الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

(1/2)- القوميـة … الوحـدة، في فكر جمال الأتاسي(**)

يوسف صياصنة *

    أيتها الأخوات، أيها الأخوة والأصدقاء:

    في هذا المناخ المتفجر تجـيء ذكرى الغياب، غياب الراحل الكبير المناضل جمال الأتاسي، تجيء والجماهير العربية الفلسطينية تروي بتصميمها وإرادتها ودماء شهدائها الأبرار، تروي الـورود التي زرعتها على أرصفة الأمل العربي، الشعب العربي الفلسطيني يقدم مبادرة الدم، ومن يسوق من تجارب التاريخ مثل واحد عن شعب استرد حقوقه وحريته وكرامته بإسقاط كل الخيارات من يده إلا خيار السلام؟!! سلام القطيع مع الذئب المفترس، سلام الضحية مع الجزار .

    أنـا مـا بكيـتُ ولا ندبتُ شهيداً، أنا أغني له أهدهدهُ، أحاوره أحسده، أقول كلاماً عاطفياً، لا بأس، هذا مقام ترقى فيه العاطفة إلى مقام العقل، بل وتتقدم عليه بالحقيقة لا بالمجاز .

    أربعمائة دبابة في نابلس، ومثلها دخلت مدينة رام الله، وفي بيت لحم وجنين وحول المخيمات والقرى وفـي الخليل مثلها، وفوقها الأباتشي وإف 16 وإف 15، وخلف ذلك آلاف المدافع، وفي الترسانة الصواريخ والقنابل الذرية والأسلحة الكيميائية والبيولوجية، وأمريكا وبريطانيا والسوق الأوربية المشتركة والصمت العربي الرسمي، لا بل والعجز العربي الرسمي، وفي مواجهة هذه القوى مجتمعة وفي مناخ العجز العربي المُطبق، يبدع الفلسطيني توازنه الاستراتيجي، ولا أعتقد أنه الإبداع الأخير، في المرة الأولى أبدع الحجر، وفي المرة الثانية أبدع القنابل البشرية، لقد أبدع خياراً آخر، خيار الإرادة، خيار العزة، خيار الكرامة خيار الدم، فأيقظ الشعب العربي من المحيط إلى الخليج .

    ومـن يستطيع اليوم أن يدافع عن أمريكا؟!! هذه القوة المنفلتة من عقلها وعقالها، التي تدعي أنها تحارب الإرهاب وهي تمارس أبشع أنواع الإرهاب، هذه الحرب القذرة في الضفة الغربية، هي حرب أمريكا تنفذها بالوكالة بيد شارون وسلاح وعتاد أمريكا، بيد السفاح الذي رمى القفاز في وجه من بادروه بالسلام ولطم اليد التي مدتها نظم العجز بغصن الزيتون.

    أيتها الأخوات، أيها الأخوة:  

    المبادرات الشعبية المبدعة لدعـم المقاومة، بالمال والسلاح والإعلام والضغط، وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني في الوطن العربي لأخذ دورها وتعبئة الجماهير للمقاطعة الشاملة للسلع والبضائع الأمريكية والبريطانية والضغط على الحكومات لقطع العلاقات السياسية والاقتصادية مع ‘اسرائيل’، فهل تصمت النظم عن شعوبها لتملأ الفراغ الذي أخلاه الواجب المستقيل؟ سؤال معلق يحتاج إلى جواب.

    كلمة أردت قولها بيـن يـدي المناسبة وصاحبها الذي كان يؤمن بمبادهات ومبادرات الجماهير، ويؤمن بدورها الحاسم بصنع أقدارها ومقدراتها، فمن رحابهِ نبارك المقاومة الباسلة ونبارك الدماء التي تلون فجر الحرية  القريب.

