الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

فولتير وفريدريك الثاني… الفيلسوف والملك

زيد خلدون جميل *

لا يعرف القارئ شيئا عن حقيقة شخصية كاتبه المفضل، ولذلك فإنه يتخيله كما يرضي آراءه. وبالتالي قد يتعرض القارئ إلى صدمة عندما يلتقي بذلك المؤلف شخصيا. ومن أشهر الأمثلة على ذلك لقاء أشهر شخصيتين في القرن الثامن عشر، بعد إعجاب كل منهما بكتابات الآخر. وهما الفيلسوف الفرنسي فولتير وملك مملكة بروسيا الألمانية فريدريك الثاني.

فولتير:

ولد فرانسوا ماري أرويت عام 1694، وبرز ككاتب للشعر في مرحلة مبكرة من شبابه منتقدا كل ما حوله. ويعتبر فولتير مؤسس الشعر الملحمي في الأدب الفرنسي، ومن أوائل الذين كتبوا في مجال الخيال العلمي، بل إنه أصبح الأبرز في فرنسا في جميع مجالات الأدب. ولسبب ما لم يرق له اسمه، فأخذ يغيره باستمرار، حيث غيره 178 مرة، حتى استقر على اسم دي فولتير عام 1718. ولكن «دي» أعطت الانطباع، بأنه كان من الطبقة الارستقراطية، بينما كانت الحقيقة عكس ذلك. وانتقد فولتير العادات السائدة والمؤسسات الدينية وسلطة ملك فرنسا، التي كانت مطلقة، داعيا إلى احترام حقوق الإنسان، وأصبح مثقف وفيلسوف فرنسا وأوروبا الأول بدون منازع، على الرغم من أنه أودع السجن بسبب بعض ما كتبه أو قاله.

أظهر فولتير تأييده للنظام الملكي البريطاني، الذي كان في نظره أكثر انفتاحا واحتراما لحقوق الإنسان، وكان من أكثر المعجبين بالعالم البريطاني إسحق نيوتن، وحاول إعادة بعض تجاربه. وكان من الذين نشروا حكاية سقوط التفاحة على رأس نيوتن، التي ألهمت العالم البريطاني قوانين الجاذبية. وقد اتفق المؤرخون على أن هذه الحكاية خيالية. وقام فولتير بتأليف أشهر كتبه بعنوان «صريح» (Candid) مهاجما العالم والفيلسوف الألماني لايبنتز، الذي كان منافسا عنيدا لنيوتن. ولكن الثقافة لم تكن كل ما اهتم به الفيلسوف الفرنسي الكبير، إذ اهتم دائما بالمال بشكل غير عادي، مهما كان مصدره، حتى أصبح ثريا جدا، ولم تكن النساء خارج نطاق اهتماماته، فمن عشيقاته كانت المركيزة إيميلي (المركيزة لقب ارستقراطي) المتزوجة، وعندما سكن معها كان يسكن معهما زوجها أحيانا.

فريدريك الثاني:

كان فريدريك (1712 ـ 1786) ملك المملكة الألمانية بروسيا، التي كانت عاصمتها مدينة برلين. ولكن شخصيته برزت قبل ذلك، أي عندما كان وليا للعهد، حيث كان شغوفا بالثقافة بشكل عام والثقافة الفرنسية بشكل خاص، وتكلم الفرنسية أفضل من الألمانية، على الرغم من معارضة والده الشديدة حيث اعتبر الثقافة الفرنسية من العلامات غير الرجولية. وحاول فريدريك جاهدا أن يكون فيلسوفا، وسعى جاهدا للحصول على تقدير الطبقة المثقفة له. ولذلك أرسل عام 1736 رسالة إلى فولتير مليئة بالمديح المبالغ به، ما أصاب فولتير بالدهشة والسعادة معا. واستمرت المراسلات بينهما، حيث أخذ فريدريك يرسل كتاباته من مقالات سياسية وأشعار باللغة الفرنسية. وكان فولتير يقوم بتصحيح القواعد اللغوية لهذه الأعمال الأدبية، ويضيف ملاحظات عليها حتى إن أحد أشهر أعمال فريدريك، الذي تكون من ألف وستمئة سطر، كان منها ثلاثمئة سطر من تأليف فولتير. وإذا كان فريدريك يكيل بالمديح لفولتير، فإن الأخير لم يقصر في رد الجميل، إذ أطلق عليه اسم الفيلسوف والأكبر، وقارنه بكبار الفلاسفة والحكماء من الملوك في العصرين الإغريقي والروماني. وعلق فولتير، «إن المثقفين عادة يتملقون للملوك، ولكن فريدريك هو الذي يبدي إعجابه الشديد بي». ولم يكن فريدريك الملك الوحيد الذي تراسل مع فولتير، حيث تبادل الفيلسوف الفرنسي المراسلات مع الامبراطورة الروسية كاترين، التي كانت تكتب إليه وكأنها تلميذته. وكان لفولتير سبب عملي لهذه المراسلات، حيث أن علاقته المتوترة مع الدولة والكنيسة الفرنسيتين تدفعه إلى التفكير باحتمال طلبه للجوء إلى دولة أجنبية.

