الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“مزار الدُبّ”… مخطوط ميشيل كيلو يرى النور بعد رحيله

عمار المأمون *

صدر عن مؤسسة دار الجديد مؤخراً رواية “مزار الدُب”، للكاتب السوري ميشيل كيلو (1940-2021)، الذي سنكتفي بالتعريف عنه (عجزاً عن الإحاطة بسيرته وتفادياً للاختزال المجحف دوماً) بما كُتب على غلاف الرواية الخلفي: “كَتب وترجم وعارض بلا كلالة. سُجن وأخيراً هُجّر…”، كيلو، المعروف بمواقفه المعارضة للنظام السوري، كتب “مزار الدب” بين أيلول 1988 وكانون الأول 1990 في باريس. لكن المخطوط ضاع، وعثرت عليها لاحقاً شذا كيلو بعد وفاة والدها، كما تخبرنا في المقدمة، مشيرةً إلى أن ضياع المخطوط كان حسرة في قلبه، كحسرة رحيله عن سوريا، وأضيفت إليها حسرة أخرى، هي نشر الرواية بعد وفاته دون أن يشهد هذا الحدث، وتنوّه أيضاً أن “مزار الدب”، تعتبر الجزء الأول المُمهّد لروايته “دير الجسور” التي صدرت عام 2019.

تتحرك في الذهن العديد من الأسئلة قبل “قراءة” الرواية، التي تحدث في اللامكان، وتحكي عن قرية هيمن عليها الشيخ الهادي، إلى حد أنّه أَنسى سكانها أصلهم، وتاريخهم، وأسماءهم وأحلامهم، ثم قام بتعيين نفسه مخلصاً لهم وإلهاً عليهم، التلخيص السابق لا يفي الرواية حقها، لكن أنجزناه لضرورة السؤال.

هذه القرية، أي مزار الدب، مسقط رأس عاصي الخال، الشخصية الحاضرة في “دير الجسور” والمنحدرة من مزار الدب، القرية التي شكلت “نواة عسكرية تنتقل إلى العاصمة وتستولي على الحكم عن طريق تغلغلها في الجيش”. السؤال بعد التمهيد السابق تقني، يتعلق بأسلوب القراءة، فنحن أمام مقاربتين أو نوعين من القراء، من بدأ بـ”دير الجسور” وعاد إلى “مزار الدب” بعد صدورها ليعرف الأصل، وهناك من قرأ “مزار الدب”، ودفعه الفضول والتشويق لقراءة “دير الجسور”، النموذج الثاني هو الذي أتبناه، مركزاً على مزار الدبّ فقط.

متى يموت المؤلف؟

يمتلك اسم ميشيل كيلو سطوة من الصعب تجاهلها، اسم علمٍ ذو هالة، ويخلق إرباكاً حين “نقرأ” دون أن نحيل، ولو حدساً، إلى حياة الكاتب ونضاله السياسي، ما يجعل الرواية تتحرك بين الجمالي الصرف، وبين القراءة التأويلية لمعرفة الأبعاد السياسية المقنعة بالفانتازيا، إن صح تصنيف الرواية ضمن هذا النوع. لكن، من لا يعرف كيلو، أو من يحاول أن يتحرر من سطوة اسم المؤلف، بصورة أدق، ترسيخ موته أدبياً، يجد نفسه مرة أخرى أمام قراءتين و فرضيتين للتلقي، هل نقرأ “مزار الدب” بوصفها “كتبت” نهاية الثمانينيات، أو بوصفها “نشرت” عام 2022؟ تحديد التاريخ، عتبة نحو وضع مزار الدب ضمن المكتبة، أو ضمن تاريخ الأدب السوري إن صحّ التعبير. هنا، سنتمسك بتاريخ النشر، وكأنها رواية لكاتب سوري اسمه م. ك صدرت هذا العام.

اختيار تاريخ النشر كعتبة للقراءة، يتيح لنا أن نضع الكتاب ضمن المتخيل الروائي السوري، خصوصاً الروايات التي صدرت بعد 2011، تلك التي تحاول رسم المتخيلات السياسيّة عن السلطة وتكوينها في سوريا، سواء كانت الأخيرة تذكر بالاسم، أو يحال إليها بسبب اسم المؤلف. هذا المكان أو السياق الذي اخترنا وضع الكتاب ضمنه، يكشف نسقاً أو خيطاً روائياً متخيلاً يسعى لتفسير مصدر السلطة والقائد الاستثنائي، بصورة أدق، كيف تحول شخص إلى مهيمن على حيوات شعب/ سكان قرية/ مجموعة مقربين الخ.

ضمن هذا المتخيل تحضر عناصر أسطورية، أكاذيب، هوس شخصي، شبق جنسي من نوع ما، والأهم، كذبة تأسيسية، ورطة تحول الفرد إثرها إلى ما يشبه الإله أو القائد الخالد (هنا إحالة إلى قراءة سياسية ترى أن الحدث الاستثنائي مجرد وهم أو كذبة يستغله قائد كاريزماتي لفرض سيطرته) الشأن الذي يتكرر، أي أصل الطغيان، بصور مختلفة في “السوريون الأعداء” 2014، لفواز حداد، “رقصة القبور” 2016، لمصطفى خليفة، “الغرانيق” 2017، لمازن عرفة، بل يمكن القول إن “المئذنة البيضاء” 2022، ليعرب العيسى أيضاً تحوي ذات المتخيل، شخص يحاول أن يصبح إلهاً أو طاغيةً، يهيمن ويسيطر سحراً على من حوله حد العجز عن الوصول إليه، وكأنه فكرة في القلوب والرؤوس لا يمكن مسّها، تتردد هنا أطياف جبلاوي نجيب محفوظ، لمجرد التحذلق لا أكثر.

