عبد الرحيم التوراني *
حلت يوم 17 تموز/يوليو 2021، الذكرى المئوية لانتصار المغرب على اسبانيا في حرب الريف، وبالتحديد في معركة “أنوال” التاريخية، حيث كانت قوات المغاربة فئة قليلة لكنها مسلحة بالإيمان بالقضية والعقيدة وبتحقيق النصر. قائد هذا الانتصار العظيم هو الزعيم المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي (1882- 1963).
كُتب الكثير عن هذا الزعيم التاريخي وعن معاركه المجيدة، وأعدت أفلام وثائقية وتسجيلية، أكثرها من إنجاز أجانب وبغير اللغة العربية. كما نظمت ندوات ومؤتمرات دولية حول مأثرة الأمير عبد الكريم الخطابي. لكن اسم الخطابي بقي قليل الانتشار بين العرب، بالرغم من أن الأجيال السابقة التي عاشت زمنه وملحمته، من أبناء المشرق العربي، احتفت ببطولاته وتغنت بأمجاده. لذلك نجد البعض منهم ينعته بلقب “غيفارا العرب”. لكن الثائر تشي غيفارا يعترض بقوة ليقول: “أنا التلميذ والخطابي المعلم والأستاذ، وأنا من يجب أن ينسب إليه لا العكس”.
عندما وصل “غيفارا” إلى مصر في السنة الأولى لانتصار الثورة الكوبية (1959)، واستقبله الرئيس جمال عبد الناصر، طلب منه أن يلتقي بالثائر المغربي عبد الكريم الخطابي المقيم في القاهرة.
وفي مقر إقامة السفير المغربي عبد الخالق الطريس وبحضور رئيس الوزراء المغربي الأستاذ عبد الله ابراهيم، حدث اللقاء التاريخي. كان الثائر الأممي ’تشي‘ شابا في العقد الثالث من عمره، تكشف أساريره وابتسامته الجميلة عن فرح كبير وحماسة ثورية، ولم يتردد في الإعراب عن إعجابه واعتزازه بالشيخ الجالس أمامه بهدوء الحكماء، بلباس تقليدي بسيط وبعمامة فوق الرأس، هو قائد “ثورة الريف” الذي أذاق الهزيمة المرة للإسبان في معركة “أنوال”.
بلغة اسبانية رشيقة، تبادل الرجلان الحديث على مائدة العشاء. قال “غيفارا” مبتسما للزعيم الخطابي: “إن الثورة الكوبية مدينة لك”.
وأمام صمت الحاضرين واندهاشهم، وربما اعتبرها بعضهم مجاملة دبلوماسية مبالغ فيها، سارع الثائر الأممي إلى إنقاذ الحاضرين من حيرتهم، فأفصح قائلا: “السعادة لتغمرني وأنا ألتقي بك أيها الرفيق الكبير، فلطالما أعجبنا في كوبا بتجربتك الثورية في حرب العصابات في كفاحكم ضد الاستعمار، لقد كنت ملهما لنا في ثورتنا ضد الاستبداد والدكتاتورية”. وكانت الحركة التحريرية لعبد الكريم الخطابي حاضرة في أميركا اللاتينية، وكلما ذكر اسم الخطابي تم تشبيهه ببطلهم الثوري سيمون بوليفار.
لا ننسى أن “تشي غيفارا”، وفي إطار انشغاله بتصدير الثورة عبر العالم، ألف كتابا نظّر فيه لحرب العصابات، التي “تستمد قوتها من المد الجماهيري العارم. وتتبنى أسلوبها الجهة التي تؤيدها الأكثرية، برغم أنها لا تملك السلاح الكافي لاستخدامه ضد القهر”. واعتمد في هذا الكتاب على تجربة ثورة عبد الكريم الخطابي وأشار إليها مرات.
لقد نهج الثوار في أكثر من مكان في العالم أسلوب الثائر المغربي عبد الكريم الخطابي في الكفاح، واتبعوا منهجه في “أَلْغيريَّا”، التي يعد الخطابي مهندسها ومطورها. ذلك ما تشهد به وقائع التاريخ عندما نطالع أوراق كفاح الليبيين ضد المستعمر الإيطالي بقيادة عمر المختار، والثورة الشعبية في الصين بقيادة ماو تسي تونغ، والثورة الكوبية بقيادة فيدل كاسترو وتشي غيفارا، وحرب فيتنام ضد الغزو الأمريكي، وحرب التحرير في الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، ولدى المقاومين ضد النازية، والمقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية ضد الاحتلال الإسرائيلي، إلى غيرها من التجارب الثورية الطليعية في الفيليبين والبرازيل والبيرو.