قام فريدريك عام 1739 بتأليف كتاب ينتقد فيه الكاتب والسياسي الإيطالي ميكيافيللي، وأرسله إلى فولتير الذي أعجب به. وقام فريدريك بطباعة الكتاب بدون ذكر اسمه عام 1740، إذ اعتقد أن علاقة بروسيا بالدول الأوروبية قد تتعرض للضرر إذا علم قادتها أنه المؤلف الحقيقي، لعدم ذكره لهم بشكل لطيف، ولكن كونه المؤلف كان معروفا لدى الجميع. وقد انتقد فريديريك في كتابه مبادئ ميكيافيللي السياسية الشهيرة، التي تنص على أن الغاية تبرر الوسيلة. ونجح الكتاب في أوروبا نجاحا كبيرا.

أصبح فريدريك ملكا على بروسيا عام 1740، وسرعان ما أثبت أنه من أكبر المؤمنين بأفكار ميكيافيللي التي انتقدها في الماضي، حيث بدأ بحملات عسكرية ضد جيرانه، وأخذ يتقلب في تحالفاته، حتى أثار حقد بقية الملوك عليه. ولكن نجاحه العسكري والاقتصادي والإداري جعله أشهر ملك في أوروبا في تلك الفترة. وحاول دعوة أشهر العلماء والمثقفين إلى مملكة بروسيا، وأقام العديد من المؤسسات الفنية والعلمية. ومن غرائب ميوله الثقافية التي كانت مثار استغراب الجميع وسببت سخط الطبقة المثقفة الألمانية كان كرهه للغة الألمانية، ووصفها بانها «نصف همجية». واحتقر المسرح والأوبرا في ألمانيا، ولذلك جلب مغنيين إيطاليين للعمل في دار الأوبرا الملكي في بروسيا. وفي الواقع أن اتجاه فريديريك الثقافي المعادي للثقافة الألمانية، كان خطأ، ففي تلك الفترة شهدت ألمانيا نهوضا ثقافيا غير عادي. ولكن الملك فريديريك اهتم بثقافة فرنسا بالذات، فعندما نظم «اكاديمية برلين» التي كانت هيئة تضم كبار العلماء، أعطاها اسما فرنسيا وتكونت من أغلبية من الفرنسيين. وأمر فريديريك كذلك أن تكون جميع وثائق وقوانين ومناقشات الأكاديمية باللغة الفرنسية. ووصل ذلك الإعجاب إلى درجة أنه أطلق على أشهر قصر له اسما فرنسيا. وكان اهتمام فريديريك مركزا على فولتير، حتى أن اسم الفيلسوف الفرنسي كان مكتوبا على سقف مكتبه.

اللقاء الأول:

قبل فولتير دعوة فريديريك عام 1740، وذكر في قبوله للدعوة، التي لم تشمل عشيقته المتزوجة، أنه متأكد من أنه سيفقد وعيه من الفرح عند لقائه فريديريك، وكان جواب الأخير انه يعتقد أنه سيموت من الفرح! وحدد مكان اللقاء ليكون بالقرب من الحدود الهولندية. وعندما وصل فولتير كان فريديريك مريضا ومستلقيا في الفراش. وما أن دخل فولتير الغرفة حتى انحنى بشكل مبالغ به، واقترب من الملك المريض ليفحص نبضه، وكأنه طبيب مختص. وما أن لمس يد الملك حتى عادت الصحة إليه ونهض وكأنه لا يعاني شيئا. وبقي الاثنان معا لثلاثة أيام، عاد فولتير بعدها إلى فرنسا. وتكررت الزيارات السريعة حتى عام 1743 عندما طلبت الحكومة الفرنسية من فولتير زيارة فريديريك للتجسس عليه وعرض وساطة فرنسا عليه في خلافه مع النمسا. واستمرت المراسلات المليئة بالمديح بين الجانبين، ولكن فولتير لم يمتز بحسن التصرف دائما، حيث قام عام 1749 بعرض نسخة محورة من إحدى رسائل فريديريك على أحد اصدقائه في فرنسا، ما ازعج الملك البروسي الذي قال إن فولتير مزعج كالقرد.

