الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

أردوغان والأسد: التّطبيع ممكن بتنازلات تركيّة

عبدالوهاب بدرخان *

لطالما كانت متوقّعة استدارة تركيا نحو التصالح مع النظام السوري. ليس المهمّ أيّ إخراج تختاره أنقرة لها، بل أيّ جديد آخر ستُسقطه من سياستها السورية المعلنة. لكنها فوجئت بغضب السوريين في مناطق نفوذها، وفي خارجها أيضاً، وحتى بحرق علمها، بعد دعوة مولود جاويش أوغلو إلى “مصالحة” بين النظام والمعارضة.

كانت تركيا قد أُجبرت أواخر 2016 على التخلّص من بعض الحمولة الأمنية في سياستها عندما ساعدت، بحسب المصادر الروسية، في إنهاء معركة حلب، ما أهّلها للانضمام إلى الثلاثي الذي عُرف لاحقاً بـ”مسار أستانا”. وفي هذا المسار أصبحت أسيرة التواطؤ الروسي – الإيراني وأجندته، ومن ثمّ شريكة في “خفض التصعيد”، أي في “إنهاء” الحرب السورية، وكان لها دور مباشر في تعيين “مندوبين” عن المعارضة السورية لحضور اجتماعات أستانا حيث لا يُؤخذ باعتراضاتهم واقتراحاتهم، فيما الروسي والإيراني كانا يراعيان مصالح النظام ويمثلانه في حضور مندوبه.

بدأ مسار أستانا عسكرياً وحقّق معظم أهدافه، إذ انتهت المعارك الأخيرة في الشمال بتفاهمات استجابت فيها أنقرة لمطالب موسكو بوقف المواجهات بين قوات النظام وإيران من جهة، والمعارضة التي احتوت تركيا معظم فصائلها من جهة أخرى. بعد ذلك صار المسار سياسياً يحصر أهدافه في تحصين مواقف النظام أو في مسائل عامة، كالتركيز على “وحدة سوريا وسلامة أراضيها”، فيما تتقاسم الأطراف الثلاثة تلك الأراضي ولم تفطن يوماً إلى ضرورة احترام “سلامة شعبها”. أخفق “أستانا” في تلبية الأمم المتحدة المطالبة بخطوات لـ”بناء الثقة” (كإطلاق المعتقلين وجلاء مصير المفقودين وفك الحصارات)، بل إنه أخّر إطلاق عمل اللجنة الدستورية ثم أخفق في/ أو امتنع عن إقناع النظام بالانخراط الجدي في عملها.

من الواضح أن النجاح الوحيد لمسار أستانا كان استمالة تركيا واستغلال أوضاعها لتغيير سياستها، فبينما واظب الروس والإيرانيون على وقوفهم مع النظام واستدراج رئيسه بشار الأسد للموافقة على مصالح ومشاريع يرتؤونها، كانت أوضاع شريكهم التركي تتحوّل داخلياً وتؤشّر إلى إمكان خسارة رجب طيب أردوغان و”حزب العدالة والتنمية” الانتخابات المقبلة. إذ يتهمه خصومه السياسيون بتعريض الأمن القومي لتهديدات من أكراد شمال سوريا، وبتعريض الأمن الاجتماعي لمخاطر استقبال نحو أربعة ملايين لاجئ سوري، وبتعريض الأمن الاقتصادي والمالي عبر توجيه ميزانيات ضخمة إلى مغامرات عسكرية لم تظهر جدواها. لذلك تبلورت لدى أردوغان أهدافٌ ثلاثة: عملية عسكرية لـ”القضاء على الإرهاب” وتوسيع “المنطقة الآمنة” التركية في شمال سوريا، تخفيف عبء اللاجئين السوريين بترحيل ما لا يقلّ عن مليونٍ منهم في غضون الشهور المقبلة، واستدراج أموال عبر صفقات مع روسيا لتعويم الليرة التركية… وذلك في إطار هدف رئيسي: ضمان الفوز في انتخابات 2023.

