني أن الديمقراطية ليست شرطا لإنسانية الإنسان فحسب، وإنما هي أيضاً شرط جوهـري مـن شـروط تحقق الوجود القومي. ولم يكن الأمر كذلك إلا لأن الدولة القومية كيان وبالتالي لا يكون للكيان القومي أي معنى ما لم يكن ديمقراطياً. فالديمقراطية وحدها هي إنتاج ما هو قومي، وهذا يعني أن الأتاسي لا يتصور دولة قومية، ولا حتى دولة قطـرية ما لم تكـن ديمقراطية بالمعنى الذي تنسبه الديمقراطية الليبرالية لهذا المصطلح بمعناه الكلاسيكي.

    وأما الضـلع الثاني أو المحور الثاني في الديمقراطية عند جمال الأتاسي فهو ايمانه ‘بأن الديمقراطية نظـام سياسي في الحكم وبناء الدولة ومؤسساتها وقوانينها وتشريعاتها، وهو نظام دستوري يقـوم علـى الفصل بين السلطات وحصانة القضاء وصون الحريات العامة وسيادة القانون العـادل على الجميع، وعلى حرية الرأي والتعبير والتجمع السياسي والتنظيم في الإطار الوطني العام وبالاحتكام إلى إرادة الغالبية الكبرى لجماهير الشعب'(7) وواضح من ذلك كله أن الأتاسي نظر إلى الديمقراطية الليبرالية بمعناها السياسي وتجلياتها في صون الحرية السياسية والشخصية بما يضمن للفرد حقه في المشاركة في الحياة العامة من خلال حقه في التعبير الحر، من خلال حقه في تكوين التجمعات والأحزاب السياسية على أنها ميراث إنساني من حق جميع البشـر المشاركة فيه والانتفاع بمضمونه، شأنه في ذلك شأن العلم الذي تختلف تطبيقاته من غير أن يتغير بمضمونه شيء.

    لقد أثبتت الحياة أن بعض قواعد الديمقراطية الليبرالية قد أصبحت جزء لا يتجزأ من حياة شعب متحضر، فالفصل بين السلطات، وحرية القضاء واستقلاله، وحق الفرد في التعبير الحر عن ذاته بما لا يتعارض مع حرية الآخرين قد أضحت أموراً يسلم بها كل ذي حس سليم. بل أن قوة هذه المبادئ ورسوخها قد جعل من ينتهكونها أكثر الناس إدعاءً بأنهم يؤمنون بها ويسيرون علـى الـدرب المـؤدي إلـيها، إن لـم يكن قد حققوها بالفعل في حياة الفرد والجماعة، وعندما يضطرون إلى الاعتراف بأنهم غير ملتزمين بها التزاماً فعلياً، فإنهم يرُدون تجاهلهم هذا لها إلى أساليب التطبيق وتباين البيئات أكثر مما يرُدونه إلى الحقيقة المتمثلة في كونهم ليسوا مستعدين لجعـل سلوكهم، وسـلوك الدولة بصفة عامة محكوماً بالمبادئ الديمقراطية التي لا ينبغي أن يقع خلافٌ حول تفسيرها.

    وإذا كان البعد الأول للديمقراطية، كما يفهمها جمال الأتاسي هو بعدها الإنساني، بينما بعدها الثاني لديه هو البعد الليبرالي، فإن البعد الثالث أو الضلع الثالث في تصوره للديمقراطية يتمثل في ايمانه بأن ‘الديمقراطية السياسية لا تتأكد وتصان إلا بتعزيزها بالديمقراطية الاجتماعية وبخلق شروط من العدالـة وتكافؤ الفرص بين المواطنين، وبخلق ظروف من التقدم الاقتصادي والاجتماعـي لتمكين المواطنين من ممارستهم لهويتهم السياسية والفكرية وتمكنهم من إطلاق قدراتهم الإبداعية، وتحرير الإنسان من كل عوامل القهر والضياع'(8) ويبدو لنا أن جمال الأتاسي كان يخشى من تحول الديمقراطية الليبرالية إلى ديمقراطية شكلية خاوية من كل مضمون. ولذا فقـد ألـح علـى إغناء الديمقراطية الليبرالية بمضمون اجتماعي يضمن للمرء لا حرية التعبير والتفكير والتنظيم فحسب، بل هو يضمن للغالبية أيضاً التحرر من العوز والفاقة والفقر التي تؤدي جميعها إلى إفراغ الحياة الديمقراطية من مضمونها الإنساني والقومي، فمن غير الممكن بالنسبة للأتاسي تصـور الديمقراطية متحققة بمعناها الصحيح، ما لم تكن مقترنة بمضمون اجتماعي. وبالمثل، فالأتاسي لا يستطيع أن يتخيل تحقيق المضمون الاجتماعي من غير أن يكون المرء متمتعاً بصور الحرية المختلفة التي تنطوي عليها الديمقراطية الليبرالية وتبشر بها.

