الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

حال معارضاتنا اليوم

حبيب حداد

أكثر من عقد من الزمن انقضى حتى الآن على انطلاق الانتفاضات الشعبية في العديد من الأقطار العربية في سياق ما عرف بالربيع العربي ٠ وكما هو معلوم فقد انتهت تلك الانتفاضات ،التي رفعت شعارات الحرية والعدالة والديمقراطية ، بعد فترة وجيزة من انطلاقها إلى الواقع الراهن الذي تعيشه تلك الأقطار اليوم ، واقع الحروب الأهلية الداخلية التي تهدد مصائرها وكياناتها من حيث وحداتها  الجغرافية والسياسية والشعبية .

كيف حدث ذلك؟ وماهي العوامل والأسباب التي أدت إلى إجهاض تلك الانتفاضات الشعبية التي كان ينتظر منها ان تكون مقدمة ومشروعًا لثورات تحرر وطني ديمقراطي تنقل مجتمعاتها الحالية من واقع القهر والتخلف والاستلاب إلى دول ديمقراطية حديثة تواكب مسار التقدم والحداثة وتضطلع بدورها في بناء مستقبل أفضل لعالمنا المعاصر  .

كيف حدث ذلك؟ وهل كانت ظروف مجتمعاتنا الداخلية أم الأوضاع الدولية الإقليمية والعالمية تشكل عوائق جدية في نجاح تلك الانتفاضات وتحقيق أهدافها ؟ وما هو مصير تلك الدعوات التي ما تزال تطرح بين الحين والآخر وتنادي بضرورة العودة إلى البدايات والوقوف على الأسباب التي أدت إلى فشل تلك الانتفاضات من أجل استئناف عملية التحرر والنهضة؟ وإذا كانت الأسباب الذاتية والموضوعية التي كانت وراء هذا الفشل العام لتلك الانتفاضات متوافقة إلى حد كبير، فأنا  هنا أخص بالحديث انتفاضة الشعب السوري التي مر على تفجرها اكثر من إحدى عشر عامًا حتى الآن ٠

فلقد كان فشل هذه الانتفاضة في تحقيق الأهداف التي طرحتها في وضع حد لنظام الاستبداد والتخلف والفساد السبب الأساس في الوضع المأساوي الذي يعيشه شعبنا السوري اليوم . ولقد عبرنا عن رأينا هذا في كل المناسبات التي أتيحت لنا بأن من يتحمل المسؤولية الأولى في الوصول إلى هذا الوضع المأساوي هو المعارضات السورية الخارجية وعلى الأخص منها تلك التشكيلات التي أعطت لنفسها مشروعية وشرعية دور الممثل الوحيد للشعب السوري في الوقت الذي كانت فيه وما زالت تقوم بدور الادوات الواجهية للتمويه والتغطية على سياسات ومخططات الدول التي كانت وراء تشكيلها .

فكما هو معروف لم يكد ينقضي العام الأول على انتفاضة الشعب السوري حتى تم حرفها عن مسارها التحرري السلمي نتيجة العسكرة والأسلمة والتطييف والتدويل . ولعل في مقدمة الأسباب التي أدت الى ذلك مواجهة النظام الحاكم لأجيال الشباب ،التي قادت تلك الانتفاضة في بدايتها ،بالقوة المسلحة الغاشمة الامر الذي أدى إلى تشتيت دورها عن طريق التصفيات الجسدية المباشرة وحملات الاعتقال المتلاحقة أو دفعها الى النزوح والهجرة إلى مختلف أصقاع الكون .

وإذا تحدثنا عن الأسباب والعوامل التي أدت إلى إجهاض انتفاضة الشعب السوري التحررية فلا يمكن ان تكون العوامل الموضوعية المتعلقة بواقع المجتمع السوري أو الظروف الدولية الإقليمية والعالمية آنذاك مانعًا جديًا يحول دون تحقيق اهداف تلك الانتفاضة . لكن المسؤلية الاساس من وجهة نظرنا في إخفاق هذه الانتفاضة وهدر تضحيات الشعب السوري غير المحدودة تلقى على عاتق قوى المعارضات السورية وبخاصة منها تلك الهيئات التي إدعت لنفسها مشروعية تمثيل الشعب السوري .  ومما يؤسف له ان نرى بعض القوى السورية المعارضة منذ السنوات الأولى التي أعقبت هذه الانتفاضة والتي كانت تعلن بين الحين والآخر ضرورة العودة إلى تصحيح مسار هذه الانتفاضة من حيث أهدافها ورؤيتها الاستراتيجية و مسارها الشعبي الوطني المستقل ، ان نرى هذه القوى ترتد عن مواقفها المعلنة وتتسابق للانخراط من جديد في مشاريع ومخططات الدول التي لا تريد الخير لبلادنا والتي اصبح وطننا ساحة مستباحة لتصفية صراعاتها البينية وتأمين مصالحها الآنية والآجلة.