هو ما اعترف به الرئيس الصيني ماو تسي تونغ لما استقبل وفداً من منظمة التحرير الفلسطينية، فأشاد بالثائر الأممي عبد الكريم الخطابي، وخاطب الوفد الفلسطيني: “كيف تأتون لتطلبوا مني النصح ولديكم بطل اسمه عبد الكريم الخطابي، ومنه تعلمنا”.
إن معظم ثوار العالم يعتبرون الخطابي مهندس حرب العصابات، التي تطبق إلى الآن، كما ابتكر نظام حفر الخنادق والأنفاق الممتدة تحت الأرض حتى ثكنات العدو، ذلك الأسلوب القتالي الذي اعترف الزعيم الفيتنامي هوشي منه انه اقتبسه منه في قتال الفيتناميين للأمريكيين بعد ذلك بسنوات.
***
انطلقت معركة “أنوال” بين الجيوش الاسبانية ومجاهدي عبد الكريم الخطابي، يوم الأحد 17 تموز/يوليو 1921، وكان النصر للمغاربة بعد 23 يوما. كان عدد قوات الخطابي بالكاد يصل إلى ثلاثة آلاف محارب متطوع غير نظامي. أما القوات الإسبانية بقيادة الجنرال مانويل فرنانديز سلفستري والجنرال نافارو، فقد تشكلت من أزيد من 25 ألفاً من الجنود (بينهم ما يقرب من أربعة آلاف مرتزق مغربي)، وهو الجيش المعروف باسم “الفيلق الاسباني في افريقيا” الذي نال شهرة كبيرة لما عرف به من وحشية خلال قتاله للجمهوريين في الحرب الأهلية الاسبانية وتنكيله بأهل منطقة الريف بالشمال المغربي.
لكن المجاهدين مرغوا سمعة هذا الجيش “الذي لا يقهر” في الوحل، وألحقوا به هزيمة نكراء كان لها وقع الزلزال في الداخل الاسباني، وصفتها صحافتهم ومؤرخوهم بـ”كارثة أنوال”.
عند الحساب طلعت الخسائر مهولة في جانب الإسبان. مما نقرأ في مذكرات عبد الكريم الخطابي:
” ردت علينا هزيمة أنوال 200 مدفع من عيار 75 أو 65 أو 77، وأزيد من 20000 بندقية ومقادير لا تحصى من القذائف وملايين الخراطيش، وسيارات وشاحنات، وتموينا كثيرا يتجاوز الحاجة، وأدوية، وأجهزة للتخييم، وبالجملة، بين عشية وضحاها وبكل ما كان يعوزنا لنجهز جيشا ونشن حربا كبيرة، وأسرنا 700 أسير، وفقد الإسبان 15000 جندي ما بين قتيل وجريح”. من دون نسيان الإشارة إلى انتحار قائدهم سلفستري وموت مساعده الكولونيل موراليس.
واستشهد في صف المجاهدين حوالي ألف شهيد.
***
كان لانتصار الخطابي صداه الدولي الواسع، وحصل على تأييد الرأي العام العالمي، خاصة الأحزاب الاشتراكية والشيوعية، أما اليمينيون، فقد قابلوا انتصار الخطابي بالعداء والتوجس، واعتبرت بعض الجهات الصهيونية نجاح الثورة الريفية مؤشرا خطيرا من شأنه إنهاء الوجود اليهودي في المغرب، وفي شمال إفريقيا عموماً.
كما كان لنتائج معركة “أنوال” انعكاساتها السياسية الخطيرة على الفرنسيين أيضا، الأمر الذي جعلهم يضعون يدهم في يد اسبانيا الجريحة، ويشكلون معها حلفا استعماريا انضمت إليه الولايات المتحدة الأمريكية، بغية القضاء على “ثورة الريف”، خصوصا بعدما عمد الخطابي إلى تأسيس الجمهورية الاتحادية لقبائل الريف، المعروفة باسم “جمهورية الريف”. وجعل لها دستورا مكتوبا وقوانين منظمة. وصمم لها علما مع نشيد، (هو نفس النشيد (كلمات ولحنا) الذي سينتقل إلى لبنان ليكون نشيد الدولة الرسمي عند تأسيسها، في ظروف لا زال يكتنفها اللبس والغموض).