    أيتها الأخوات، أيها الأخوة:

    سألتُ نفسي وأنا أقارب تجربة غنية مديدة من أين أبدأ؟!! أمن حيث بدأ تفتح الوعي؟! أم من حيث انتهت إليه التجربة من نتائج واستخلاصات وعبر؟! إن الأمرين مهمان، ولا يُغني تناول واحد عن الأخـر، لأن التجربة لم تأتِ في سياق لحظي منقطع تأملي، بقدر ما كانت تجربة فكر ومسـار حــياة فـي مرحلة تاريخية تمور بالأحداث الجسام. وسألتُ نفسي أيضاً أمن الممكن أن تختزن حـياة غنية ومسيرة طويلة- حياة فكر يتوثب، وإنسان مفعم بالحيوية والنضال- وكل واحدة منهما تكمل الأخرى وتتعانق معها بموقف وذكرى، بنجاح أو إخفاق، بتقدم أو نكوص، كحياة المناضل الأخ والصديق جمال الأتاسي، هل يمكن أن تُخّتزل بمداخلة، عن فكره القومي الذي لا تنفصم عراه، عن مواقفه القومية، محكومة بالزمان والمكان؟! أسئلة تبقى معلقة وحسبي أن أشير أكثر مما أفصح، لأنك تجد نفسك على الشط بعد أن حسبت أنك أبحرت إلى العميق. فأنت أمام فكر يتحرك على الدوام، يلتقط الجوهري وكنتَ تحسبه صدفاً ليجلوه بثاقب فكره ليصدر عنه ذهباً خالصاً.

    أنا الآن متعب،

    فتعالوا إلي يا من يهزهم للربيعِ حنين،

    تعالوا إلي أيها الظامئون،

    أقدّكم إلى المنبع العذب،

    تحت الخميلة المنتصبة على السفح النضير،

    لقد أترعتُ نفسي بالآثام،

    وهذا سر معرفتي أقدس فضائل الإنسان،

    تعال إلي أنت،

    أيها المتفردُ من بين الجميع بحبِ كل الفضائل،

    لا تصغ لمناد الرشاد،

    ولا لاستدعاء قارع الأجراس،

    تعال ولا تقرب التائبين،

    الذين عادوا إلى معابرهم مهزومين،

    …………………

    هذا ما أنشدتهُ على مسمعي أمسية الخريف،

    في أول ليالي كانون،

    وقد غزت جنبات سمائها الغيوم،

    فنمتُ ليلتـي،

    دون أن تزعج ليلتي تائهات الأحلام.

                                                      جمال الأتاسي 1946

    لقد كان مشروعاً لاحتمالات شتى أدبية وسياسية وعلمية، وقادته ظروف النشأة والتربية في الأسـرة والمدرسة والمحيط الحمصي المفتوح على فضاء الريف والبادية إلى حياة واهتمامات الفئات الشعبية، وقاده التوجه المبكر والقدوة الأبوية إلى المسجد بل إلى التشدد الديني في سن الشباب المبكر، ومن المدرسة والمسجد كان انطلاقه إلى الشارع مع رفاقه ليمارس دوراً وطنياً مُحرضاً ومُضرباً ومتظاهراً ضد الاستعمار الفرنسي، وفي هذه السن المبكرة بدأ وعيه يتفتح على الظلم السياسي والاجتماعي الذي تعيشه الطبقات الشعبية في المدينة، ظلم الاستعمار الفرنسي وأعوانه من البيروقراطية الإدارية، ومن يتعاون معهم من بعض رموز الإقطاع والبرجوازية الخديج، وتعرف على رجالات ‘عصبة العمل القومي’ في حمص وفي أحد مكاتبهم استمع إلى الأستاذ زكي الأرسوزي محاضراً ، لم ينتسب لعصبة العمل القومي ولكنه انّشد إلى شعاراتهم العروبية وإلى تحيتهم ‘تحيا العروبة’ وإلى سيدارتهم الفيصلية العراقية، ولم ير أن هذه الشعارات ولا المشاركة في مقاومة الاستعمار الفرنسي والدعوة إلى الوحدة القومية أمراً يتناقض مع خياره الدينـي ولا حتى مع تشدده حين ذاك. جاءت الصدمة، وجاء الافتراق حين أفتى العديد ممن كان يحترمْ ويُجلْ، ممن يسموّنَ العلماء بإطاعة ’أولى الأمر‘ وفتواهم بأمر الذين استشهدوا برصاص الفرنسيين: ولا تلقـوا بأنفسكم إلى التهلكة، حينها انحاز إلى الجانب الآخر، إلى الحركة الشعبية الوطنية والقومية والتزم بشعار ‘الدين الله والوطن للجميع’.

