الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

بذكرى موت المجرم الأول

عبد الباسط حمودة

سورية كانت تتعثّر باستمرار منذ ما بعد الاستقلال، وتكرَّس التعثر منذ حكمها حزب البعث عام 1963، واستبدّ بها آل أسد الجواسيس منذ 1970، وأدخلها ثلاثة عقود من التأخر تحت دياجير طغيانه في وقتٍ كان العالم يأخذ بالعلم طريقه نحو التقدم؛ وبأثر ذلك التعثّر كان أناس ينهشون في لحم البلاد ودُهنها، لكنّ مستوى ذلك النهش وحجم وصوت السكاكين وهي تُشحذ وتُجّهِز عليها ازداد بشكل لوغاريتمي منذ عام 2011، حين استفحل الأمر وأصبح استمراره مستحيلاً، مهما كانت العواقب.

تعرّضت سورية، منذ سنة 1949، أي بعد ثلاث سنوات من خروج القوات الفرنسية، إلى سلسلة من الانقلابات العسكرية التي اتسمت كلها بالفشل؛ فالحاكم القابل للاستمرار صهيونياً هو المرتبط والمستقوي بهم، إنه الفاشستي البعيد عن أية مبادئ، أو مشاعر إنسانية، أو أخلاق، فكان تمعّن رعاة “حافظ أسد” في الظروف التاريخية التي أدّت لإخفاق وفشل تلكم الانقلابات، ضماناً لإطالة طغيانهِ أطولَ مدةٍ ممكنة.

إذ مع الخلاف والنزاع السائد بين قادة البعث على التسابق لخدمة مشاريع أعداء الشعب والأمة، كان التركيز بعد العام 1966على حافظ أسد الذي أصبح وزيراً للدفاع والرجل القوي في السلطة، وضمن سيناريو «بعثي- غربي- صهيوني» مشترك لجر مصر ونصب فخ لها، لإفساح المجال بالاستيلاء على السلطة في سورية للأشد ارتباطاً بتعليمات أسياده، قام “حافظ أسد” بتسليم الجولان، وتحميل الهزيمة بكل صفاقة لقائد العمليات، ومن ثمَّ لتكرّ السبحة بنحر أو انتحار قائد المخابرات العسكرية وقبلها إبعاد رئيس الأركان، وحين تجرأ- المسؤول السياسي لحزبهم وشريك حافظ بالتآمر وتطييف الجيش-  بإعلانه أن “حافظ” هو الخائن الأول والمسؤول الوحيد عن تسليم الجولان، انحصر الصراع على السلطة والنفوذ بينه وبين “حافظ أسد”، الأمر الذي سرع باستيلاء الأخير على السلطة بانقلاب 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، لتبدأ حقبة ظلامية وإجرامية جديدة في تاريخ سورية، لمّا تزل حتى اليوم.

وبعد ثلاثة عقود من استيلائه، وفي صبيحة 10 حزيران/ يونيو 2000 تم إعلان خبر موت “حافظ أسد” نافقاً، مجسداً أهم منجزاته في إبراز حكم الفئة المُقادة طائفياً؛ فقد استفاق السوريون على انتشار إرهابيي فروع الأمن بكل مسمياتها وبحماية الجيش العقائدي أسدياً، بين الأزقة والحواري بجميع المدن وبلدات المناطق السورية، وبإرشادٍ من أدواتهم أيتام البعث و”حرسه القومي” ومُخبريه الأنذال، وبنفس الوقت كان مجلس الدمى الأسدي وبوجود جميع وزراءه وقادة البعث، قد أنهى بدقائق مسألة تعديل ما يسمى الدستور، وسطَ جوٍ من النفاق والعويل المشابه لأجواء كوريا الشمالية، في التباري بمظاهر اللطم والتباكي بكل صفاقة وعمالةٍ أتقنوها عبر عقود بشراكتهم مع الحرس الإيراني الملالوي الإحلالي؛ هذا المجلس الذي كرس الجملوكية بكل معانيها، وفق الرغبة الأمريكية المُطعّمة صهيونياً وروسياً لحماية حكم عملائهم وجواسيسهم.

