الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

“كتيبة جنين” و”عرين الأسود”: الفدائيون الجدد

أحمد جميل عزم *

يمكن البدء بتوثيق ظاهرة المجموعات الفلسطينية المسلّحة التي باتت جزءا من الحياة اليومية في منطقتي جنين ونابلس، في شمال الضفة الغربية، وكيف بدأت ومن بدأها، انطلاقاً من عدد من المناسبات والصدامات والأحداث، ولكن الأكثر أهمية فهم من هم هؤلاء “الفدائيون الجدد” من حيث الدلالات السياسية التي يعبّرون عنها، وسمات هذه الظاهرة، ومستقبلها، وهذا ما سيحاول هذا المقال فعله.

بشكل عام، بات هناك ما تعرف باسم كتيبة جنين في منطقة جنين، وخصوصاً، في مخيم جنين، ومجموعة عرين الأسود في نابلس، وهما العنوانان العريضان لوجود فلسطيني مسلّح، يقوم عليه شبابٌ، غالبيتهم في عشرينيات العمر، بمعنى أنّهم لم يعوا تماماً مرحلة انتفاضة الأقصى عام 2000، التي مثلّت التجربة المسلّحة الواسعة في الضفة الغربية.

في العدد الصادر أخيرا من مجلة شؤون فلسطينية، نشر الأكاديمي والباحث، إبراهيم ربايعة، دراسة تتبع ظاهرة الموجة الحالية من المقاومة في جنين، بدءا من العام 2014. وقدّمت الصحافية الفلسطينية، لينا ابو الحلاوة على شبكة قدس، سلسلة أعمال توثيقية للظاهرة في كل من جنين ونابلس، وهناك عشرات الفيديوهات على وسائل التواصل الاجتماعي. وقد اعتمد المقال التالي على المادة الميدانية الموجودة في هذه المصادر، فضلا عن الإعلام التقليدي، والتواصل مع أهالي (وأبناء) المنطقتين، في نابلس وجنين.

بشكل عام، يمكن تلخيص الظاهرة بأنّها وجود مجموعاتٍ من الشباب المسلّح، بدأ بروزه في البداية في مناسبات وطنية، مثل حفلات استقبال الأسرى المحرّرين من سجون الاحتلال، ومواكب جنازات الشهداء، وحتى حفلات زفاف خاصة بأسرى محرّرين أو عائلات الشهداء والمناضلين، لكن المجموعات كانت تقوم بمواجهات مع الاحتلال ازدادت مع الوقت، تلتها مواجهات وعمليات اغتيال قام بها الإسرائيليون بقوات خاصة وقوات مستعربين (الجنود الإسرائيليين المتخفين بزي عربي مدني).

أهم سمات الظاهرة:

1- ملء الفراغ: ما كانت هذه الظاهرة لتكون على هذا النحو، لو أنّ اتفاقيات أوسلو طُبقت فعلاً، أو أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية، والفصائل الرسمية، والعالم، تبنّت موقفا مختلفا، من الدخول المستمرّ للاحتلال، واستمرار الاستيطان. بموجب اتفاقيات أوسلو يمنع دخول الإسرائيليين، جنوداً ومدنيين، إلى مناطق السلطة الفلسطينية، التي هي مناطق الكثافة السكانية، إلا في حالاتٍ محدودة جدّاً محددة بالاتفاقيات. يقول وسام حنون، وهو أسير محرّر في مخيم جنين، أنّ مجموعات الشباب التي تجمعت مع بعضها، وصار عددها نحو 20 شابا في يونيو/ حزيران 2021، وصاروا ينامون في أزقة المخيم كانوا تجسيداً لثقافة “أن لا دخول إلى المخيم من دون اشتباك”.

التزم الجانب الإسرائيلي نسبياً بقرار عدم الدخول لمناطق السلطة بين عامي 1995 و2000، ولكن بعد 22 عاما من خرق هذا الالتزام، والدخول المستمر للجنود والمستوطنين، من دون استراتيجية رسمية فلسطينية أو دولية لوقف ذلك، قرّر شبابٌ تربوا وهم يرون هذا الاختراق أخذ الأمر على عاتقهم.