    في التجهـيز الثانية وفـي الجامعة السورية بدمشق كان احتكاكه بالتيارين القوميين المتنافسين: تيار أستاذيه في الثانوية ميشال عفلق وصلاح البيطار اللذين يبشران بالفكر القومي الليبرالي، وتيار الأستاذ زكي الأرسوزي المتأثر بالمدرسة الألمانية مدرسة اللغة والإقليم المركز والقوة، كـان يرى فـي العـراق بروسيا العـرب. بطبعه وتكوينه اختار المدرسة الألمانية مدرسـة القـوة، ولازم الأستاذ الأرسوزي وساكنه وأصبح مع مجموعة من طلاب الجامعة العرب من مريديه، وكان الافتراق على خلفية عدم المطابقة بين القول والفعل، لقد أدان الأستاذ الأرسوزي ثـورة رشيد عالي الكيلاني وأدان قائدها، فالتوى الطالب المناضل جمال الأتاسي إلى مجموعة ‘الإحياء العربي’ و ‘عصبة العمل القومي’ وسافر ليلتحق بالثورة بصبحة رفاق عرب ‘من لبنان وفلسطين والأردن’ .

    في الساحة السياسية كان الشيوعيون، وكان الإخوان المسلمون وكان القوميون السوريون، إلى جانب المجموعات القومية التي تتشكل وتتمحور حول رموز وأشخاص أصبح لهم حضورهم علـى الساحة السياسية الطلابية. بعد عودته من العراق وجد نفسه عبر نشاطه الفكري والسياسي في الجامعـة يؤسس مع مجموعة من الطلاب العرب ‘الرابطة العربية’، هذا الاحتكاك وفي مناخ تؤجـجـه هجرة يهودية واقتطاع للواء اسكندرون وأنطاكية خلق حراكاً سياسياً غنياً ومتنوعاً. وقاد إلى حوارات أفرزت نويات لأحزاب كان لها دور في مسار الحركة القومية في الخمسينات من القرن الماضي وحتى اليوم، وبحوار ‘مجموعة الرابطة العربية جمال الأتاسي’ و’الإحياء العربي ميشال عفلق’، قامت أول مجموعة لحزب البعث العربي في عام 1943، وفي نيسان عام 1947 كان رئيس اللجنة التحضيرية التي دعت للمؤتمر التأسيسي لحزب البعث العربي، وفي حماة بعد عودته من فرنسا متخصصاً ساهم بوحدة حزب البعث العربي و’الحزب الاشتراكي بزعامة أكرم الحوراني’.

    أنا لا أسوق تاريخ أحزاب وحركات، فهناك بالتأكيد من هو أعلم مني وأعرف بوقائع وأحداث لا يصح فيها ما هو أقل من المعرفة اليقينية، وإنما ألتقط بمزيد من الحذر بواكير ما هو جوهري في فكر وسلوك هذا المناضل، ألتقط الفكر النقدي المستقل، هذه الاستقلالية المنفتحة على جميع التيارات. هذا الفكر ما وقف عند مرحلة ولا تجمد عند مقولة، دائماً كان يترك الأبواب مفتوحة ليدخل الهواء النقي، لم يكن أسير فكرة ولا عبداً لمقولة، كل الثوابت مشاريع حقيقية، وبحاجة للمراجعة على الدوام، الثابت هو المتغير، والجمود هو الموت، ثوابته الحرية والاشتراكية والوحدة، بقيـت راياتٌ مشرعة مرفوعة وحفر فيها في العمق، فـي المحتوى، وبقيت رايـات مشروعه القومـي النهضوي العربي تشده إلى التدقيق والمراجعة ولم يكن يرى من مستقبل سياسي وحضاري للعرب إلا من خلال نهوض وحدوي جـديـد، ولا يستطيع أن يراهم في صورة التشكل العالمي إلا من خلال حضورهم كأمة موحدة وناهضة.