وها هي السنة الثانية والعشرون على نفوق الطاغية والجاسوس الأول حافظ- ومثلها على تولي وريثه المجرم الكيماوي- أشرف خلالها على كل الخراب والنهب والتهميش للقوى الحية بالمجتمع السوري، من خلال تسليمه مقاليد الأمور لعائلاتٍ تنقادُ لغرائزها الطائفية، ونهبها غير المحدود خدمة لمصالحهم ولحكم الطاغية السادي “حافظ”، فخلال الـ30 عاماً تم إخفاء وتغييب وقتل جميع الأصوات الوطنية الحريصة على كشف عمالته، ومعارضة ومنع مشروعه وارتباطاته المتعددة، برأس الإمبريالية العالمية والحركة الصهيونية، وملالي طهران وأشباههم جميعاً، ليمارس دوره الوظيفي لصالحهم ضد أماني وأهداف الشعب السوري بارتكاب المجازر المتنقلة في المدن السورية كان أشدها في مدينة حماه، كما اتفق مع الصهاينة برعاية أمريكية عبر ما سمي اتفاق «حافظ- مورفي» بالقضاء على المقاومة الفلسطينية وارتكاب المجازر المتنقلة بالمخيمات في لبنان، ولم يوفر كل القوى الوطنية اللبنانية- المتحالفة وغير المتحالفة معهم- من التصفية والاعتقال ونهب ممتلكاتهم، وذهب أبعد من ذلك في مساعدة أقرانه في جنوب السودان وليبيا والجزائر بقتل شعوبهم وارتكاب المجازر بحق هذه الشعوب خلال العقود الأواخر من القرن الماضي؛ ثم أسلمها لابنه وراثةً وبهذا الشكل من التبعية المطلقة.

إن الأجواء التي سادت في سورية خلال تلكم الـ30 عاماً من حكم الطاغية، أراد من خلالها إلغاء الدولة والوطن، وخلق أسطورة حول ماضيه وانتمائه الغريب والمشبوه أصلاً؛ فقد كان أقرب أجداده- الوحيد المعروف- غريباً مشرداً منبوذاً، وقد احتضنته قرية القرداحة لاجئاً على أطرافها، وهو الذي أرضع هذه السلالة الأسدية من رحيق الحقد والوضاعة وعدم الوفاء، التي جعلت من “حافظ” ممثلاً لأحط الغرائز والخصالِ بهيميةً وعمالةً؛ فلم يكن لدى “حافظ” أي مشروع اقتصادي لسورية إطلاقاً عندما انقلب على السلطة، وأنَ تدرج الموت لقيمة الليرة السورية وانهيار سعر الصرف كان شاهداً ودليلاً، فضلاً عن نهب عائدات الاقتصاد كله ومعه البترول وتبديد كل الثروات على خطط عسكرية عبثية، ما كانت إلا خدمة لاستبداده فضلاً عن تدمير سورية- كما تبدت بشكلها الراهن- وفق دراسات البنية التحتية بإشراف الكيان الصهيوني مباشرةً وبتغطية أميركية لم تعد خافية، وأن ما بدى من اهتمامٍ بالريف وتنمية للمناطق الريفية والإنتاج الزراعي، كان استكمالاً لأفكار ومشاريع من سبقهُ بما في ذلك مشروع سد الفرات.

إن الاستمرارية الطويلة لنظام استبدادي ديكتاتوري طائفي فاشي، تعني عدم توافر أجواء الحرية الضرورية لكتابةٍ تاريخية وأكاديمية، فتجاوز الخطوط الحمر مثلاً كهزيمة حزيران والحديث فيها أودت بأصحابه إلى الهلاك، على سبيل المثال:

الدكتور«دريد المفتي» الوزير السوري المفوض في مدريد 1967 بسبب تصريحه التالي: استدعاني وزير خارجية إسبانيا لمقابلته صباح يوم 28/7/1967 وأعلمني- ووجههُ يطفحُ حبوراً- أن مساعيه الطيبة قد أثمرت لدى أصدقائه الأمريكان، بناءً على تكليف السيد (ماخوس) وزير الخارجية السوري للسفير الإسباني في دمشق، ثم سلمني مذكرة مؤرخة في 27/7/1967، ومد إليّ يده بصورة المذكرة، فقرأتُها عجلاً ثم أعدتها إليه شاكراً، وسجلتُ في مفكرتي ما بقي في الذاكرة من نص المذكرة “تهدي وزارة خارجية الحكومة الإسبانية تحياتها إلى السفارة السورية بمدريد، وترجو أن تعلمها أنها قامت بناء على رغبة الحكومة السورية بالاتصال بالجهات الأمريكية المختصة لإعلامها برغبة سورية في المحافظة على الحالة الراهنة الناجمة عن حرب حزيران سنة 1967، وتود إعلامها أنها نتيجة لتلك الاتصالات، تؤكد الحكومة الأمريكية أن ما تطلبه الحكومة السورية ممكن، إذا حافظت سورية على هدوء المنطقة، وسمحت لسكان الجولان بالهجرة للاستيطان في بقية أجزاء الوطن السوري، وتعهدت بعدم قيام نشاطات تخريبية من ناحيتها تعكر الوضع الراهن”، فتمت ملاحقة ‘المفتي’ بعد ذلك من قبل النظام السوري إلى أن اغتيل في لبنان لإفشائه هذا الأمر.

والمحامي «زهير الشلق» الذي أُختطف وسُجن لأنه كتب في صحيفة الحياة مقالاً ورد فيه جملة (أسد عليّ وفي الحروب دجاجة).

والضابط «خليل مصطفى (بريز)» الذي اختُطف وقضى أكثر من ربع قرن في السجن بسبب كتابه “سقوط الجولان”.

وضابط المخابرات المقرب من “حافظ” والشاهد على كل اجتماعاته مع الصهاينة بمطار الضمير «عقل قربان» الذي اختُطف من لبنان بعد هروبه إليه نهاية الستينات، وأتلفت جميع نسخ كتابه (ثمن الجولان) بتعاون أجهزة استخبارات عديدة على رأسها الموساد فضلاً عن المخابرات الأسدية، وبقي في سجن المزة وحيداً حوالي 20 عاماً دون اتصال أو زيارة أو تحقيق من أحد حتى مات بعد فصامه!.

هذا وغيره كثير جداً، ما جعل أغلبية من شهدوا تلك الحقبة يلتزمون الصمت، ويُحجمون عن كتابة مذكراتهم أو نشرها أو الإدلاء بشهاداتهم، التي تُعدّ مصدراً مهماً للكتابة التاريخية، بل المصدر شبه الوحيد في الحالة السورية، التي لا تتاح فيها أي مواد أرشيفية بعد 1961، ولا يوجد فيها أصلاً قانون ينظم عملية حفظ أرشيف الدولة وإتاحتـه.

وحين جاءت الثورة السورية- ضمن الثورة العربية 2011- قامت بتحطيم هذا النموذج من الخسة والعمالة والعداء للشعب، فدمرت مملكة الخوف وكم الأفواه وانعدام السياسة بمعناها الحديث، كانت تدميراً لمملكة الموت التي بناها الطاغية، كما دمرت- فوق ذلك ومعه- ذاكرةً بشعة أورَثنا إياها «حافظ أسد»، فها هو في قبره يتألم لتحطيم جذورَ بنيةٍ استبدادية عميلة أسسها، وأن ابنه المُلتاث والمُغفل باع خرابه لاحتلالات جديدة، لأنّه لم يستطع إخماد صوت الحرية والثورة والتغيير، ولم يُفده وأتباعه هرطقات وعواء عبدالقادر قدورة ومحمد سعيد رمضان البوطي ومروان شيخو وأشباههمُ الخونة، لأن طريق التغيير والثورة مازال مفتوحاً باستمرار لبناء وطن جديد بعيداً عن سفاهاتهـم وهرطقاتهـم.

المصدر: إشراق

التعليقات مغلقة.