الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الدولة العراقية: الأقليات والتسييس!

يحيى الكبيسي *

بعد تشكيل الدولة العراقية في العام 1921 حتى العام 2003، ظلت الأقليات في العراق بعيدة عن التسييس المباشر، مع بضع حالات استثنائية في هذا المجال، ربما كان أبرزها المواجهة بين الجيش العراقي وقوات ‘الليفي’ الآشورية في العام 1933، فقد قام البريطانيون بتجنيد بعض أفراد الأقلية المسيحية الآشورية اللاجئين من منطقة حكاري جنوب تركيا، ضمن ما عرف باللواء الآشوري، والذي اشتهر بالليفي، واستخدمتهم في بعض المهمات الداخلية، مما أدى إلى حساسيات واسعة تجاههم، عربياً وكردياً، ولدى مطالبة هؤلاء بحكم ذاتي (تم تقديم هذا الطلب إلى عصبة الأمم المتحدة) ورفض الحكومة العراقية لذلك، تطور الأمر إلى تمرد مسلح، لينتهي الأمر بمواجهة مع الجيش العراقي.

أما الحالة البارزة الثانية، فقد تمثلت في عملية التهجير القسري الواسعة التي تعرض لها الكرد ‘الفيليون’ عام 1980 بعد صدور قرار صريح من مجلس قيادة الثورة (القرار رقم 666) والذي قضى بإسقاط الجنسية العراقية «عن كل عراقي من أصل اجنبي إذا تبين عدم ولائه للوطن وللشعب وللأهداف القومية والاجتماعية العليا للثورة» وإبعادهم.

بعد عام 2003، كانت الأقليات العراقية على اختلاف أطيافها، طرفاً مباشراً في عمليات تسييس واسعة فرضها الوضع الجديد؛ فقد كانت الأقليات هدفاً مباشراً للجماعات المسلحة، سواءً لأسباب إيديولوجية، أو بسبب الطمع في ممتلكاتها، وهو ما أدى إلى عمليات نزوح واسعة من البصرة جنوباً إلى الموصل شمالاً. فقد اضطر ‘المسيحيون’ و’اليزيديون’ و’الشبك’ و’الصابئة’ إلى النزوح بعد نيسان 2003، سواء بسبب استهدافهم المباشر كأقليات دينية او إثنية أو كليهما، أو كنتيجة لاستخدامهم كبيادق في إطار الصراع الأكبر بين الجماعات العراقية الرئيسية (لا يمكن فهم وجود فصيل مسلح مسيحي ضمن الحشد الشعبي خارج إطار هذا الأمر).

ولعل من أبرز مظاهر تسييس الأقليات هو الأرقام الاعتباطية التي اعتمدت لتحديد حجم مقاعد كوتا الأقليات في القوانين المتتالية لانتخابات مجلس النواب العراقي؛ فبناءً على ما اشترطه الدستور العراقي في أن يكون هناك مقعد واحد لكل مائة ألف نسمة من نفوس العراق، وأن يراعي تمثيل سائر المكونات فيه، هكذا وبناء على تعديل لقانون صدر في العام 2005 لم يتضمن أي مقاعد كوتا للأقليات، قرر قانون انتخابات مجلس النواب لعام 2009 أن تمنح الأقليات مقاعد كوتا بواقع 5 مقاعد للمسيحيين، ومقعد واحد لكل من اليزيديين والصابئة والشبك، من دون أن يؤثر ذلك على إمكانية مشاركتهم كمرشحين خارج إطار مقاعد الكوتا. ثم أضيف مقعد تاسع منح للكرد الفيلية في محافظة واسط في التعديل الذي جرى على قانون انتخابات مجلس النواب لعام 2018.