    وأخــيراً، إذا لـم يكـن بـد للمـرء من أن يختار بين الديمقراطية الاجتماعية والديمقراطية الليبرالية، فإن جمـال الأتاسـي سيمنح الصدارة للديمقراطية الليبرالية. ذلك لأن الستالينية، وكل النزعات الشمولية، الدكتاتورية، قد تحقق ما يسمى بالديمقراطية الاجتماعية، أو هي على الأقل قد ترفع ذلك في وجه المواطنين هذا الإدعاء بأنها قد حققت لهم نوعاً من الديمقراطية الاجتماعية من غير أن تكون في الحقيقة قد فعلت ذلك أبداً، في مثل هذه الحالة يجد الناس أنفسهم عاجزين عن مواجهة هذا الإدعاء والتصدي له بالكشف والفضح للنظم السياسية التي تبني شرعيتها على مثل هـذا الإدعاء الذي يَحْرم المواطن بموجبه من حقه في التعبير والاعتراض على كل ما من شأنه أن يكـون مجحفاً بحقه وشخصه، وفي مقابل ذلك تظل الديمقراطية الليبرالية قادرة على استيعاب النزعات والنزاعات المختلفة، وتظل تقبل النقاش والنقد فيما حققته وفيما لم تحققه.

    إن الديمقراطية الليبرالية، بطبيعتها، تُسلم بتعدد الآراء والأفكار، وبتعدد المصالح وتعدد الأهداف، الأمر الـذي يجعلها ملزمة بأن يكون النقد جزءاً من طبيعتها. وفي هذه الحالة، فإن ما يسمى بالنقد لا يقف عند حد. وقد علمتنا الحياة أن كل النظم التي أقامت شرعيتها على ما يسمى بالديمقراطية الاجتماعية، وقد كانت منغلقة وغير قادرة على مجرد الشك بأنها ربما تكون قد أخطأت، أو بأنها قد تخطئ!! ويبدو أن كل ذلك قد جعل الأتاسي في النهاية أقرب إلى الدعوة إلى الديمقراطية الليبرالية، بينما اعتبر الديمقراطية الاجتماعية ثمرة من ثمار الديمقراطية السياسية الليبرالية بمعناها الدقيق.

    وتعزيزاً لهـذا التوجه الديمقراطي العميق، يقدم جمال الأتاسي ملاحظتين هامتين بجدر بنا حملهما على محمل الجد:

    الأولـى، إن مراجعة خمسين عاماً من الحياة السياسية العربيةـ على مستوى كل قطر بمفرده ـ يبيـن ‘إننا لم نتقدم في أية مرحلة أو أية خطوة ناضجة، على طريق التحرر والتقدم والوحدة، إلا عـندما كـان هناك نهوض شعبي وإرادة شعبية جماعية جماهيرية تتحرك وراء مطالب وتدفع نحو هدف'(9).

    والثانية، مستخلصة من الأولى، وهي تذهب إلى أن النهوض الشعبي الذي شهدته خمسينات القرن الماضي قد كان مقترناً بنوع وبقدر من الديمقراطية السياسية، بالمعنى الليبرالي للكلمة، في حيـن أن انحسار هـذا المد قد اقترن بصعود الأنظمة العسكرية إلى الحكم، مما أدى بهيمنة الركود على المجتمعات العربية بسبب القضاء على الديمقراطية السياسية، والنتيجة التي يستخلصها جمـال الأتاسـي مـن كل ذلك أنه ‘لا سبيل لنا إلا أن تأتي الديمقراطية السياسية بدايةً، فالتغيير الديمقراطـي داخل كل قطر أصبح مدخلاً لا بديل عنه للتقدم بمجتمعاتنا المدنية، بإطلاق الإرادة الحرة للشعوب ومبادراتها للتقدم على طريق الوحدة القومية وإقامة دولة الأمة الحرة الديمقراطية الموحدة'(10).

    ومن ذلك كله يستبين أن جمال الأتاسي قد بدد وهماً كبيراً من أوهام العرب علقوا عليه هزائمهم وانتكاساتهم دائماً، وهو وهمْ الوحدة، فلقد أعفى النظام العربي الرسمي السياسي نفسه من المهمات الكبيرة والصغيرة بدعوى أنه لا سبيل إلى إنجازها إلا إذا تحققت الوحدة العربية، وهكذا أصبح تحرير فلسطين، واستعادة كل الأراضي العربية المحتلة والمغتصبة وتحقيق مشروع النهوض القومي، وتحقيق العدالة الاجتماعية كلهـا أمور لا ينبغي أن تنتظر إلا إنجاز الوحدة العربية، لقد قلب الأتاسي المعادلة عندما قرر أن الديمقراطية السياسية هي السبيل إلى تحقيق كل الأهداف، أو العمـل مـن أجلهـا على الأقل بصورة جدية، ولذا أصبح النضال من أجل الظفر بالحرية والديمقراطية في كل قطر عربي بمفرده هو السبيل المؤدي إلى العمل من أجل بلوغ الأهداف الأخرى وليس العكس. وبذلك أصبحت المهمة العاجلة التي لا يمكن تأجيلها ولا تعليقها على غيرها هي مهمة استعادة الديمقراطية والحياة التمثيلية، بالمعنى الصحيح للكلمة، في أقطار الوطن العربي دونما استثناء.

