الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

1920 – 2020: قرن مآسي سوريا الكبرى

رياض معسعس *

يومان متشابهان في تاريخ سوريا الحديث كان لهما أكبر الأثر في تحديد مسارها خلال قرن كامل، ولا يزال أحدهما مستمرا إلى الآن: يوم 8 آذار/مارس 1920 الذي يؤرخ لانعقاد المؤتمر السوري العام لسوريا الكبرى (التي كانت تضم سوريا الحالية، لبنان، فلسطين، الأردن، لواء اسكندرون) وبمفهوم آخر رفض اتفاقية سايكس بيكو الذي صدرت عنه قرارات أربعة: إعلان استقلال سوريا عن السلطنة العثمانية، تعين الملك فيصل ملكا عليها، تحديد النظام السياسي بملكي نيابي (دستوري) رفض وعد بلفور وهجرة اليهود إلى فلسطين. (وكانت هذه المملكة تطبيقا لجزء من وعود اللورد مكماهون للشريف حسين) لكن كلام ليل مكماهون مسح سريعا في نهار الخديعة الكبرى، فالفرحة لم تدم طويلا ففي 24 تموز/ يوليو من العام نفسه كانت جيوش فرنسا بقيادة الجنرال غورو تقتحم سوريا في موقعة ميسلون الشهيرة ومقتل وزير الدفاع يوسف العظمة. لتطبيق بنود اتفاق سان ريمو الذي عقد بعد شهر فقط من انعقاد المؤتمر السوري الذي شرعن للحلفاء الانتداب (فرنسا وبريطانيا)على سوريا.

تقسيم سوريا:

وقسمت سوريا سريعا بين الدولتين بالشوكة والسكين (سوريا مع لبنان لفرنسا. فلسطين مع الأردن لبريطانيا) وطرد الملك فيصل ليكون ملكا على العراق التي كانت تحت سيطرة بريطانية.

واتباعا للقاعدة الاستعمارية تجزيء المجزء، قامت بريطانيا بفصل الأردن عن فلسطين، وإنشاء دولة الأردن (أنشأت دولة بشحطة قلم يوم أحد) كما ذكر تشرشل في مذكراته، وقامت فرنسا بفصل سوريا عن لبنان بإنشاء دولة لبنان الكبير، أما سوريا المتبقية فلم تنته خطط التقسيم معها فقسمت على أساس طائفي: دويلة دمشق، دويلة حلب، دويلة جبل العلويين، دويلة جبل الدروز، والإدارة الممتازة للجزيرة، والإدارة الممتازة للواء اسكندرون (تمهيدا لضمه لتركيا في العام 1939 كعربون لثنيها عن المشاركة في الحرب العالمية الثانية، وتوقفت المطالبة السورية بلواء اسكندرون في عهد بشار الأسد والذي تبلغ مساحته 40 ألف كم). فانطلقت على أعقابها الثورة السورية الكبرى بقيادة سلطان الأطرش والتي دمر خلالها الجيش الفرنسي قسما من دمشق القديمة. وأفشلت الثورة خطة تقسيم سوريا لدويلات طائفية.

في ثلاثينيات القرن الماضي اندلعت ثورة عز الدين القسام (السوري الأصل) في فلسطين التي استشهد فيها وكانت شرارة لاندلاع ثورة 1936 في سائر فلسطين ضد القوات البريطانية وعصابات الصهاينة. ودخلت سوريا الحرب العالمية الثانية كغيرها من الدول وكانت تحكمها حومة فيشي الموالية لألمانيا النازية فاندلعت فيها احتجاجات كبرى قادها الزعيم والرئيس اللاحق شكري القوتلي ضد غلاء المعيشة والجيش الفرنسي وجنوده السنغال، وبعد انتهاء الحرب بعام رحل آخر جندي فرنسي عن الأراضي السورية (1/4/1946).

ولم تهنأ سوريا بالاستقرار الذي دام عامين حتى اندلعت الحرب الأولى بين العرب والصهاينة (نكبة 1948). وكانت سببا في تمرد الجيش على السلطة المدنية بسلسلة انقلابات أجهضت أول تجربة ديمقراطية في العالم العربي. ثم تبعتها الحرب الثانية (حرب السويس) التي دعم فيها الجيش السوري الجيش المصري (تفجير خط البابلاين المار في سوريا، ونسف المدمرة الفرنسية جان دارك من قبل الضابط السوري جول جمال بعملية انتحارية). وتنازل الرئيس شكري القوتلي عن الحكم للزعيم المصري جمال عبد الناصر لتتم الوحدة السورية المصرية التي تم وأدها سريعا بانقلاب عسكري (1961).