    إن قراءته هذه أخذت مصداقيتها ومشروعيتها من الوضع العربي المتردي ومن حالة العجز التـي تعيشه الأمة تجاه عدو ‘إسرائيلي’ صغير بكل المقاييس- والقادر مستثمراً حالة العجز- من الضرب بكـل الاتجاهات ليُظهر عجز النظم عن تلبية أبسط حاجات مواطنيها من أمن وتعليم وصحة وعدل وسيادة قانون، وتغطي عجزها بكل الذرائع والأسباب، وأخذت مصداقيتها من وضع دولي لا مكـان فـيه إلا للقوة الشاملة، السياسية والمالية والعسكرية والتجارية والصناعية والثقافية، والأمة العربية جديرة بـأخذ مكانها بين الأمـم قـوة تتحكم بقدراتها مقررة لمصيرها، ومشاركة على قدم المساواة مع الأمم الأخرى في صياغة مجتمع كوني جديد، لا أن تبقى موضوعاً للنهب الإمبريالي في عالم لا يرحم الضعفاء.

    الوحـدة فـي فكر المناضل جمال الأتاسي ليست حلماً وخيالاً لا يقبل التجسيد بل هي ممكن صعب، بل أصبحَ اليوم في غاية الصعوبة ولكنه قابل للتحقيق وما يحتاجه إرادة، تشحن القناعة وتقـوي عـزائمها، ما تحتاجه إعـداد مـحـكـم وتخطيط سليم، ما تحتاجه ظرف دولي مواتي ومُستجيب، وعلى الأقل مُحيد، أو أنه لا يخاطر بدفع ثمن المواجهة، وقبل ذلك قيادة سياسية مجربة ولها مصداقيتها بين الجماهير، فلا نهوض ولا تقدم مالم تدفع به وتندفع إليه الجماهير .

    ومـن موقع القيادة والمسؤولية السياسية والفكرية في حزب البعث العربي الاشتراكي شارك في صنع الوحدة بين سورية ومصر، كانت الظروف جميعها تدفع باتجاه الوحدة.

    وواكبت قيادتين في قمة هرم السلطة في القطرين تلتقطان السانحة التاريخية، فمصر ثورة 23 تموز/ يوليو عام 1952 ورحيل الجيش الإنكليزي المحتل، وتأميم قناة السويس، وفشل العدوان الثلاثي بقيادة عبد الناصر، ومد جماهيري عارم، ورجعية عربية دخلت مرحلة انعدام الوزن والارتباك، وسورية ودعت استبداد الشيشكلي وقيام حكومة وحدة وطنية يشارك بها القوى القومية والتقدمية، مجلس شعب يرأسه أكرم الحوراني على رأس الكتلة البعثية التي حققت حضوراً شعبياً وبرلمانياً بعد توحيد الحزبين، تهديد من حلف بغداد وحشود تركية على الحدود الشمالية، تهديد إسرائيلي وحشـود إسرائيلية، مؤتمرات داخلية بتمويل رجعي وأجنبي، رئيس جمهورية وطني ديمقراطي، جيش وطني وضباط يُقدّرون حجم المخاطر ودقة الظرف وضيق مجال المناورة، هل يهم أن نقـول مـن كان أكثر اندفاعا؟!! المهم أنها قامت، وكانت ولازالت أكبر إنجاز تحققه الأمة في القرن العشرين.