    جـمـال الأتاسي، كغيره من المفكرين الكبار، لا يمكن له أن يكون منفصلاً في تطوره الفكري والروحي عن تراثه، وإنما هو نتاج لهذا التراث بقدر ما أن هذا التراث نفسه أثرْ من آثار تطوير المفكر لذاته، ولعل هذا ما يفسر لنا ولاء الأتاسي العميق وإلحاحه الذي لا ينقطع والذي يُذكر بكونه واحد من مؤسسي فكر حزب البعث العربي الاشتراكي من ناحية، ومن ناحية أخرى، واحد من أعلام الحركة الناصرية من حيث هو مفكر ومنظر، ومن حيث هو سياسي ممارس أيضاً بأن الديمقراطية السياسية قد ظلت لديه غير منفصلة عن مضمونها الاجتماعي ولذلك فهو يقرر ‘أنه إذا كانت الديمقراطية وما تعنيه من تأكيد سيادة الشعب بمجموعه أو بغالبيته الكبرى فوق كل سيادة، وبالحريات السياسية وبحرية الفكر والمعتقد وبعلمنة الدولة والمجتمع، وما يعنيه ذلك من مساواة عامة بين المواطنين، على اختلاف فئاتهم وطوائفهم، وفي مساواة أمام القانون وغير ذلك المهمات'(11) فان الأخذ بالنهج الديمقراطي يعني أيضاً ‘أن الديمقراطية لا تُطلب لقوى التقدم وأحزابها وحدها، بل هي ديمقراطية المجتمع كله، فالديمقراطية للجميع'(12).

    ومـا يعنيه هذا الرأي هو أن الحزب الذي يصف نفسه بأنه ثوري وجماهيري، ليس من حقه أن يُطالب بالديمقراطية ويستفيد من مزاياها عندما يكون في المعارضة، لأنه قد يصل إلى السلطة بأسلوب ديمقراطي عن طريق الانتخابات الحرة التي قد يحصل فيها على أكثرية الأصوات، إذ من حق هذا الحزب في هذه الحالة أن ينفرد بالسلطة من دون الأحزاب الأخرى والقوى المتعددة عندما يصبح هو الحزب الحاكم. لقد تعلم الأتاسي من التجارب السياسية السورية والمصرية الكثير، وانتهى إلى ضرورة المحافظة على الحياة الديمقراطية، من قِبَـل الحزب الثوري حتى بعد أن يصل إلى السلطة. وهذه هي خلاصة حكمته النظرية والعملية على حد سواء. وقد انعكست هذه الحكمة، بعمق ووضوح على قراءته الأخيرة للناصرية ومحاولة إعادة بنائها على نحو تمكن معه من إنتاج نسخة ديمقراطية عن الناصرية أكثر عصرية وحداثة من صورتها التقليدية المألوفة.

     لقد حوّل الأتاسي موقف الناصرية من مسألة الديمقراطية بالارتقاء بالناصرية من هذه الزاوية لتصبح مطابقة لرأيه في مسألة الديمقراطية. ومن هنا فإنه لا يتردد في الاعتراف بأن الناصرية تعاني من أوجه نقص متعددة بالنسبة لهذه المسألة. ولذا فهو يمضى إلى القول إن رفض عبد الناصر للصيغ السياسية التي كانت قائمة قبل ثورة تموز/ يوليو ليس مُلزما بحال من الأحوال لورثة عبد الناصر من الأجيال العربية التالية، ومن ثم فقد قرر الأتاسي بصدد ‘البدائل التي قدمها وطبقها عبد الناصر بصدد الديمقراطية بأنها قد ظلت مرحلية وناقصة، ولذلك فإن الإبداعية والاجتهاد تفرض الاسترشاد بنهج عبد الناصر في هذه المسألة لا بما طبقه وحققه في هذا المجال'(13).