أكاذيب منشأ القائد الخالد:

التشابه السابق والرغبة الروائيّة لمعرفة الأصل أو لحظة التأسيس لأسطورة القائد، ثم بناء نموذج الطاغية وقدراته التي تفوق البشر، يمكن قراءته ثقافياً وإسقاطه على “سوريا الأسد” نفسها، وطبيعة الحكم فيها، ففجأة تحول شخص (على تنوع علله) إلى قائد خالد، في “السوريون الأعداء”، بسبب شخص آمن به حد تأليهه، في “الغرانيق” بسبب شبقه الجنسي وخوف من حوله، في “رقصة القبور”، عميل نازي خطط للأمر. المشترك أن هناك دوماً خدعة ما ليصبح شخص ما إلهاً، في حالة “مزار الدب”، كانت كذبة الشيخ الهادي نفسه، وخطف كلثوم، ابنة الأسطورة والخرافة، وإقناع الناس بأنه من استعادها من براثن الغياب، هي الكذبة أو الحدث المحرّك لأسطورة هذا الشخص/القائد/ الإله.

المرعب في رواية كيلو، رغم شاعريتها وأساطيرها السحرية، هي قدرة الهادي التي مكنته من السيطرة على سكان قرية المزار، وهنا تكشف لنا الرواية عن تقنيات الهيمنة، ميتات غير متوقعة للمعترضين أو عارفي الحقيقة، تبدل أحوال الناس، والأهم، طبائعهم، فجأة يدخلون في الطاعة الكليّة، ينسون أنفسهم، أسماءهم، كموضوعات يصبحون أوعية فارغة يملأها الهادي بطاعته و”نوره” وشعاراته التي تبثها جمعية الأحلام التي أسسها، أما مرض النسيان الذي طغى على سكان مزار الدب (المشابه لما حل في ماكوندو ماركيز)، لا شفاء منه، إذ تتلاشى الذاكرة أبداً، لا أسماء ولا ذوات لسكان القرية، والأهم، لا ذاكرة ولا أحلام.

الهيمنة على الأحلام في الرواية بصورتها الفانتازية، يمكن النظر إليها كهيمنة على المتخيل السياسي والجمالي لدى سكان مزار الدب، وهذا بالضبط الأشد إثارة للفزع، أن تصبح الأحلام مساحة خطرة، يحط فيها الشيخ الهادي/ القائد الخالد ويوظفها ضد أصحابها، يرسم معالمها ويضبط تدفق مائها، فإن كان الماء مصدر الأحلام، فالطاغية يعب نبعها حد الجفاف، ليتردد السؤال على ألسنة الجميع: “من أنا ؟ من أنت؟”. وهذه بالضبط اللعنة التي حلت بأهل المزار: نسيان الذات كلياً، والعيش بدون ذاكرة وأسماء متفردة، مع ترديد ما يقوله الهادي بعمه. (هذا يذكرنا بالنظرية السياسية الخاصة بالهيمنة التي تفترض سيناريو ديستوبيّ يتمكن فيه الطاغية من احتلال الذات والمخيلة حد ضياع الأنا، ليتطابق الجميع).

الشك بوجه جفاف ماء الأحلام:

الملفت في الرواية أن القرية نفسها، أي مزار الدب، تتحدث وتنطق، والتراب فيها يتزحزح بفعل الهادي، الذي ضبط الأرض والبيوت والأسرّة، يتسلل بينها هامساً أحياناً وصارخاً في الأحيان الأخرى، الرؤية الكابوسية هذه تتقنع في الرواية وراء الأساطير والخرافات، لتصبح نفسها، أي الرواية، أشبه بقصة تحكيها جدة عجوز عن “ماض بعيد” يُشك بصحته، وهنا تعود الخرافة للحضور، أمن المعقول أن يكون كل ما حدث مجرد حكاية عجوز على حافة الهذيان؟ أمن الممكن أن “أصل المصيبة” مجرد حكاية وهمية لتخدير المطيعين، أولئك الذين انصاعوا للشيخ، ونوره، وتلفيقه؟

ما يثير الاهتمام أيضاً في الرواية هو الراوي، فمن الذي يتحدث؟ طفل يستمع لجدته؟ جدة تروي؟ أم مزار الدب نفسها التي تنطق بضمير “الأنا” أحياناً وتُخاطَبُ كشخصية في الأحيان الأخرى؟ أطياف خوان رولفو تحضر حين نطرح هذه التساؤلات، لكن أبرزها هو، من هذا الراوي العليم كليّاً، ذاك القادر على التنقل بين الحكايات والأحلام والهمسات والصراخ؟

الاحتمال الأشد شعريّةً، هو أن يكون الراوي هو قرين الشيخ الهادي نفسه، فإن كان الطاغية المُهيمن كُلّي الحضور في جميع التفاصيل، يربط الألسنة ويحلّها، ويحتل الأحلام ويعيد زراعتها في ماء النوم. الراوي هو ذاك الذي لا يُنسى/ لا يَنسى ولا يموت، كاسم العلم الحاضر دوماً، المختلف عن أسماء المُطيعين المبتدعة، قرينٌ يُبعث على الشفاه التي تتبادله، لا شكل له سوى حروف اسمه، قادرٌ على تتبع الحكايات في لحظات تدفقها، مُسلحاً بيقين المشافهة الآني، أمام تلفيق الرسمي المتفق عليه. ربما هذا الراوي هو صوت الشك القائم دوماً، يتناسخ من لسان إلى لسان، من الوحش، إلى الحورية، فالنهر، فالمطيع، فالحالم في يقظته.

* صحفي وإعلامي سوري

المصدر: رصيف 22

التعليقات مغلقة.