ولم يكن تحديد مقاعد الأقليات مبنياً على إحصائيات سكانية، بل على تقديرات ارتجالية مرتبطة بالسياق السياسي أكثر منه بالبحث عن عدالة التمثيل! وبذلك مُنح المسيحيون على اختلاف طوائفهم (الكلدان الكاثوليك، والسريان الكاثوليك، واللاتين الكاثوليك، والأرمن الكاثوليك، والروم الكاثوليك فضلاً عن الآشوريين النساطرة،، والسريان الأرثوذكس، والبروتستانت، والسبتيين) خمسة مقاعد، لأنه وفق التقديرات الرسمية بلغ عدد المسيحيين أكثر من 500 ألف نسمة (اعتماداً على الاحصائيات الرسمية، ومن دون أخذ الهجرة الواسعة للمسيحيين في التسعينيات بوجه خاص، لا يمكن أن يكون قد تجاوز 563676 نسمة في العام 2003 بأي حال من الأحوال٫ بل إن وجودهم الحالي لا يمكن أن يتجاوز 300 ألف نسمة في أفضل الأحوال. ولم يكن هذا الرقم مرتبطاً بالحسابات الديمغرافية بقدر ما كان مرتبطاً بالاستخدام السياسي لمسألة الأقليات في الصراع الذي كان ولا يزال قائماً في العراق!

ولكن، وفي الوقت نفسه، لم يُمنح الإيزيديون سوى مقعد واحد في محافظة نينوى في قانون انتخابات عام 2009، وقد قدمت المادة (15/ ثانياً) كمشروع قانون قدمته الحكومة العراقية إلى مجلس النواب في العام 2013، وتضمنت رفع هذا الرقم إلى خمسة مقاعد، لكنها لم تمر في مجلس النواب!

وهذا يعني عملياً أن الحكومة العراقية ترى أن عددهم في العراق لا يقل عن 500000 نسمة، بعد ان كانت ترى، ومعها مجلس النواب العراقي، أن عددهم في حدود 100000 نسمة في العام 2009! ولا يمكن فهم هذا التقلب في التقديرات خارج إطار تسييس الأقليات!

لكن بالتأكيد لا يمكن لعاقل أن يقبل أن تكون كوتا المقعد الواحد تمثيلاً عادلاً للإيزيديين في مجلس النواب العراقي، فرغم تضارب التقديرات، وتوزع الإيزيديين بين من يصنفون أنفسهم أنهم أكراد، ومن يرفض ذلك، وبين من يصنفون أنفسهم كطائفة دينية، وحصول ممثليهم، غالباً، على مقاعد في مجلس النواب ضمن مقاعد الحزب الديمقراطي الكردستاني بوجه خاص، إلا ان معيار تحديد الكوتا يبدو غير منصف تماماً.

أما بالنسبة للكرد الفيليين، فيبدو الأمر أكثر تعقيداً هنا، خاصة أنهم هم أيضاً موزّعون بين من يضع الهوية القومية معياراً لانتمائه، وبين من يضع المذهب الديني معياراً لذلك الانتماء! هكذا لم ينظر مطلقاً إليهم بوصفهم أقلية قبل العام 2018، حين عقدت صفقة كالعادة، في مجلس النواب لإضافة مقعد كوتا لهم في محافظة واسط، تماماً كما أضيفت ثلاثة مقاعد لكل من محافظات السليمانية وأربيل وبابل في العام 2013 في إطار صفقة أيضاً! وأقول صفقة هنا لأنه كان من المفترض أن يكون هذا المقعد ضمن المقاعد المخصصة لمحافظة واسط والبالغ عددها 12 مقعداً، لأن عدد المقاعد هذا الذي تم اعتماده في العام 2009 استند إلى الإحصائيات التي قدمتها وزارة التجارة حينها، وبالتالي فان مقعد الكوتا يجب أن يكون من ضمن مقاعد المحافظة وليس زيادة عليها! والأهم هنا أن وجودهم الرئيسي هو في مدينة بغداد فلماذا لم تُعطَ لهم كوتا فيها وأعطيت لهم في محافظة واسط! ومرة أخرى كان التسييس وحده خلف هكذا قرارات!

في 23 شباط/ فبراير 2022 قررت المحكمة الاتحادية العليا عدم دستورية الكوتا الخاصة بالإيزيديين والشبك والكرد الفيليين، وضرورة «تشريع نصوص بديلة بما يكفل مبدأ المساواة» بين هذه المكونات الثلاثة مع كوتا المسيحيين والصابئة. دون تحديد معيار المساواة الذي اعتمدته المحكمة في قرارها هذا مع عدم وجود إحصائيات رسمية، أو حتى تقديرات يمكن أن تستند عليها لإصدار قرارها، هكذا قرار لا يمكن أن يخرج عن إطار التسييس، فكوتا المسيحيين وكوتا الصابئة كانتا اعتباطية أيضاً!

* كاتب عراقي

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.