2- العرينية: السمة الثانية لهذه الظاهرة، وترتبط بالأولى، يمكن تسميتها العرينية، ويعبّر قرار شباب نابلس، تبنّي اسم “عرين الأسود”، بوعي أو من دون وعي، عن هذه السمة، فهؤلاء الشباب لا يجسّدون خلايا عمل سرّية تقوم بعملياتها ثم تختفي، كما كان العمل الفدائي في الماضي، بل يتحصّنون ببنادقهم في أعمق نقطة يستطيعونها بين الناس. في مخيم جنين، وكما في أكثر من تسجيل تم بثه، إشارة وحتى نصائح من قيادات أكبر سناً للشباب أن يكونوا في عمق المخيم وليس أطرافه. وفي نابلس، حرص على الوجود في أحياء في قلب المدينة القديمة، مثل حارة الياسمينة، والقيسارية. يعرف الشباب أنّ أماكنهم معروفة، بل إن مسؤولي المخابرات الإسرائيلية، مثل الذي يدعو نفسه “كابتن أنور”، في نابلس يتصلون بهم وبأهاليهم ويهدّدونهم. والشباب لا يتخفون ويختفون بقدر ما أنّهم يتحصّنون في أماكن يتحدون الاحتلال أن يدخلها، ويكونون هم على أهبة الاستعداد للمواجهة والدفاع عن أنفسهم، أو عن أي منطقة يدخلها الاحتلال، مثل رفعهم شعار “اللي بدخل القبر بنقبر”، والمقصود أن دخول المستوطنين والجنود منطقة قبر يوسف، قرب مخيم بلاطة سيتم الرد عليه، بالنار. وتنتج هذه الظاهرة حالة يختلط فيها انتظار لحظة الاستشهاد مع المواجهة، بما فيها من شجاعة وقلق، خصوصاً عند الأهالي والمحيط الاجتماعي، الذي يحتضن هذه الظاهرة بكل حب، والتزام وطوعية وقلق.

لا يلغي هذا أنّ هؤلاء الشباب يدركون ويسعون إلى الخروج من مهمة الدفاع، على أهميتها، للهجوم والمبادرة، وبالفعل هناك حالات عديدة بادروا فيها بالهجوم ثم العودة إلى مواقعهم.

3- تطوّعية ما قبل 1948: من الشائع في الموروث الفلسطيني، سواء التاريخ الشفوي، أو حتى الأدب، والسير الذاتية، الحديث عن بيع الرجال والعائلات ممتلكات من نوع الأبقار والخيل أو ذهب الزوجات لشراء البنادق، لقتال الصهاينة قبل العام 1948. هذا متكرّر في ظاهرة الشباب الجدد، فمثلا باع الشهيد عبد الرحمن صبح، في نابلس، (28 عامّاً) جرافة أو آليّة حفر (تسمّى في الشارع الفلسطيني “باغر”) لتمويل شراء بندقيته، وكانت لديه سيارته، وحصان يحبّه. وحتى في حالة الشباب الذين ينتمون بشكل صريح إلى فصيل بعينه، مثل جميل العموري (شهيد مخيم جنين في 10يونيو/ حزيران 2021)، والذي كان شخصية أساسية في تنظيم الشباب حوله، يؤكّد المقرّبون منه للإعلام أنّ “سلاحه وذخيرته” بتمويل ذاتي منه. ويقول  عضو المجلس الثوري في حركة فتح، جمال حويل، وأحد قادة كتائب شهداء الأقصى في انتفاضة الأقصى، أنّ المجموعات “إمكاناتهم ذاتية، غير مدعومة من سلطة أو فصائل .. يشتغلون ليل نهار لكي يحضروا رصاصة ويطلقوها على الاحتلال”.

4- الوحدة الميدانية المناطقية تسمو على الفصائل: يقول مسلح ملثّم في مخيم جنين، يضع عصبة سرايا القدس (الجهاد الإسلامي) لبرنامج المسار على شبكة “قدس”، “نحن موجودون في كل لحظة”. ويضيف “نحن وحدة وطنية، في مخيم جنين، لا شيء يفرّقنا، نحب بعضنا، نقوم بعمليات مشتركة”. وشاب يضع عصبة كتائب القسام (حماس) “نحن مسمّى واحد هو مخيم جنين”. وهناك إجماع واضح بين المراقبين على أنّ هناك وحدة في كل موقع ضد الاحتلال، بل وعلى مخاطبة أي جهة أخرى سياسية بشكل موحد، فشباب نابلس يتحدثون كوحدة واحدة بغض النظر عن الانتماء التنظيمي، وهذا واضحٌ جداً في حالة مخيم مثل جنين، الذي يتعامل أبناؤه مع أنفسهم جماعة فرعية ذات خصوصية.