    ولذا يقرر الأتاسي بنوع من الاختراق الواضح في قلب الناصرية السياسية بان ‘التعددية مطلب أساسي واستراتيجي… وإننا نرفض أن ندعي لأنفسنا أو يدعي أي طرف حر لنفسه أنه يملك الحقيقة والمعرفة الصحيحة وحده'(14) ومن المؤكد أن إعادة صياغة الناصرية هذه الصياغة الديمقراطية الجديدة، أو إن شئت لبـرلة الناصرية، واقعة مستجدة فرضتها الممارسة السياسية واكتشاف الأتاسي- نتيجة لتجاربه السياسية الكثيرة ومنها الجبهة الوطنية التقدمية- أنه لا بد من دفع الناصرية خطوة في هذا الاتجاه حتى تستعيد حقها في أن تعرض نفسها على الناس بوصفها اتجاهاً سياسياً يتمتع بنوع من الحداثة والعصرنة، ويملك رؤية مباينة لرؤية الأحزاب، التي بعد أن وصلت الى السلطة استأثرت بها وطورت- بصورة مُبالغ فيها- مقولة الحزب الواحد أو الحزب القائد على ما يقول الأتاسي في مواقع كثيرة من كتاباته. وقد ترتب على لبرلة الناصرية هذه، أو إدخال الديمقراطية في نهجها إلى أن وجد الأتاسي نفسه مضطراً لان يعيد بناء موقف الناصرية من القضية الاجتماعية نفسها وبذلك تغير معنى الديمقراطية الاجتماعية أو ما يطلق عليه تقليداً في الناصرية اسم ‘تحالف قوى الشعب العامل’ الذي يتكون من تحالف العمال والفلاحين والرأسمالية الوطنية. وهكذا أصبح من الممكن- في نظر الأتاسي- أن يعبر عن مصالح هذه الفئات المتحالفة  أكثر من تنظيم سياسي حتى أو حزب(15). والنتيجة المنطقية التي يستخلصها من هذه المقدمة الجديدة في الناصرية- وهي إضافة على قدر كبير من الأهمية وهي- أننا (نرفض أن نفسر الأمور ليكون هناك حزب واحد، ونرفض أيضاً الوحدانية تحت أي مسمى كالحزب القائد للدولة أو الشعب أو المجتمع)(١٦) وبذلك أصبح من الممكن للناصرية أن تكون حزباً معارضاً في ظل أي نظام سياسي . فالناصرية بغير هذا التعديل تظل كغيرها من الأحزاب اللاديمقراطية حزباً واحداً أحادياً ينفي غيره ويُقصي كل الإحتمالات الشعبية الممكنة. إن هذا التعديل الذي أدخله جمال الأتاسي على الناصرية قد أهلها لتكون مواطناً حقيقياً في ساحة العمل السياسي، إن اعترافها بالتعددية هو اعتراف بذاتها أولاً وقبل كل شيء، هو اعتراف بأن للآخر قيمة يستحق الالتفات لها، وفي هذه الحالة تكتسب الناصرية قيمتها من زاويتين: فإن هي قد كانت في المعارضة فلها الحق في أن يعترف بها الحزب الحاكم، وإن هي قد كانت في السلطة فستكتسب قيمتها من كونها مستعدة لأن تكون في المعارضة عندما يريد أكثر الناخبين ذلك.

    وعلى الرغم من أن الأتاسي ظل يرى أن ‘تحالف قوى الشعب العامل’ مبدءاً استراتيجياً وليس مبدءاً تكتيكياً، أي أن التحالف بين عدة فئات يبقى القاعدة الثابتة في بناء النظام السياسي والتنظيم، (فإن هذه القاعدة تتغير وتتجدد صيغتها وفق تغير الخريطة الاجتماعية للواقع، أو وفق تغير وتطور الخريطة السياسية للمجتمع الشعبي في مساره الثوري نحو تحقيق مهماته الديمقراطية والقومية والاشتراكية.(17)، وهكذا أضحى الواقع هو الحكم والفيصل في تحديد الصيغ التي يمكن أن تعبر عن مصالح ‘تحالف قوى الشعب العامل’، وأصبح ادعاء حزب واحد أو تجمع واحد بأنه المُعبر عن مصالح هذا التحالف هو ضرب من الدكتاتورية التي يتعين نبذها، لأنها تؤدي منطقياً إلى أن يفرض حزب واحد رؤيته على الجميع مما يؤدي إلى إقصاء وجهات النظر الأخرى والاقتصار على اجتهاد واحد.

    ومن ذلك كله يستبين أن الناصرية قد خضعت بين يدي الأتاسي لعملية إصلاح واسعة تبنت تحطيم جدرانها الضيقة التي تحتكر الحقيقة حسب تجربتها، وتدّعي من ثم أنها وحدها الحقيقة، ومعها الصفة التمثيلية ‘لقوى الشعب العامل’ أيضاً. وقد بلغ هذا الإصلاح النظري للناصرية ذروته في دعوة الأتاسي الصريحة إلى أن يكون الوصول إلى المجتمع الاشتراكي بمسار ديمقراطي، على أن لا يستهدف هذا المجتمع الاشتراكي (الوصول الى مجتمع الطبقة الواحدة، أو الفئة الاجتماعية الواحدة، ومن ثم لا يوجد الحزب الواحد أو القائد..).(18)، وهكذا أصبحت التعددية السياسية ركناً من أركان ‘الناصرية’، بعد أن كانت الناصرية عبر تاريخها الحي الذي تمت ممارسته في دولة الوحدة السورية المصرية، وفي ظل ما يسمى بعد الانفصال باسم الجمهورية العربية المتحدة، دولة الحزب الواحد الذي لا يقبل مراجعة ولا نقداً ولا مشاركة من أي من فئات الشعب التي قد يكون لها اجتهاد مُخالف أو مُباين لاجتهاد الجماعة الحاكمة في حزب الدولة والسلطة.