    ثورة 14 تموز عام 1958 في العراق فتحت عين الجميع، الخطر القادم، الجماهير في الوطن العربي بركان يغلي، عبد الناصر يشير والجماهير تندفع إلى الشوارع، الوحدة قادمة، الأمة على أبواب عهد جديد، هذه الجماهير، هذه القوة، المتفجرة كالبركان وحدت صفوف الأعداء من استعمار وامبريالية وصهيونية ورجعية عربية، وأنماط من تقدمية عربية لم تدرك حجم الخسارة وجسامة الفقدان، أنا لا أقول أن الخارجي وحده هو الذي أطاح بالوحدة وأعاد الانفصال، أعاد الأمة إلى رحاب سايكس- بيكو بيد عربية وإرادة عربية وقرار عربي مستجيباً لقرار وتمويل ودعم خارجي، أنا لا أقول ولا قال المناضل الأتاسي ذلك، إن أخطاءً بنيوية داخلية ساهمت بدورها بتسهيل تنفيذ المؤامرة على المتآمرين، هذه الوحدة بقيت في فكر الأتاسي حضور لا يغيب، وواقعا يتبدد قبل أن يمد جذوره إلى العميق العميق، ما بهت ولا وقف يندب الذي فات، بل من يومه وقف إلى جانب الجماهير الشعبية تتقدم لسد المنافذ والطرقات، ما جرى بعد ذلك معروف، لقد سقط الانفصال بفعل ضربات الجماهير التي خرجت بعفوية وبلا قيادة إلا ما تشكل منها على عجل وبقي الانفصال ينتظر من يخليه من الطريق.. هذا ما التقطه المناضل جمال الأتاسي، المـد الشعبي العارم الذي يلتف خلف قيادة عبد الناصر التاريخية، كل ما بعد ذلك تفاصيل معروفة، البعـث أصبح بعوثاً من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ودولتين، والناصرية أصبحت ناصريات والماركسية ماركسيات، وتعمقت ثقافة الخوف من المحيط إلى الخليج، ودخلت مؤسسات المجتمع المدني القطرية والقومية ونزعت منها سلطة المبادرة، هل كان ذلك رداً منهجياً أنضج على نار هادئة على تلك المبادرات الشعبية العارمة؟ أجزم أنه نعم، فكل حركة باتت تحتاج إذن مسبق وتوجيه، ولم تعد سلطة الشارع سلاحاً بيد النظم تُشهره بوجه أعدائها بل سلاحاً يرتد إلى نحرها، لأنها باتت تدفع ثمن عجزها إن قصرت في لجمهِ ومحاصرته وتقنين حركته بعد أن ارتهنت قرارها للخارج وباتت مطالبة باستحقاقات ضماناً لرسوخها واستقرارها، وتمهيداً لذلك بل على طريقه، جاءت حرب حزيران هزيمةً في مسار أمة وليست نقضاً للمشروع القومي الديمقراطي.

    أيتها الأخوات أيها الأخوة:

    لقـد خـرج المفكـر جمال الأتاسي من تجربة الانفصال بدروس غنية، فإلى جانب التآمر الاستعماري والإمبريالي والصهيوني والرجعي العربي، كان هناك تضخم الجهاز البيروقراطي والأمنـي، وكان هناك غياب التنظيم السياسي الذي يسد الفجوة، وكان الانقسام بين صفوف اليسار بين الشيوعيين والقوميـن، وكان الانقسام داخل القوى القومية وخاصة بين الناصريين والبعثيين، وبعد فشل ميثاق 17 نيسان عام 1953 ومناداة البعث الذي أمسك بالسلطة في سورية والعـراق بالتمايز وبالتجربة الثورية الخاصة للحزب، استقال من السلطة ومن الحزب، ‘وأخذتُ فـي الـعمـل القومي بمشروع عبد الناصر لأني وجدته الأكثر تقدماً وفعلاً في حركة و شعوب الأمة، والأكثر مستقبلية والأكثر جدوى’، ‘لقد رأى في المشروع الناصري التجسيد الحي للمشروع القومي العربي، ولم يرى ذلك في أي مشروع آخر’، وذهب إلى أبعد من ذلك، لقد كان يؤمن أن ‘الفكرة مهما كانت صائبة تبقى بحاجة للناس وللبشر يحملونها من عالم الفكر إلى عالم الواقع وليس غير مصر عبد الناصر، بقادرة على توفير قوة الدفع الشعبية للمشروع القومي العربي’.

    الدرس الذي يمكن أن تُعلمنا إياه التجربة ومسار التاريخ السياسي لقطرنا ولأمتنا العربية منذ خمسين عاماً وحتى اليوم هو أننا لم نتقدم في أي مرحلة ولم نقم بأية خطوة ناجحة على طريق التحرر والتقدم والوحدة، إلا عندما كان هناك نهوض شعبي وإرادة شعبية جماعية تتحرك وراء مطلب وتدفع نحو هدفْ، وفي الانعطاف نحو الناصرية كان إبداعياً وليس اتباعياً، وكان له رأي فـي السياسـة، وكانت له رؤاه التنظيمية، كان يرى أن الناصرية مشروع نظرية لازالت تتكامل وتنمو عبر التجربة والخطأ، وإنها لم تنطلق من محددات فكرية مسبقة، ولذلك لا بد وأن تتكامل فـي سياقها التاريخي المستمر في عملية النضج والتكوين، وإن الوقوف بها عند مرحلة هو إخراجٌ لها من سياقها وتجميدها على تخوم مرحلة تجاوزها، عبر جدول الفكر والواقع فهم الناصرية وتعامل معها من موقع المُجدد والمُطور لا من موقع المتبِع.

