توران قشلاقجي *
كانت البحار والمحيطات على مرّ العصور، عنصراً مهماً في خدمة البشرية، سواء عبر مرافق النقل، أو الموارد الحية وغير الحية، لكن مع بدايات القرن الحادي والعشرين، بدأت أهمية البحار تزداد بشكل كبير وملحوظ، وراحت تحتل مكانة مهمة للدول، وعلى وجه الخصوص في الاقتصاد والتجارة العالمية، فعبر تلك البحار والموانئ يتم تنفيذ جزء مهم وكبير جداً من حركة التجارة الدولية عبر البحار، لذلك يُعد أمن الطرق البحرية مهماً للغاية، لما تلعبه تلك الطرق من دور حاسم في السياسات الخارجية للدول في الوقت الحالي، وفي المستقبل.
في عام 1890 قام الأدميرال الأمريكي “ألفريد ثاير ماهان” بنشر كتاب بعنوان «فعالية قوة البحار بين عامي 1660-1783» ، ذلك الكتاب الذي فتح آفاقاً جديدة في الولايات المتحدة والعديد من البلدان، حيث طرح في الفصل الختامي من كتابه، أطروحة مفادها أن «مفتاح الهيمنة على العالم يكمن في التحكم في الممرات البحرية» وأشار إلى ذلك في أعمال أخرى حيث كتب «يجب أن يأخذ كل مشروع بحري بعين الاعتبار لكل الدول القوية، مساحة كبيرة في الدبلوماسية، وفي حدود الموارد الوطنية أيضاً، وأن الدول التي لا تفعل ذلك كأنها تشيد صرحاً على أرض زلقة، وفيها ما فيها من المخاطر، ويجب أن ترتبط السياسة الخارجية والاستراتيجية ببعضهما بعضا بقوة ولا تنفصمان.
وأيضاً في القرن الحادي والعشرين، تكونت مراكز القوة الجديدة في العالم في منطقتي آسيا والمحيط الهادئ، لكن هذا الوضع تسبب في زيادة الحجم الجيو اقتصادي في المنطقة، ما أعطى زخماً جديداً للتجارة البحرية، وهذا بدوره ينعكس طرداً على حركة التجارة والأمور العسكرية والسياسة، وقد أدى هذا الانعكاس إلى تطورات جديدة قد تؤثر في التوازنات الجيوسياسية في الوقت الراهن ومستقبلاً، ما سيعيد تشكيل العلاقات بين مراكز القوى العالمية، فاليوم أصبحت البحار والطرق البحرية عنصراً مهما في المنافسة الجيوسياسية، وباتت الدول تدرك هذه الأهمية، وراحت الجهات الفاعلة العالمية تعد مبادراتها وتوجهاتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية إلى حد كبير من خلال طرق النقل البحري. سلط اعتراف روسيا بمنطقتي دونيتسك ولوغانسك في أوكرانيا ومن ثم إرسال قوات روسية إلى هناك، الضوء مرة أخرى على الأهمية الكبيرة للبحر الأسود، فهو يتمتع بأهمية جيوسياسية وجيوستراتيجية، فموقعه الجغرافي شديد الأهمية، إذ يوفر فرصاً للتوسع في البلقان وبحر قزوين والقوقاز والشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط. علاوة على أنه ممر مهم للطاقة، يتم من خلاله نقل النفط والغاز الطبيعي من الاتحاد الروسي والقوقاز وبحر قزوين إلى الأسواق العالمية، وأغلب الاحتمالات، أنه مصدر كبير للطاقة الهيدروكربونية، وبما أنه ممر للطاقة فهو بذلك يزيد، وبشكل مستمر، في العلاقات والترابط بين البلدان الموردة للطاقة والبلدان التي تطلبها. والحال هذه فإن البحر الأسود (من حيث الطاقة) يزيد المنافسة الجيوسياسية والاقتصادية على الصعيد العالمي، كما أنه يضيف بعداً جديداً للأمن الأوروبي الأطلسي، بالنظر إلى العلاقات التاريخية للدول المشاطئة للبحر الأسود، والمنظمات الدولية التي تنتمي إليه، والمنظمات الدولية التي تريد أن تصبح جزءاً وعضواً فيه، لكن ما يلاحظ هنا أن هناك اختلافات في ما بينهم في الأهداف الجيوسياسية، وهذا الوضع يجعل إنشاء بيئة أمنية دائمة ومستقرة في البحر الأسود صعبة نوعاً ما، ومعقدة لاختلاف المصالح في تلك البقعة من الأرض، ومن الواضح أن الجهات الفاعلة غير الإقليمية (غير المتشاطئة على البحر الأسود) بدأت في التدخل في الديناميكيات الأمنية للبحر الأسود. الناتو والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، يراقبون بإمعان ما تقوم به روسيا الاتحادية، وتوسعها في آسيا الوسطى والقوقاز والبحر الأسود، وعلى وجه الخصوص ضم جورجيا-أبخازيا في عام 2008، وشبه جزيرة القرم 2014 وفي عام 2022 ملف دونيتسك، ولهذه الملفات تداعيات وأثر سلبي في العلاقات بين الدول الغربية والدول المجاورة لها، ورغم ما يقوم به الغرب الآن من فرض حظر كبير وعقوبات على روسيا، إلا أن الوضع الفعلي الجديد الذي أوجدته روسيا يخل بالتوازنات حول العالم، بل إن هذا الوضع الذي أوجدته روسيا في أوكرانيا سيؤثر بشكل خطير ومباشر في السياسة والاقتصاد العالميين في السنوات المقبلة.
حاصل الكلام ومختصره أن البحر الأسود يؤثر بشكل مباشر في الديناميكيات الأمنية في البلقان وبحر قزوين والقوقاز، نظرا لموقعه الجغرافي والسياسي. فالبحر الأسود يعد ساحة مفتوحة في المنافسة الجيوسياسية العالمية وانعكاساتها، وهذا ما تقوم بتطبيقه السياسة الخارجية لتركيا في هذه المنطقة المهمة، وعليه فإن على تركيا والدول العربية ودول المنطقة، وضع وتنفيذ سياسات تهدف إلى تنمية مصالح المنطقة على أسس التعاون في ما بينها.
* كاتب تركي
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.