    هكذا تحولت الناصرية إلى صورة من صور الليبرالية المتقدمة، من ناحية سياسية، على الصور المحتملة للحياة السياسية ما قبل الحداثية وغير العصرية في وقت واحد. ويبدو أن جمال الأتاسي على وعي دقيق بالبون الشاسع بين الناصرية الأصيلة لدى مؤسسها وبين الصيغة التي أنتجها هو نفسه على هذا النحو المبدع، ومن ثم فقد أكد ضرورة أن تستعيد الناصرية علاقتها بالمقولات الأساسية لليبرالية السياسية بمعناها التاريخي الأصلي للكلمة، لذلك فقد قرر بمنتهى الصراحة أن الناصرية تلتقي مع الليبرالية (في مقولات الديمقراطية العامة حول النظام السياسي والتنظيم لسيادة الشعب وضرورة الدولة كممثل للحكم والإرادة الوطنية العامة للشعب والقول بسيادة القانون بالنسبة للجميع على حد سواء، وتقديم السلطات التشريعية المنتخبة على السلطة التنفيذية، والقول بالتعددية وحرية التنظيم والأحزاب)(19)، وبذلك لم تعد الناصرية في صورتها الجديدة نظاماً شعبوياً منغلقاً على نفسه وعلى القوى السياسية الأخرى يعتقد بأنه ينفرد بامتلاك الحقيقة ومعرفتها، وبأن كل من لا يشاركه الرأي فهو مارق سياسياً يستحق أن توقع عليه أشد العقوبات التي تتراوح بين العزل والحرمان من الحقوق المدنية لسنوات وسنوات وبين أن يودع السجن لسنوات وسنوات أيضاً.

    لقد وسعت رؤية جمال الأتاسي ‘الناصرية’ وجعلتها قادرة على الدفاع عن نفسها وفتحها مشرعة في معترك الحياة السياسية بما أغنتها من ‘لبرلة سياسية’ خلعت عليها أهمية ووظيفة كانت تفتقر إليهما دوماً طالما أنها خارج السلطة. ذلك أن الحزب الذي لا يؤمن بالتعددية هو حزب لا قيمة له عندما يكون خارج السلطة. وفي هذه الحالة تكون قيمة هذا الحزب آتية من كونه يُحتمل أن تؤول السلطة إلى يديه عن طريق انقلاب عسكري أو أية صورة أخرى من صور العنف غير المبرر. ولما لم تكن السلطة إلا وسيلة وخدمة تؤدى، لا امتيازاً- فالامتياز الحقيقي كامن فيما يمتلكه الحزب من رؤى وأفكار تشهد على انفتاح رؤيته وغناها. وتشهد في الوقت نفسه، على أن رؤاه تتمتع بقدر من الغنى يمكن لها أن تتحول إلى قيمة مستقبلية بالنسبة لقطاع واسع من أبناء الشعب- كانت الفروق الجوهرية بين الأحزاب تقاس بمدى بعدها او قربها عن تبني الديمقراطية السياسية نظرياً وممارسة، أو هذه الصياغة المنفتحة لها، مكنت الأتاسي من الإعلان بكل صراحة عن أن الناصرية  تعاني من بعض الصعوبات فيما يتصل ببعض المسائل، لا بل هو يقرر أن النهج قد شابه على امتداد تاريخه (نقائص كان عبد الناصر واعياً بجوانب هذا النقص وظل حضوره واجتهاده يغطي هذا النقص)(20). كما أن الحلول التي قدمها عبد الناصر لمسألة الديمقراطية (ظلت مرحلـية وناقصـة)(21). ولذا فإن الضرورة تفرض علينا- في فكر الأتاسي- (الاسترشاد بنهج عبد الناصر في هذه المسألة لا بما طبقه أو حققه في هذا المجال)(22) ولعل هـذا ما حمل الأتاسي على أن يقرر بأن الناصرية أصبحت تنظر إلى (التعددية السياسية على أنها مطلب أساسي واستراتيجي من ناحية)(23). ومن ناحية أخرى فإن السعي للوعـي الكـامل بواقعنا وظروفنا العربية واستخلاص الحقيقة التي تخص هذه الظروف وهذا الواقـع بصورة كاملة وتامة، (فإننا نرفض أن ندعي لأنفسنا أو يدعى أي طرف أنه يملك الحقيقة والمعرفة الصحيحة وحده)(24).

    هذه الصيغة الديمقراطية الليبرالية للناصرية في الميدان السياسي لم يكن من بد لها من أن تستدعي إصلاحات في النظرة الناصرية إلى المسألة الاجتماعية أيضاً، ولذا وُجد الأتاسي مضطراً لأن  يوسع هذه الليبرالية السياسية لتتحول إلى نوع من ‘الديمقراطية الاشتراكية’ بدلا من ‘الديمقراطية الاجتماعية’ في الميدان الاقتصادي والاجتماعي، وخاصة بما يتصل بعلاقات الطبقات أو الفئات الاجتماعية بعضها ببعضها الآخر، الأمر الذي استدعى جمال الأتاسي أن يعيد صياغة مفهوم ‘تحالف قوى الشعب العامل’ لا من حيث مفهوم اقتصادي واجتماعي فحسب، وإنما استكشاف المتغيرات الجديدة لهذا المفهوم بعد أن أصبح جزءاً من نظرية ليبرالية في السياسة، بينما كان من قبل جزءاً من نظرية تقول بحكم الحزب الواحد والقائد في الدولة والمجتمع.