ومهما يكن ، وكما أسلفنا وطرحنا ذلك في كل مناسبة ، فأية معارضات تلك التي ابتلي بها وطننا والتي مازالت حتى اليوم تضع مسؤولية الانهيار الذي وصلنا إليه في سورية على الوضع الدولي بالدرجة الأولى وتحديدا على الدول التي ارتبطت بها والتي ما تنفك تعلن في كل حين وفي كل مناسبة ان هذه الدول قد نكثت بوعودها وتخلت عن تعهداتها بأن تقوم هذه الجهات الدولية والإقليمية بمهمة اسقاط نظام الاستبداد وتسليمها السلطة كما جرى في كل من العراق وليبيا .

والواقع الذي ينبغي الإعتراف به وعدم تجاهله إطلاقا ،بعد فوات هذه المرحلة المصيرية من كفاح الشعب السوري  ، أن القوى الوطنية السورية الحقيقية لم تستطع ان تنهض بمسؤولياتها تجاه تحويل هذه الانتفاضة إلى عملية تحرر وطني ديمقراطي ناجزة لأنها لم تنجح في تشكيل الكتلة التاريخية المطلوبة باعتبارها أداة التغيير المنشود والضامن المأمون لأية انتكاسات أو ارتدادات محتملة. ولعل أخطر ظاهرة تميزت بها مواقف تلك التيارات والأحزاب والقوى والشخصيات الوطنية عند مواجهتها لخيار تحمل مسؤولياتها إزاء هذه الانتفاضة هي قصور وعيها وخلل ممارساتها من جانب وهشاشة مناعتها الوطنية وانجذابها إلى مصالحها الشخصية وروابطها الفئوية من جانب آخر .

فالعديد من القوى والنخب والعناصر الوطنية والتقدمية التي لا يمكن تجاهل او إنكار ماضيها المعارض أو الاستهانة بتضحياتها المتميزة السابقة ذهبت طوال السنوات الماضية في اتجاهات خاطئة ومدمرة ومناقضة لتوجهاتها المعروفة . والا كيف نفسر ونتفهم مواقف تلك المجموعات والعناصر التي كانت مواقعها في أقصى يسار اليسار واصبحت طوال السنوات التي أعقبت هذه الانتفاضة تتحالف بحماس لافت مع الدول الرأسمالية الليبرالية والانظمة الرجعية وحتى مع الكيان الصهيوني بهدف تحرير سورية من الاستبداد وبناء دولة ديمقراطية عصرية تجسد كما يعلنون ارادة الشعب السوري في التحرر والوحدة والتطور والحداثة !!!

وكيف نفسر مواقف تلك الأحزاب والمجموعات القومية التي لم تتردد أو تتورع عن التحالف مع أنظمة القرون الوسطى كي تتولى نيابة عنها مهمة الإطاحة بنظام الاستبداد ودعمها بكل الإمكانيات من أجل عودة سورية إلى الاضطلاع بدورها التاريخي المعهود كقاعدة رئيسية لحركة التحرر العربية !!!

وكيف نفسر مدى جدية وصدق تطور حركات الإسلام السياسي التي هيمنت على مؤسسات المعارضة الشكلية ، في دعوتها إلى تحرير سورية من النظام الفئوي الشمولي المستبد وإقامة دولة مدنية ديمقراطية عصرية تكفل المساواة التامة بين جميع السوريين دون أي تمييز اواقصاء او تهميش على أساس الجنس او العرق او الاثنية او الدين او المذهب أو الثقافة او الطبقة !!!

ازاء هذه التساؤلات المشروعة التي يبررها الواقع الراهن على صعيد المجتمع السوري طوال السنوات الماضية فأنا في الوقت نفسه لا أتنكر إطلاقا لإمكانية بل ولضرورة التطور الفكري والتسلح بالوعي العلمي النقدي الطامح أبدآ الى مقاربة الحقيقة والسير في هديها والتعامل بالتالي مع معطيات الواقع الموضوعي وأحداث المستقبل في ضوء ذلك ٠ ولذا ففي هذه المرحلة التاريخية التي يعيشها عالمنا المعاصر والتي شهدت انقلابات نوعية كبرى ،على صعيد التطور العلمي والفكري والمجتمعي ، الأمر الذي يعطي لظاهرة التحولات الفكرية لدى تيارات ونخب ومفكرين عرب مشروعيتها وصدقيتها ٠ لذا لا يمكن وضع هولاء جميعًا في سلة واحدة بل لا بد من تقييم تلك التحولات المطلوبة على أساس انعتاقها من صنمية الايديولوجيات المقيدة وتعاطيها مع حركية الواقع المتجدد .

المصدر: المرصد السوري لحقوق الانسان

التعليقات مغلقة.