لما بدأ نجاح مشروع الخطابي يتحقق على الأرض وبين الناس، ويهدد المشروع الاستعماري والاستيطاني، بدأت حلقات التآمر البغيض تتهيأ للانقضاض على الثورة الريفية، ولجأ التحالف الاستعماري إلى كل الأسلحة البرية والبحرية والجوية، بل لم يتردد في استعمال الأسلحة الكيماوية الفتاكة التي تم تجريبها لأول مرة وأودت بحياة المغاربة الريفيين المدنيين الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال، ما أدى بالمجاهد عبد الكريم الخطابي إلى الاستسلام في 26 تموز/يوليو 1926، ليتم نفيه إلى جزيرة “لارينيون” في المحيط الهندي، حيث بقي فيها إلى عام 1947، عندما تم إرساء سفينته بميناء بور سعيد بمصر.
بمجرد نزوله على أرض الكنانة، أعلن الخطابي بأنه “مصمم على محاربة فرنسا”، وأنه يرفض كل “حوار في الظروف الحالية، فإما أن يخرج الفرنسيون وإما أن يفصل بيننا السيف”. ثم ترأس مكتب المغرب العربي ولجنة تحرير شمال إفريقيا، ومن بين النقاط الواردة في الميثاق التأسيسي لهذه اللجنة: “رفض كل أشكال المفاوضات مع المستعمر ومواصلة الكفاح إلى حين حصول كل أقطار شمال إفريقيا على الاستقلال”.
وهذا يناقض تماما مصالح الحركة الاستقلالية كما سطرها علال الفاسي والحبيب بورقيبة، اللذان كانا من أعضاء اللجنة، إذ كان الهدف الأقصى لديهما هو فسخ وثيقة نظام الحماية عن طريق المفاوضات، وهو ما تضمنته “وثيقة المطالبة بالاستقلال” التي تقدم بها الوطنيون الاستقلاليون في المغرب (11 كانون الثاني/يناير 1944).
لقد ظل الخطابي مؤمناً بأن حركة التحرير الوطني في المغرب الكبير لن تتحقق إلا بنهج الثورة المسلحة لتحرر شعوب شمال إفريقيا من الاستعمار وأذنابه”. فكان أن تم العمل على تهميش دوره.
مساعي التعتيم على سيرة الخطابي وثورته وانتصاراته، بدأت في مصر وامتدت إلى وطنه المغرب، لكنها لم تنجح وبقيت مجرد محاولات يائسة تتسم بالجبن، فالشعب المغربي لم ينس زعيمه وقائده التاريخي، بالرغم من إهمال ذكره لسنوات في الإعلام والتأريخ الرسمي والمقررات المدرسية.
وها هي الساحات والميادين في مغرب اليوم، وفي بلدان المهجر، ترفع صورة الخطابي إلى جانب صورة الثائر الأممي غيفارا، وها هي رايته ترفرف في المظاهرات الاحتجاجية في الحسيمة والناضور وطنجة والدار البيضاء والرباط ومراكش وغيرها من مناطق البلاد.
وبعدما كان “البوستر” الذي طبعه الاتحاديون بعد وفاته في 1963 يعد منشوراً سرياً، صار اسمه على كل شفة ولسان، وصوره تسبق مناضلي الصف اليساري إلى مؤتمراتهم ولقاءاتهم وتجمعاتهم. كما صار رسمه يملأ فضاءات التواصل الاجتماعي وبروفايلات الفيس بوك، ومطبوعا على القمصان والتي- شيرتات.
لسنوات حاول “المخزن” طمس اسم عبد الكريم الخطابي والإساءة إليه وتهميشه، بسبب تأسيسه لنظام جمهوري في الشمال المغربي بمنطقة الريف، وبسبب رفضه للمفاوضات التي أسفرت عن منح المغرب الاستقلال في سنة 1955، إذ ظل يعتبرها مناورة لتمديد عمر الاستعمار، وأن الاستقلال الذي نجم عنها استقلال منقوص ومشوه ومبتور. فالخطابي صاحب مشروع تحريري واسع الأفق. ولما كان يرأس “لجنة المغرب العربي” من مصر، وحوله علال الفاسي والحبيب بورقيبة وأحمد بنبلة، أكسب الخطابي الحركة الوطنية مدداً روحيا ً قويا في العمل السياسي خارج المغرب العربي من أجل التحرير، وكان يرمي إلى أن التحرير يمر عبر سبيل واحد لا ثاني له، هو طريق الكفاح المسلح، وهو ما اختلف فيه مع القادة السياسيين الذين اعتبروا أنه من المستحيل هزم فرنسا بجيوشها الجرارة وأسلحتها المتطورة. مع ذلك حاول الخطابي إنشاء جيش التحرير للمغرب العربي، بالاستعانة ببعض المغاربة والجزائريين والتونسيين.