    هذا الانتقال بالناصرية من القول بالواحدية السياسية إلى التعددية السياسية، ومن القول بالحزب القائد والواحد إلى القول بأنه من الممكن للتحالف الشعبي أو لعدة فئات اجتماعية، وهو ما تعبر عنه الناصرية بـ ‘تحالف قوى الشعب العامل’ (أن يعبر عنها أكثر من تنظيم سياسي أو حـزب واحـد)(25). سمح للأتاسي أن يستبعد فكرة الحزب الواحد أو القائد للدولة والمجتمع حتى في ‘الميدان الاقتصادي’ وبذلك تحولت الاشتراكية لدى جمال الأتاسي من مسألة اجتماعية مرتبطة بتعبير طبقي معين إلى كونها امتداداً لمسالة الديمقراطية السياسية، وبذلك تحولت الناصرية- حتى في الميدان الاقتصادي- إلى حركة ديمقراطية اشتراكية بالمعنى السياسي الدقيق للمجتمع تتقدم فيها الديمقراطية على الاشتراكية، وتتحول فيها الاشتراكية إلى واحدة من تعينات الديمقراطية التي قد تكون غير متناهية لكون أن الديمقراطية هـي صـورة الحرية الإنسانية بعد أن تم وضعها في الممارسة الإنسانية في شتى مجالاتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

    وهكذا فإن الناصرية- حتى عند جمال الأتاسي- وإن كانت تُصرح بانها تسعى للوصول إلى المجتمع الاشتراكي، فإنها قد أصبحت لدى جمال الأتاسي تريد الوصول إلى هذا المجتمع فـي مسـار ديمقراطي ووفق منهج متعدد المراحل والأطوار، ولكنه في الوقت ذاته لا يستهدف الوصول الى مجتمع الطبقة الواحدة أو الفئة  الاجتماعية الواحدة، ومن ثم لا وجود للحزب الواحد أو القائد)(2٦). فما يتمتع بالأهمية الأولى والقصوى- في نظر الأتاسي- أن يظل المجتمع منفتحاً من الناحية السياسية ومن الناحية الاجتماعية على حدٍ سواء، إذ لا يجوز له أن ينغلق على نفسه تحت سلطات حزب واحد أو طبقة واحدة تحت أي اسم، أو تحت أي مبرر يمكن التعلل به من أجل سلب حرية المجتمع لصالح أقلية سياسية حاكمة مهما بلغت من الحكمة، وذلك لأن الحكمة الأخيرة لا تكون إلا للشعب. فالشعب- حتى وإن أخطأ مرة في اختياراته- فهو لوحده قادر على تصحيح أخطائه والوصول إلى الاختيارات الصحيحة التي لا تعني شيئاً سوى أن تكون الاختيارات مطابقة لروح العصر وروح الشعب في حقبة تاريخية محددة من تاريخ هذا الشعب وتاريخ العالم الذي يحيا في كنفه في لحظة تاريخية معينة.

    وعلى الرغم من إيمان الأتاسي أنه من الممكن لمبدأ ‘تحالف قوى الشعب العامل’ أن يعبر عنه أكثر من تنظيم سياسي واحد، فإن هذا المبدأ قد ظل مبدءاً استراتيجياً في صميم الناصرية، لا مبدءاً تكتيكياً على ما يقول جمال الأتاسي. ومع ذلك فقد حاول الأتاسي أن يرتقي بهذا المبدأ في امتلاك تعبير ديمقراطي أكثر مرونة من صيغته الجامدة في الناصرية التقليدية ذلك لأن هذا المبدأ لم يعد صيغة واحدة لا تتغير بل هو قد أضحى (قاعدة تتغير وتتجدد صيغتها وفق الخريطة الاجتماعية للواقع، ووفق تغير وتطور الخريطة السياسية للمجتمع الشعبي في مساره الثوري نحو تحقيق مهامه الديمقراطية والقومية)(27). وبذلك لم يعد مبدأ ‘تحالف قوى الشعب العامل’ ينطوي على مضمون محدد لا يتغير، كما هو في صيغته الناصرية التقليدية، لكنه لم يعد واقعاً خارج التاريخ وفوقه بل هو قد أضحى مبدءاً تاريخياً يستمد كل مضمونه، إن لم نقل وجوده، من التاريخ المعاش للبشر. وبتحول هذا المبدأ إلى مبدأ تاريخي يصبح للزمان دوره في بناء المفاهيم الأساسية للمنظومة الناصرية في بنيتها الجديدة، وما هذه البنية الجديدة في الحقيقة إلا التعبير عن إعادة بناء المفاهيم الأساسية للناصرية في ضوء أهم المفاهيم المعبرة عن الديمقراطية بمعناها الليبرالي السياسي في الثورة الديمقراطية الليبرالية، هو ما حدا بجمال الأتاسي إلى القول عن الناصرية في صيغتها الجديدة التي قام بإنتاجها بأنها تلتقي مع الليبرالية في مقولاتها الديمقراطية العامة (حول النظام السياسي وتنظيم سيادة الشعب وضرورة الدولة كممثل لحكم الأغلبية والإرادة الوطنية للشعب، وسيادة القانون بالنسبة للجميع على حد سواء، وتقديم السلطات التشريعية المنتخبة على السلطة التنفيذية، والقول بالتعدد وحرية التنظيم والأحزاب)(28).