    بعـد هزيمة حزيران قـام المناضل الأتاسـي بمراجعة ذهبت إلى الوسائل والغايات، والإشكاليات والمستجدات، مـن هـذه المراجعة خلُص إلى أن إزالة آثار العدوان تحتاج إلى مراجعة شاملة، إن في الدولة، أو المعارضة. فالدولة بما لها من سلطة ووسائل قمع تستطيع أن تتحكم بمصائر الناس والسيطرة على وسائل رزقهم وإبعادهم عن الاهتمام بالشأن العام وعن السياسة، والاستيلاء على الدولة، وتحويلها إلى ملكية خاصة، وإلغاء القاعدة الاجتماعية التي يقوم على سواعدها مهمة دفع المشروع القومي لإنجاز مهامه بإزالة آثار العدوان كخطوة لا تحتمل التأجيــل علـى طـريق الوحدة القومية، ورأى أن المعارضة باستمرارها على نهجها الانقلابي تطرح مزيداً من الحذر لدى السلطة وتجعلها في موقف الحذر والريبة من توجهات وشعارات المعارضة في مرحلة يحتاج فيها الجميع إلى مد جسور الثقة والحشد الشامل من أجل المعركة وازالة آثار العدوان، فنادى بالنهج الديمقراطي لإعادة وحدة القطرين، وللوصول إلى أي وحـدة عربية، ورفضَ بالمطلق الطابع الانقلابي، ورفعَ شعار التحالف الوطني طريقاً للوحدة الوطنية، وقادتـه سياسـة اليد الممدودة للجميع بما فيها النظام في عام 1968 إلى المُعتقل مع رفيقـيّ دربه المرحومين ياسين الحافظ وعبد الكريم زهور، وحسن عبد العظيم وغيرهم، وخرج مـن السـجن ليـبـقى على النهج والمسار، وقادته من جديد إلى مد يده من جديد بعد قيام الحركة التصحيحية في عام 1970، ودخل الجبهة الوطنية التقدمية وما لبث أن خرج منها على أرضية الاختلاف حول المادة الثامنة من الدستور وعلى سياسة الاحتواء التي مارستها الأجهزة في ذلك الحيـن، ومـا فقد البوصلة بعد الخروج ولا أضاع الدليل، قال بالمعارضة الوطنية الديمقراطية، فالمعارضة الديمقراطية هي الوجه الآخر للسلطة، هي العين اليقظة التي تنبه للخطأ قبل أن يكبر وإلـى الخطـا قبل أن يستفحل، وبقي من موقعه هذا موقع المعارض الحريض على الوحدة الوطنية، وجاءت فترة السبعينات فترة مراجعة للقوى والذات وخلص إلى ‘الحوار مقدمة العمل، والديمقراطية غاية وطريق’ وقادت بالنتيجة إلى قيام التجمع الوطني الديمقراطي مع بقية القوى المشاركة والتـي امتدت حواراتها سنوات وسنوات، والتجمع الوطني الديمقراطي لم يكن شأن سوريا وحسب وإنمـا كان حسب منظور المفكر جمال الأتاسي خطوة على طريق المشروع القومي الديمقراطي، تقام فوق تراب قطرنا العربي السوري الذي حَملَ منذ البداية منظوراً قومياً يتلفتُ إلى ما وراء الحدود بحنين وأمل كبيرين، لقد كان التجمع الوطني الديمقراطي خياراً ثالثاً، الأول الخيار الذي كان سائد وطرح بخطاب القسم وعداً بالتغيير على مراحل والـذي أخذ يتباطأ نتيجة لتعقيدات البيروقراطية المُمسكة بمفاصل الإدارة والتي تخشى على مصالحها من هذا التغيير، الخيار الثاني هو خيار القوى السلفية الذي كان سينقلنا إلى أزمة مغلقة الأفق تحت غطاء خطاب إيديولوجي آخر، أما الخيار الثالث خيار التجمع فهو الخيار الذي ينفتح على  المجتمع لإخراج البلاد من أزمتها وصياغة المُصالحة الوطنية ووضعها على طريق العصر ومواجهة الاستحقاقات الخارجية المطلوب مواجهتها، وتوظيف قواها لنهوض عربي مأمول. وها هي نواقيس الحرب والعدوان تقرعها أمريكا، وسورية إلى جانب العراق وإيران وكوريا من الدول التي يتوجه لها التهديد، وليس غير الوحدة الوطنية والمراجعة الشاملة وإفساح المجال للجميع، سلطة ومعارضة، لأخذ دورها ومكانها في شرف الدفاع لمواجهة أي عدوان محتمل، وكم كنت أتمنى أن يكون رياض الترك ورفاقه بيننا لأن هذه الواحة تحتمل الرأي والرأي الآخر إذا ما اتسعت الصدور وقدمنا الاستحقاقات الوطنية على الخلافات الحزبية، آخذين بعين الاعتبار  قيمته وحدوده من أنه رأي آخر وليس رأياً مطابقاً يضيع في زحمة الآراء المتشابهة، ولا زلتُ أتطلع أن لا يبقى هذا المنبر وحيد، وأن أرى  بعين الحلم الممزوج بالواقع أن هذه الواحة تمتد وتمتد لتعم المدن العربية السورية، نفكر معاً سلطة ومعارضة وطنية ديمقراطية بما يهم ويبني ويعزز الصمود والمواجهة، فالأخطار المحدقة بالمنطقة جسيمة وتحتاج إلى مواقف وآراء وربما الى دماء الجميع.