قبل أن يصل أردوغان إلى طهران (19 تموز/ يوليو) للمشاركة في قمة “ثلاثي أستانا”، كان الشريكان الآخران (فلاديمير بوتين وعلي خامنئي) قد استكملا تواطؤهما لحشره في الزاوية ودفعه إلى تنازلات في سوريا. فمن جهة يبديان “تفهّماً” لهواجسه الأمنية في شمال سوريا، ويعارضان أي عملية عسكرية تركية، ومن جهة أخرى، يعرضان عليه خيارات بديلة لـ”مساعدته” على التقليل من المخاطر الكردية على تركيا. عليه أن يتقبّل تقارب “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) مع قوات النظام، أي أن تكون روسيا وإيران والنظام أطرافاً ضامنة لأنشطة الأكراد وحسن سلوكهم (سبق أن شَكَت أنقرة من استخدام هذه الأطراف مقاتلي “حزب العمال الكردستاني” ضدّها)… وبموازاة القمة، أحضرت طهران وزير خارجية نظام دمشق لمحادثات مع نظيره حسين أمير عبد اللهيان، ولكي يطلق فيصل المقداد تصريحات هجومية قائلاً إن إنشاء تركيا مناطق آمنة في الأراضي السورية “يضعها في موقع صراع” مع النظام، وليخاطب الأميركيين الذين “ينهبون ثرواتنا” (تسليم حقول النفط إلى “قسد”) بأن عليهم “أن ينسحبوا وإلا…”!

اللافت أن الرئيس التركي العائد من طهران بادر أيضاً إلى مطالبة الولايات المتحدة بـ”الانسحاب” من شرقي الفرات، لأن وجودها “يغذّي التنظيمات الإرهابية هناك” (يقصد “قسد”)، أما انسحابها فيسهّل مكافحتها. شكّلت “مكافحة الإرهاب” عنواناً لإظهار الانسجام والتوافق بين “ثلاثي أستانا”، أما مطالبة الأميركيين بالانسحاب فتجتذب تركيا إلى عمق الأجندة الروسية – الإيرانية. وقبل أيام من لقاء بوتين وأردوغان في سوتشي (5 آب/ أغسطس) للبحث في ما اتفق عليه في طهران، كانت القوات الروسية تشرف على مناورات بالذخيرة الحية لقوات الأسد و”قسد”، وهي الأولى من نوعها.

هذه المرّة كان الرئيس الروسي حاسماً للجدل، وقال أردوغان في رحلة العودة إن بوتين طلب منه “التعاون مع الأسد”. وفيما فُهم أنه سينفذ ما “طُلب” منه، توالت بعد ذلك محاولات للتقليل من وقع الحدث، لكنها عزّزت أيضاً مقدمات التمهيد لما سيحصل، كالقول إن التنسيق المخابراتي مع نظام الأسد جارٍ منذ خمسة أعوام على الأقل، وأنه بدأ في موسكو بين علي المملوك وهاكان فيدان، اللذين التقيا أيضاً في بغداد والعقبة. ثم ها هي صحيفة “تركيا” تنشر تسريبة اختبارية عن اتصال سيُجرى بين أردوغان والأسد، وما لبث وزير الخارجية جاويش أوغلو أن تعمّد كشف حديثه وقوفاً مع المقداد على هامش اجتماع حركة عدم الانحياز في بلغراد (تشرين الأول/ أكتوبر 2021)، ومع أن الحديث تناول الخطر الكردي عموماً، إلا أن أوغلو خلص إلى وجوب “المصالحة” بين النظام والمعارضة “بشكل أو بآخر”. واضح أن المصلحة التركية تمضي إلى نقطة اللاعودة.

لكن ما عسى ذلك أن يعني بالنسبة إلى نصف الشعب السوري الموزّع قسراً بين تهجير ونزوح ولجوء؟ في اليوم نفسه، كان الإعلام التركي يبرز إقامة “مراسم وداعية” في ثلاث ولايات لنحو مئة لاجئ “قرروا العودة الطوعية” ونقلتهم باصات خاصة إلى عفرين. غير أن كلمة “المصالحة” هي التي أطلقت التظاهرات الغاضبة في كل أنحاء الشمال السوري، وما تخللها من حرق للعلم التركي في أعزاز وهتافات تعتبر الوجود التركي احتلالاً. أدركت أنقرة “خطأ الاعتقاد بأن السوريين قطيع يدار وفقاً لإرادتها”، كما يقول ضابط منشق رفيع المستوى، مشيراً إلى أن تركيا لن تتمكّن من التفاهم سياسياً مع نظام الأسد لأنه لن يسهّل العودة الطوعية الآمنة للاجئين، ولا يريد (ولا الروس والإيرانيون يريدون) حلاً وفقاً للقرار الدولي 2254، والأهم أنه وحلفاءه لن يتوقفوا عن اللعب بالورقة الكردية لإضعاف تركيا.

* كاتب صحفي ومحلل سياسي لبناني

المصدر: النهار العربي

التعليقات مغلقة.