    وهكذا لم تعد مسألة الوحدة مسألة على قدر العرب انتظارها باعتبارها حدثاً تُحتم الأقدار حدوثه في حياة الشعوب العربية بل هي أضحت- في نظر الأتاسي- فاعلية حرية لهذا الشعب العربي أو ذاك من ناحية، كما أن تحققها قد أصبح مرهوناً بالإرادة الفعلية للأحياء الذين قد يختارونها أو لا يختارونها، وليس بذاكرة الأمة التي كانت الوحدة بالنسبة لها عنصراً أشبه ما يكون بالقدر المهيمن وليس بالفعل الحر للبشر الذين يمتلكون من بين ما يمتلكون، الحق في إعادة النظر في كل المفاهيم وحتى في مفهوم الوحدة نفسه، وبذلك أصبحت الوحدة ضرباً من الفاعلية المستندة إلى ممارسة الديمقراطية الحقة لا ضرباً من الآلية القدرية التي ستتحقق شاء العرب أم أبوا، وشاء أعداؤهم أم لم يشاؤوا. وهكذا فإن الأتاسي يخلص مفهوم الوحدة من فجاجته المألوفة لدى فلاسفة القومية العربية، هذه الفجاجة التي تعبر عن نفسها في كون الوحدة عنصراً آليا وحتمية تاريخية لا بد لها من أن توحد الشعوب العربية يوماً ما من جديد في ‘دولة الأمة’ التي نسفها الاستعمار بكل أشكاله وصوره. كما أن هذا التصور للوحدة، الذي يربطها بالديمقراطية، قد جعل مفهوم ‘الوحدة’ متوقفاً على تعمق التجربة الديمقراطية في الحياة العربية السياسية- وبذا لم يعد بوسع العرب إرجاء التعامل مع مختلف مشكلاتهم، انتظاراً لقدوم الوحدة العربية أو ‘المخلص المنتظر’ الذي ستحل لهم كل مشكلاتهم. بـل لقد أصبحت الديمقراطية هي المطلب المباشر الذي لا يمكن إرجاؤه لأن كل المطالب والأحـلام الأخرى أصبحت مرهونة به، الأمر الذي يفتح إمكانية للنضال العربي لأن يرتبط بحقـائق لا بأوهـام. أو على الأقل، إن وضع الديمقراطية في مقدمة المصالح الفعلية للإنسان العربي من شأنه أن يخلع المعقولية والواقعية على هذا الفعل، كما أنه يُخلص هذا الفعل مـن أسطوريته التي  تعلقَ كل شيء على تحقيق الوحدة التي مال العرب بصورة لا شعورية  إلى القـول عـنها: إنهـا تتحقق من تلقاء ذاتها بالضرورة التاريخية، ومن الممكن أن تجارب البلدان العربية جميعها، التي دعت إلى الوحدة وانشغلت بها، أدلة ساطعة على صحة التحليل الذي قدمـه الأتاسي لفكرة الوحدة وارتباطها بالديمقراطية، إذ لم تخُطْ أي دولة من تلك الدول الداعية إلى الوحدة العربية ولو خطوة صغيرة في الاتجاه الوحدوي على الرغم من أن الأحزاب الحاكمة فيها تنظر إلى الوحدة على أنها إحدى ركائز سياساتها وتفكيرها، وليس لذلك من معنى إلا أن هـذه البلدان قد أجلت الوحدة ومعها الاشتراكية أيضا لأنها ببساطة استبعدت الديمقراطية السياسية من حياة الشعب والدولة في جميع البلدان التي اتخذت من الوحدة العربية شعاراً سياسياً لها غير أن الوحدة في مثل هذه الظروف السياسية ستظل شعاراً لا أكثر ولا أقل. وعلى كل حال، فـإن شعار الوحدة كغيره من الشعارات الكثيرة أضحى مستهلكاً ولم تعد الجماهير صاحبة المصلحة فيه تنظر إلى دعوة الداعين إليه نظرة جدية، مما يشهد على ترسخ التجربة القطرية وكونها عقبة في وجه فكرة الوحدة تكاد لا تهزم.

    ربما كان الأتاسي شديد التأثر بتجربة الوحدة السورية المصرية، ويبدو أنه كان يعلق عليها آمالاً كبيرة شأن غيره من المواطنين العرب، غير أن واقعة الانفصال كان تأثيرها أكبر فجعلته يعيد النظر في أهم ركائز وقواعد المشروع الوحدوي، كما أن إخفاق محادثات نيسان بين سورية والعـراق ومصر، بعد أن أصبح حزب البعث حاكماً في القطرين، سمح له باستخلاص أفكار جديدة تتعلق بطبيعة الوحدة وبالطريق الذي قد يؤدي إليها، والأهم من ذلك الإجراءات التي تسمح بالدفاع عن الوحدة واستمرارها فيما لو قامت تجربة وحدوية عربية جديدة.