    يقول المناضل الأتاسي ‘إذا نظرنا إلى التيارات السياسية الأساسية في الوطن العربي نجد مـنـهـا مـن ينطلق بمنظور قومي ثوري ديمقراطي، ومنها من يأخذ بمنظور ماركسي أو ليبرالي، ومنها مـن ينهل من فكر إسلامي مستنير، هذه التيارات التي نطلق عليها الوطنية والتقدمية، لها من الاختلافات والتقاطعات فيما بينها ما يقف حائلاً دون الوحدة الفكرية والثقافية كعـامل هـام من عومل اندماج الأمة، ولا يمكن أن نطالب هذه التيارات بالمنظور الأيديولوجـي الموحد، ولكننا نقدر على دعوتها إلى مواقف سياسية موحدة… ولا يعني هذا بالنسبة للقوى ذات المنظور الإنساني أو الكوني أن تتخلى عن منظوراتها الأممية، ولكن أن يكون توجهها الأساسي تأكيد وحدة الأمة، والانطلاق في توجهها الإنساني والعالمي يتم عبر الأمة وليس عبر تجاوزها’.  هذه طريق دعا إليها كمخرج تاريخي للأمة على طريق نضالها وطريق إنجـاز وحدتها القومية، فمنْ غير هذه القوى في مجتمعنا تقدر على إكمال المسير على هذا الطريق حتى مداها، هذا حلم يرقَ إلى واقع، فهل يصبح واقعاً يرتفع إلى مستوى الحلم؟!!