اللقاء الأخير:

توفيت عشيقة فولتير المركيزة ايميلي، عام 1749، وأصبح فولتير وحيدا، فعاد إلى باريس. وهناك قَبِلَ دعوة استلمها من الملك فريديريك، فانتقل إلى مدينة بوتسدام في بروسيا، التي كان فريديريك يقيم فيها. ودفع الملك تكاليف انتقاله بسخاء، وخصص له مرتبا كبيرا وجناحا للسكن في اثنين من القصور الملكية، كما عينه مسؤولا عن القصر الملكي الرئيسي. وبدا أن فولتير قد وجد ضالته في هذا المكان، حيث انكب على التأليف وأنهى رواية شهيرة من الخيال العلمي. ولكن مشكلة فولتير كانت شخصيته النرجسية، حيث وجد نفسه في مكان يتحكم فريديريك به بصرامة ودقة، وهو الذي تعود على عمل ما يحلو له، ويشترك فريديريك معه في هذه الصفة. ولم يرق له خلو البلاط الملكي من النساء، حيث كان جميع حاشية فريديريك من الرجال. كما كره الجو البارد في المنطقة، وكتب شاكيا من عدم تحمله للثلوج. وعلى الرغم من ثراء فولتير الكبير، فإنه دخل سريعا في صفقات مالية مشبوهة، وكانت نتيجة ذلك فضيحة مالية كبيرة، سببت حرجا للملك البروسي الذي أرسل له رسالة تأنيب قاسية في شهر شباط/ فبراير عام 1751.

لكن مشكلة فولتير، الحقيقية كانت اعتياده على كونه النجم الساطع والأوحد في المجالين الثقافي والاجتماعي، بينما وجد نفسه في بوتسدام، محاطا بالمنافسين من أبرز رموز الثقافة الأوروبية حينذاك، الذين كان فريديريك قد دعاهم للإقامة والعمل في بوتسدام، وكان الكثيرون منهم فرنسيين. ومنهم الأديب الفرنسي باكولارد دارنود، الذي كان قد بدأ في تبوأ قمة الأدب الفرنسي في تلك الفترة. وحقد فولتير على رئيس «أكاديمية برلين» الفيلسوف وعالم الرياضيات الفرنسي موبيرتويس، ودخل معه في خلاف حول موضوع علمي تطور إلى تبادل للرسائل المليئة بالشتائم، ما أثار حفيظة فريديريك، الذي سرعان ما جمع رسائل فولتير، وأمر بحرقها في عدة أماكن عامة. وقال الملك فريديريك عن فولتير، إنه الأكثر عبقرية في العالم ولكنه كان يحتقره لعدم استقامته.

كانت مهمة فولتير الرئيسية تصحيح كتابات فريديريك الأدبية من مقالات وشعر، حيث كان الملك البروسي كاتبا سيئا باللغة الفرنسية. وأخذ فولتير يضيق ذرعا بهذه المهمة تدريجيا، حتى قال أمام البعض بأن شعر فريديريك كان مقرفا، وأن على فريديريك التوقف عن إرسال ملابسه المتسخة إليه، كي يغسلها، قاصدا كتاباته. ونقل الخبثاء ما قاله فولتير إلى فريديريك. وقام الكاتب الفرنسي لا ماتري، باخبار فولتير أن فريديريك، قال إنه سيحتاج إلى فولتير لسنة أخرى على الأكثر لا غير، فهو كالبرتقالة، يضغط عليها المرء ثم يرمي قشرتها. واستمر الموقف بالتصاعد، وأخذ فولتير يتهم الآخرين، خاصة رئيس «أكاديمية برلين»، بتدبير الدسائس بينه وبين فريديريك، حتى طفح الكيل وقدم استقالته طالبا من فريديريك السماح له بالمغادرة، ولكن الملك البروسي لم يوافق إلا بعد أن ألح فولتير في الطلب. وما أن غادر بوتسدام حتى قال، «كنت معجبا به لستة عشر عاما، ولكنه شفاني من ذلك المرض». ومع ذلك، فإن عملاء فريديريك استمروا في مراقبته، حيث ألقوا القبض عليه في فرانكفورت، التي كانت خارج «بروسيا»، واحتجزوه لمدة خمسة أسابيع، حيث أخذوا منه نسخة من كتاب شعر مدعين أن فريديريك كان قد أعاره له، على الرغم من ادعاء فولتير، بأن الكتاب كان في الواقع هدية. وأخذ العملاء كذلك بعض حاجيات فولتير الثمينة. واتهم فولتير فريديريك، بابشع الصفات بعد ذلك. والغريب في الأمر أن فريديريك، عاد إلى مراسلة فولتير عام 1759 وعادت المياه شيئا فشيئا إلى مجاريها. وكان الكتاب الذي كان فريديريك يقرأه عند وفاته من تأليف فولتير.

٭ باحث ومؤرخ من العراق

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.