***
لم يكن الخطابي انفصاليا، ولا كانت ثورته ذات منطلقات عرقية أمازيغية، كما يلوح البعض اليوم، محاولين حشر البطل التاريخي داخل قوقعة ضيقة. لكنه كان مناضلا ثوريا وحدويا عربيا فلسطينيا أمميا. رئاسته لهيئة تحمل صفة العروبة (مكتب تحرير المغرب العربي)، وإيمانه بالقضية الفلسطينية أمر واضح. وقد تلقى الفلسطينيون ثورة الخطابي بمساندة قوية وحملات تضامنية واسعة، ونظموا مظاهرات هتفت باسم المغرب، وتنادوا لجمع التبرعات لثورته. وكان على رأس مساندي الخطابي من الزعماء الفلسطينيين الشهيد عز الدين القسام.
أما الشاعر الفلسطيني الكبير إبراهيم طوقان، فقد ألف “نشيد الريف” تحية لثورة الخطابي بعنوان: “في ثنايا العجاج” أهداه إلى الخطابي:
(في ثنايا العجاج والتحام السيوف/ بينما الجو داج والمنايا تطوف/ يتهادى نسيـم/ فيه أزكى سلام/ نحو عبد الكريم/ الأمير الهمـام/ ريفنا كالعريـن/ نحن فيه الأسود/ ريفنا نحميه).
كما أهدى إلياس فرحات، أحد شعراء المهجر بالبرازيل قصيدة إلى ثورة الخطابي جاء فيها: (صفاتك يا عبد الكريم وإنها/ صفات همام ثائب الرأي حازم شفيت غليل الشرق يا خير ولده/ وأحييت أموات الرجا والعزائم).
بل إن هذا الشاعر اللبناني الأصل بادر في عشرينيات القرن الماضي إلى تأسيس “لجنة لمساندة المقاومة المغربية بمنطقة الريف”.
وكانت لمفتي القدس الحاج أمين الحسيني مراسلات واتصالات بعبد الكريم الخطابي. ولولا ظروف المنفى والإقامة الجبرية لقام الخطابي بتلبية دعوة الحسيني للمشاركة في مؤتمر القدس الذي انعقد في 1931.
لما وقع تقسيم وتجزئة فلسطين في 1948، وجه الخطابي نداء الجهاد لتحرير فلسطين، وصرح “إنّ فلسطين بلاد عربية ولا بدّ أن تبقى عربية”.
أما مشاركة المتطوعين من الجزائر وتونس والمغرب في حرب 1948 فكانت تحت إشرافه ووصايا عبد الكريم الخطابي.
مع القمع العنيف المسلط تاريخياً على الريفيين في الشمال المغربي، وجد الريفيون أنفسهم يحنون إلى بطلهم العظيم أكثر من غيرهم من المغاربة. وكما تقول الكاتبة والصحفية زكية داوود: “إنهم يدركون جيدا أنهم ريفيون ومغاربة. ويجب الإقرار بأن مشكلتهم الأولى تتمثل في كونهم يعيشون على أرض فقيرة، وهذا حالهم دائما. فحياة الريف كانت دائمة مرتبطة كليا بصادراته من اليد العاملة، السكان هناك كانوا، ومنذ زمن طويل، في حاجة إلى الهجرة للعيش. ثم، ليس لديهم أي استثمارات كذلك، وهذا مشكل كبير كذلك. قُدمت لهم وعود لم يتم الوفاء بها”.
ولما خرج شباب المدن والمناطق الريفية للاحتجاج على الأوضاع الاجتماعية، رافعين صورة وعلم الخطابي، كان جواب السلطات القمع والاعتقال وأحكام السجن. لذلك تجد الريفيين في المغرب قد أمموا الخطابي لهم وحدهم، لأنه انبثق من تربتهم. وتجد كاتبا روائيا مثل محمد شكري صاحب “الخبز الحافي” يتكلم عن اعتزازه بأصله الريفي وبالخطابي، عندما صرح بشأن خلاف طرأ بينه وبين مدير “إذاعة البحر الأبيض المتوسط” في طنجة، فقال: “إذا كان مدير الإذاعة (بيير كازالطا) يفتخر بكونه كوريسكي، فأنا ريفي، وإذا كان يعتز بجده نابليون، فأنا جدي هو عبد الكريم الخطابي”.
* كاتب مغربي
المصدر: بوست 180
التعليقات مغلقة.