8 آذار/ مارس 1963 الانقلاب الذي قام به ضباط حزب البعث في هذا اليوم أدخل سوريا الحالية في فترة تاريخية جديدة تعتبر الأسوأ في تاريخها القديم والحديث. فهذا التاريخ هو الفاصل بين حقبتين:

حقبة الاستقلال وبناء الدولة والصراع بين العسكر والأحزاب والمجتمع المدني على السلطة (شهدت سوريا خلالها ثلاث فترات لحكم ديمقراطي) وحقبة السلطة الفردية وسحق المعارضة الحزبية والمدنية، وبداية سياسة تطويف المجتمع عبر تحكم طائفة بالسلطة وتغلغلها في كل مفاصل الدولة، وتأسيس دولة « المخابرات « وحكم العائلة بالوراثة، وتهميش دور الفرد واعتباره مدانا حتى يثبت ولاءه للنظام قولا وفعلا لينال مرتبة مواطن من الدرجة الثانية.

صراع الطائفة الحاكمة:

بعد هذا التاريخ بدأ الصراع بين «رفاق» الطائفة الحاكمة أنفسهم فقام اللواء صلاح جديد بانقلاب تحت مسمى «حركة 23 شباط/فبراير في 1966» لإقصاء كل القيادات البعثية القومية قبيل حرب «النكسة» التي كشفت عن فضيحة الجولان الكبرى وسر انسحاب الجيش السوري دون قتال بأمر من وزير الدفاع حافظ الأسد وتسليم الجولان المنيع للصهاينة، وزير الدفاع المنهزم قام بانقلاب على منافسه تحت اسم «الحركة التصحيحية» 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970).

منذ ذاك التاريخ إلى الآن (نصف قرن) وقعت سوريا تحت حكم الأسدين مورث ووريث، فترة شهدت فيها سوريا أحداثا جساما: حرب 73 «التحريكية» صراع السلطة مع الإخوان المسلمين خلال فترة السبعينيات والتي انتهت بمجزرة سجن تدمر (1980) ثم تدمير مدينة حماة (1982). دخول الجيش السوري إلى لبنان وبداية السيطرة عليه مخابراتياً وسياسياً لمدة ثلاثة عقود انتهت بطرده بقرار من الأمم المتحدة.

الصراع على السلطة بين الأخوين حافظ ورفعت وطرد هذا الأخير من سوريا بعد تفريغ محتويات البنك المركزي السوري (1984). تحالف النظام مع إيران ضد العراق ثم المشاركة في عاصفة الصحراء الأمريكية (1991) توريث بشار الأسد الحكم بعد موت أخيه باسل ثم أبيه في نهاية الألفية الثانية.

2011 اندلاع الثورة السورية ومواجهتها من قبل النظام بكل أنواع الأسلحة (أودت بحياة ما يقارب مليون سوري وهجرت نصف الشعب السوري من بين لاجئ ونازح). وتدمير معظم البنية التحتية والعمرانية، ودعوة إيران وروسيا والميليشيات الطائفية والمرتزقة لإنقاذ النظام ما أدت إلى احتلالات دولية متعددة للأراضي السورية.

وقامت الولايات المتحدة بتطبيق عقوبات صارمة على النظام أحدثت انهياراً في الاقتصاد السوري بعد تطبيق قانون قيصر (الدولار يساوي 3000 ليرة سورية) وانخفاضاً مرعباً في مستوى المعيشة جعل أكثر من 80 في المئة من الشعب السوري تحت خط الفقر. ولم ينته فصولاً بعد، فبعد نضال الشعب السوري المرير للتخلص من احتلال واحد (فرنسا) باتت اليوم سوريا محتلة من قبل عدة دول، وبعد أن ناضل السوريون من أجل وحدتها باتت اليوم مقسمة جغرافياً (يسيطر الكرد السوريون على مساحة تساوي ربع مساحة سوريا بدعم من أمريكا، المعارضة المسلحة تحتل حوالي 12 في المئة بدعم من تركيا . وتحتل روسيا منطقة طرطوس وحميميم، وحزب الله والميليشيات الإيرانية تحتل مناطق متفرقة أخرى، بالإضافة إلى داعش) والصراع اليوم بين كل هذه القوى على مستقبل سوريا والسلطة فيها، صراع لا ينم عن حل في الأفق بسبب ضعف المعارضة وتشتتها وتجزئها إلى فصائل متناحرة، وفقدان النظام للسيطرة على كل مرافق سوريا، واهتزازه كماردٍ بأرجل من قصب، وتكالب القوى الخارجية على التركة السورية.

* كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.