    لقـد عاش الأتاسي نفسه قيام الوحدة السورية المصرية، كما عايش انهيارها ولقد كان يعرف بكل الوضوح والجلاء- مثلما يعرف أبناء الجيل الذي عايش التجربة- أن الضغوط الشعبية السورية هي التي جعلت الجميع يُرحبون بقيام دولة الوحدة، وحتى أولئك الذين لم يكونوا مستعدين للقبول بدولة الوحدة لو تُرك الأمر لهم، غير أن الأتاسي شاهد بأم عينه كيف أن أقدس هدف من أهداف الأمة العربية قد داسه العسكر بأقدامهم صبيحة الثامن والعشرين من ايلول عام 1961 عندما قاموا بانقلابهم العسكري الذي قضى على دولة الوحدة قضاءً مبرماً، من غير أن تجـد فكـرة الوحدة قوة تدافع عنها دفاعاً حقيقياً يتعدى الكلام والقول إلى الفعل والعمل. لا بد أن كثيراً مـن صناع الوحدة أنفسهم قد تنكروا لها وباركوا سقوطها وانهزامها. ويبدو أن الأتاسي استخلص من هذه الأحداث مجتمعة أن الديمقراطية السياسية وحدها هي التي كانت قادرة على حماية الوحدة ودولتها، غير أن دولة الوحدة قد وضعت البذور للانفصال داخل كيانها عندما حلت جميع الأحزاب والتنظيمات الشعبية على الرغم من أنها هي نفسها مدينة بوجودها لهذه الأحزاب وتلك التنظيمات بمعنى ما من المعاني، ولعل هذه الأمور مجتمعة حملت الأتاسي يذهب في العقدين الأخيرين من حياته إلى أن الوحدة العربية لا تستقيم ولا يمكن أن تقوم وتدوم إلا أذا كانت محصلة لفعل ديمقراطي تنعكس فيه إرادة أكثرية الشعب وحدةً أو انفصالاً. وبذلك ارتقى الأتاسي بمفهوم الوحدة العربية من كونه مفهوماً آلياً قدرياً وحتمياً إلى كونه فعلاً إنسانياً سياسياً يترتب على إرادة الناس حضوراً، وعلى رفضهم غياباً.

    وهذا يعني أن المطلوب هو السير نحو الوحدة وانتاجها بفعل سياسي حر لا العودة إليها بوصفها معطى تاريخياً ناجزاً وقائماً، وكل ما ينتظره هو أن تستعيده الذاكرة العربية، استعادة حتى تتحقق بالوجود مرة أخرى، فالوحدة فعل وليست حلماً. ولو كانت حلماً لما ظلت شعاراً يُرفع وأمنية تُطلب.

    بهذه الصياغة الجديدة لفكرة الوحدة العربية، وربطها نهائياً بالديمقراطية، استكمل الأتاسي إعادة بناء الناصرية في صورة حركة سياسية ديمقراطية اشتراكية ليبرالية منفتحة بعد أن كانت في صورتها الكلاسيكية حركة شعبوية لا ديمقراطية ترفض التعددية على كل مستوياتها، وفي كل صورها واشكالها الممكنة. ولئن دلت هذه الصياغة الجديدة للناصرية على شيء، إنما تدل على نضج جمال الأتاسي وعمق تجربته ومَقدرتَهُ الجذرية على المراجعة إلى حد لوم الذات ونقدها كلما كان ذلك ضرورياً.

……………….

    المراجع:

١- جمال الأتاسي، الحوار مقدمة العمل ص 6

2- المصدر نفسه ص 6

3- المصدر نفسه ص 9

4- المصدر نفسه ص 10 ، 11

5- جمال الأتاسي، الناصرية والناصريون، حوار أجراه مجدي رياض. ص 178

6- المصدر نفسه 178

7- المصدر نفسه 178

8- المصدر نفسه 178

9- جمال الأتاسي وداعاً ص 33

10- المصدر نفسه ص 37

11- الحوار، ص 32

12- المصدر نفسه ص 68

13- الناصرية والناصريون، ص 108

14- المصدر نفسه ص 180

15- المصدر نفسه ص 180

16- المصدر نفسه ص 180

17- المصدر نفسه ص 180

18- المصدر نفسه ص 180

19- المصدر نفسه ص 182

20- المصدر نفسه ص 180

21- المصدر نفسه ص 180

22- المصدر نفسه ص 179

23- المصدر نفسه ص 179

24- المصدر نفسه ص 180

25- المصدر نفسه ص 180

26- المصدر نفسه ص 180

27- المصدر نفسه ص 180

28- المصدر نفسه ص 182

ــــــــــــــــــــ

* باحث أكاديمي وكاتب فلسطيني/ سوري، أستاذ الفلسفة الغربية المعاصرة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة دمشق من 1998 حتى 2011.

(**) نص المحاضرة التي قدمها الدكتور ’’يوسف سلامة‘‘ في منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي في دمشق بتاريخ 7 نيسان/ مايو 2004.

التعليقات مغلقة.