5 – فصائلية جديدة: تبدو مسألة الارتباط بالفصائل عند هؤلاء الشباب مركبة، فهم يعلنون انتماءهم لفصائل، أو مجموعات محدّدة، لكن العلاقة التنظيمية تبدو إسميّة معنوية. والأبرز من الفصائلية التنظيمية هو الوحدة المناطقية، إذ يقاتل المناضلون معاً، إذا دعت اللحظة إلى القتال باسم المنطقة التي ينتمون إليها، باعتبارهم هم أصحاب القرار ولا ينتظرون قرارا سياسيا من أحدٍ خارجها. يقول الأسير المحرّر (أعيد اعتقاله أخيرا) عدنان حمارشة، “كل شخصٍ يحمل فكرةً تتلاءم مع تنظيم معيّن”، “لديهم توجهات تتلاءم مع تنظيم”، ويضيف “التنظيم ضرورة”. وهكذا فالانتماء التنظيمي يبدو له وظيفة إعلامية، وهوياتية، والتصاق بإرث نضالي، لكن من دون تبعية القرار السياسي أو الميداني لأحد، ومن دون انتظار دعم مادي من أحد. وهذا العمل المشترك هو رفض ضمني للانقسام الفصائلي، خصوصاً بين حركتي فتح وحماس، وإعلان أن الرد على الاحتلال ليس بالرصاص فقط، ولكن بالوحدة الوطنية.

هذا النوع من الفصائلية مرتبط أيضاً بالإعجاب بالماضي وبالإرث النضالي، تقول الصحافية لينا أبو الحلاوة “هم امتداد لعائلاتهم”. على سبيل المثال، الشهيد أمجد العزمي (استشهد 16 أغسطس/ آب 2021)، سمّي باسم عمّه الشهيد أمجد العزمي، وكان والده من كوادر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهو ينتمي إلى حركة حماس. أمّا شهيد نابلس، إبراهيم النابلسي، فقد كنّى نفسه “أبو فتحي” تيمّناً بقائد كتائب شهداء الأقصى في انتفاضة الأقصى، نايف فتحي أبو شرخ (استشهد في 26 يونيو/ حزيران 2004)، والذي تملأ صوره أزقّة نابلس. وقد أشار آباء شهداء أخيرا إلى مسألة الإرثيْن، العائلي والاجتماعي، والأهم أنّ بعض هؤلاء الأطفال كان قد شهد والتقط صورا مع الشهداء الرموز في انتفاضة الأقصى، وكبُر على صورهم مثلما كبُر على انتهاكات الاحتلال.

6- “التوريط الواعي”/ التناقض الرئيسي: يعود مصطلح التوريط الواعي إلى حركة فتح بعد العام 1967، بناءً على اعتقاد عند بعض القيادات أنّ التدرّج في المقاومة سيؤدي إلى قرارٍ عربيٍّ رسمي بخوض الحرب، وأنّ المشكلة الأساسية ليست الجاهزية للحرب، ولكن قرار الحرب. ربما لا يوجد بين الشباب من يعبّر صراحةً وبوعي عن هذه القضية، لكن ما يحدُث على أرض الواقع أنّ هذه المجموعات تستقطب فئات مجتمعية أوسع، وتصبح الأجهزة الأمنية، في موقع المواجهة، وتصبح الفصائل الرسمية في موقع الظهير أو الراعي أو المتضامن. ومن مظاهر هذا الاتجاه، رفض الدخول بمواجهة مع السلطة الفلسطينية، بل ورفض التحريض الذي يقوم به الاحتلال حيناً ضد السلطة، وبعض السياسيين من بعض الفصائل حيناً آخر. على سبيل المثال، يقول الشاب محمد السعدي، من جنين، في أثناء تأبين عدد من الشهداء “نحن مشروع جهادي لدحر الاحتلال.. ومن يحمل حجرا يحمله ضد الاحتلال”، في إشارة ضمنية إلى أنّ هناك هدفا واحدا.