    لقد عمل المناضل الأتاسي من موقعه كمفکر قومي، ومن موقعه كقائد سياسي ومن موقعه في المؤتمر القومي الإسلامي ودوره كمنسق للساحة السورية ودفع بهذا الاتجاه، دفع إلى الحوار الذي يقود إلى مصالحة تاريخية في تحديد أولويات الصراع وصب الجهود على طريق القواسم المشتركة الوطنية والقومية عبر مواجهة تاريخية مع الإمبريالية والصهيونية وقوى الردة والتعصب والرجعية. وبرأي المناضل الأتاسي أن الوحدة القومية لم تعد بحاجة لإثبات ضرورتها، ولكن بحاجة للإجابة عن كيف؟ ومتى؟، وجدلية العلاقة بين العروبة والإسلام، ومسألة الأقليات العرقية والدينية والطائفية، وعوامل التفتت الاجتماعي ما قبل القومية، أيضاً مسالة التنمية وكسر حاجز التخلف، مسألة البرنامج القومي والأداة القومية الثورية ثم تأتي في المقدمة الثورة الثقافية التي ينبغي أن تكون المنطلق والبداية… هذه عناوين جزئية في المضمون في العمق، في عمق المشروع القومـي الديمقراطي مشروع نهضة الأمة، وفي هذا العمق كانت إضافات وتجسدت رؤاه، وإنه من المهام الوطنية والقومية أن تكون تجربته وأفكاره مشاعاً بين الجميع وأن تُدرس الدراسة المستفيضة، دراسة تأصيل ما كان جوهرياً، تأخذها بجدليتها وحركيتها وهي تحاور الواقع لتتعلم منه، ولتعطيه، وهذا مشروع كبير على قدر صاحبه وأملنا أن لا يمتد بنا الزمن قبل أن تراه منجزاً.

    أيتها السيدات والسادة:

    فـي المقدمة قلت أن خياره كان العلمانية وهذا صحيح. ومن الإنصاف له ولذكره أن استطرد قليلاً لأعرض تحديداته للعلمانية، إنه يقول ‘إننا نقصد بكلمة العلمانية، الدولة الديمقراطية، ودولة المواطنين ولكـل الأمة على اختلاف تياراتها الأيديولوجية ومذاهبها ومعتقداتها الدينية، أي القبول والتأكـيد علـى التعدد في الأديان والأفكار والتيارات وأنه لا يوجد من يملك الحقيقة المطلقة في إدارة وتطوير المجتمع- الأمة الدولة’.

    ثم بعد السبعينات قام بتغيير المصطلح.

    ‘أصبحنـا نـقول بعدم المذهبة بديلاً عن العلمانية لما تثيره من التباس، البعض يراها اللادينية- الإلحاد- كما في الشيوعية والليبرالية’. وهو إذ يرفض الدولة المذهبية يذهب إلى أن الإسلام ‘في صياغته للإدارة السياسية دين علماني بالمفهوم السياسي الذي نطرحه، فالدولة تخضع لمبادئ الشورى، وما تلتقي عليه الجماعة ومصالح البشر (أنتم أعلم بأمور دنياكم)… وأن الأحكام تتبدل بتبدل الأزمان، وما رأيناه من مذهبة وتسلط وخَلقْ طبقة من رجال الدين كان جزءاً من الانحدار والتخلف، وبشكل خاص في العهدين المملوكي والعثماني’.

    لقد بقيت القضية الفلسطينية في فكره صراع وجود بين الأمة العربية والاستعمار الصهيوني الاستيطاني التوسعي، وإن استخلاص الحق العربي في فلسطين هو التزام قومي لا بد أن يوضع بالمقدمة لأي نهج استراتيجي عربي تحرري وحدوي، وأن تصاغ على أساسه علاقات العمل مع قوى الثورة الوطنية للشعب الفلسطيني، وبقيت مصر ومكانتها كمرتكز ومستند للعمل الوحدوي باعتبارها القطر العربي الأكبر وباعتبار موقعها الجغرافي ودورها التاريخي والحضاري، ونضالية شعبها.

    وفـي الـخـتـام، لم يمت المناضل جمال الأتاسي، لقد بقي بأسرته الكريمة التي رفعت رايته وجسدت معناه، وبقي في رفاقه الذين عاشوا تجربته وأخذوا عنه منهجه لتطوير أفكاره ورؤاه، وبقـي فـي هذا الحشد الكريم المتعدد الطيوف والرؤى والأفكار والمعتقدات الذي حلم به موحد الصفوف وراء الأهداف الكبرى في مسيرة أمتنا، وتمناه.

    وشكراً جزيلاً.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* شاعر وأديب ومفكر سياسي سوري

(**) نص المحاضرة التي قدمها الأستاذ ’’يوسف صياصنة‘‘ في منتدى جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي في دمشق بتاريخ 7 نيسان/ مايو 2004

…………..

يتبع.. {(2/2)- العلمانية.. الديمقراطية في فكر جمال الأتاسي؛ د. يوسف سلامة}

التعليقات مغلقة.