الواقع أنّ التداخل الأمني والاجتماعي بين هؤلاء الشباب والأجهزة الأمنية يفرض نفسه لصالح سيناريو وحدة الجميع في مواجهة الاحتلال، وليس المواجهة بينهم. على سبيل المثال، عندما استشهد جميل العموري في بداية يونيو/ حزيران 2021، جاء ذلك بعد كمين لقواتٍ من المستعرِبين، وكانت المواجهة قريبةً من مبنى جهاز الاستخبارات الفلسطينية في جنين. دخل الملازم أدهم علوي والنقيب تيسير عيسة المواجهة ضد الجنود الإسرائيليين، واستشهدا في المواجهة. كما أن والد إبراهيم النابلسي، ضابط سابق في جهاز الأمن الوقائي وأسيرٌ محرّر. والشاب رعد حازم (29 عاماً)، الذي ذهب حاملاً بندقيته الآلية إلى تل أبيب، موقعاً خمسة قتلى وعددا من الجرحى قبل استشهاده، يوم 7 إبريل/ نيسان 2022، والده ضابط برتبه رفيعة في جهاز الأمن الوطني الفلسطيني. وربما يمكن رؤية رعد وبعض الشباب الآخرين  ظاهرة منفصلة عن ظاهرة كتيبة جنين وعرين نابلس، من حيث سرّية العمل والهجوم في عمق الاحتلال (الأراضي المحتلة عام 1948)، لكن ما  فعله والد رعد كان خطوةً إضافيةً في تطور الحالة الفدائية الجديدة في جنين (وفلسطين)، فالأب فتحي حازم أظهر أولاً عُمقاً وقدرات خطابية فائقة، في تأبين عمليّات ابنه وتقديمها وتأطيرها، وقدّم خطابا وطنيا دينيا عميقا، ثم أعلن التمرّد ورفض تسليم نفسه للاحتلال الذي سعى مرارا إلى اعتقاله، ولا يزال مُطارداً داخل جنين وسط الحاضنة الشعبية نفسها لكتيبة جنين. وبقدر ما شكّلت الحاضنة الشعبية الجنينية ملاذاً لفتحي حازم، كان هناك دعم وتأييد من الصّف الأمني والأجهزة التي انتمى لها. وعدا تقديم مسؤولي الحكومة الفلسطينية والأجهزة الأمنية العزاء في الشهداء، هناك تبنٍّ سياسي واجتماعي. وعلى سبيل المثال، كرّمت قوات الأمن الوطني خرّيجي التوجيهي في حفل حمل اسم “فوج إبراهيم النابلسي”، كما نفّذت القوات نفسها “معسكر التعايش” الخاص بـلجان الشبيبة في المدارس الثانوية (لحركة فتح)، في منطقتي رام الله والبيرة باسم “معسكر الشهيد ابراهيم النابلسي”، في موقع قوات الأمن الوطني في نويعمة، في أريحا، والذي يتضمّن نوعا من الإعداد البدني والتثقيفي للشباب. (هذه المعلومات على صفحات الأمن الوطني الفلسطيني على الإنترنت).

8- التجريبية: السمة الأخيرة أنّ هؤلاء الشباب وجدوا أنفسهم مطالَبين، بدافع حافز أخلاقي وإنساني، وواقع موضوعي، هو الشعور بتهديد الاحتلال اليومي، وإرث نضالي، بعدم انتظار القيادة الرسمية، أو الفصائلية التقليدية، فقرّروا الحصول على البندقية، وحملها، وإطلاقها، ولكن من دون تدريب، ومن دون خبرة، ومن دون توجيه، ومن دون قيادة، ومن دون استراتيجية، وكما يقول جمال الزبيدي، عم الأسير زكريا الزبيدي، إن هؤلاء الشباب “فقدوا أطرافا وأصيبوا بجراح” نتيجة قلة الخبرة العسكرية، وهم يجرّبون العمل العسكري، وترفع هذه التجريبية ثمن هذا النضال كثيراً.

يستخدم الإسرائيليون منذ سنوات مصطلح “جزّ العشب” للإشارة إلى عملياتٍ متكرّرة متتالية لقمع المقاومة الفلسطينية، في غزة، والضفة الغربية، والواقع أنّ جزّ العشب، عادةً يحدُث لترك الأرض والعشب الأخضر، متناسقاً منظّماً.

على الفلسطينيين مسؤولية فهم الواقع الراهن، فيما يتعلق بالمقاومة، فهي أولاً خيارٌ يفرضه استمرار الاحتلال، لكن السؤال: هل يمكن تطوير فهم شامل فعلاً، ضمن استراتيجية سياسية مقاوِمة، أم سيبقى الأمر في إطار المبادرات الشعبية التي تحصل على حاضنة جماهيرية، لكن لا تحصل على الإسناد الحقيقي المطلوب سياسياً، وتنظيمياً، واستراتيجياً؟

يطرح عدنان حمارشة، وجهة النظر الأقرب إلى الفصائل الإسلامية، إنّ المقاومة الشعبية التي يؤمن بها هؤلاء الشباب هي “الرد بالمثل”، أي أن الجنود يأتون بالرصاص، فالمقاومة الشعبية هنا بالرصاص، أما جمال حويل، فيكرّر طرح فكرة الأسير القيادي الفتحاوي، مروان البرغوثي، عن مفهوم المقاومة الشاملة التي تقتضي تكامل أنواع المقاومة، من أنماط الشيخ جرّاح وبيتا، مع مواجهة دخول الجنود بالقوة.

* باحث أكاديمي وكاتب فلسطيني

المصدر: العربي الجديد

التعليقات مغلقة.