الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

سوريا بين احتلالين

مرح البقاعي *

الاحتلال الخارجي لأراض سورية من طرف عدو غريب لا يختلف عن احتلال داخلي قوامه نظام موغل في العنف والتعسّف ودوائر ينخرها الفساد والتغول وأجهزة أمنية هي أقرب إلى المسالخ البشرية.

تكاد الظروف المرافقة لمآلات الملف السوري على المستويين الدولي والإقليمي أن تقترب من حيثيات ما كان عليه الوضع في سوريا إثر الاعتداء الأعظم الذي شنّه نظام الأسد على أهل غوطة دمشق من المدنيين العزل، مستخدما السلاح الكيميائي المحرّم دوليا في ليلة 21 أغسطس من العام 2013.

في ذلك التاريخ كان المجتمع الدولي في حال من الجاهزية والاستنفار القصويين، لإيقاع العقوبة الأشد على أجهزة النظام ومفاصله الأمنية، التي ساهمت في التخطيط والتنفيذ لتلك المجزرة الأعنف في التاريخ الإنساني المعاصر، وقد خطفت قلوب العالم لوعة وغضبا.

يومها لم تكن موسكو محسوبة على الدول الداعمة عسكريا ولوجيستيا بصورة مباشرة للنظام السوري في حربه ضد شعبه، وكانت دولة الولي الفقيه وحدها من تتحكّم من طهران بخيوط اللعبة الدموية على مجمل الأراضي السورية، إلى جانب قوات الأسد.

إلا أن الطرفين، الأميركي والروسي، سارعا في اجتماعهما الذي انعقد في 14 أيلول/ سبتمبر 2013 في مدينة جنيف إلى إبرام اتفاق نصَّ في أحد بنوده الأساس على أن “الولايات المتحدة وروسيا تطلبان من منظمة حظر استخدام الأسلحة الكيميائية، الموافقة على إجراءات غير عادية خلال أيام معدودة لتدمير برنامج الأسلحة الكيميائية السوري على وجه السرعة، والتحقق بطريقة صارمة من تنفيذ المهمة”. وشارك المبعوث الأممي إلى سوريا في حينها الأخضر الإبراهيمي، في جانب من المفاوضات.

الاتفاق بين موسكو وواشنطن أسفر عن رفع حبل المشنقة الدولية عن رقبة النظام، مقابل كشفه وتسليمه كافة الأسلحة الكيميائية التي يمتلكها؛ سيناريو يقارب ما حدث في ليبيا حين شرعنت الولايات المتحدة استمرار الزعيم الليبي معمّر القذافي على رأس السلطة في بلاده، مقابل التخلّص من مخزونه لأسلحة الدمار الشامل وإتلافه في عرض البحر على متن سفن متخصّصة، وذلك قبيل دخول الجيش الأميركي العراق في العام 2003.

الحدث الليبي وقع في عهد الرئيس جورج دابليو بوش، فهل تمكّن خلفه، باراك أوباما، إثر تجريد النظام من أسلحته المحرّمة من إنقاذ سوريا والسوريين من تراجيديا مُحققة، مازالت رحى فصولها تطحن مصائر السوريين حتى تاريخ كتابة هذه السطور، أم أن أوباما، بالاتفاق مع نظيره الروسي بوتين، أفرغ المسدس من طلقة واحدة، تاركا بيد القاتل العشرات من الطلقات ذخيرة له في حربه على أهل الشام؟

الأجوبة الصعبة حملتها أحداث مرعبة تلت نجاة النظام السوري من القصاص، بعد أن استجمع قواه وعاد أكثر عنفا وتصميما على الاستمرار في حرب براميله المتفجرة، بل وأشرع الطريق أمام التدخل الروسي بطلب رسمي من بشار الأسد، بحجة حماية سوريا من التنظيمات الإرهابية، ومحاربة تنظيم الدولة الإسلامية الذي كان في طريقه للتشكّل.

نفّذ سلاح الجو الروسي في 30 أيلول/ سبتمبر من العام 2015 أولى هجماته التي استهدفت مواقع المعارضة، بالطبع، ولم تستهدف يوماً بؤر الإرهاب، الذي هو أصلاً صنيعة الأسد المخابراتية بامتياز لتيسير التدخل الروسي، وقد أمسى ذكرى سوداء في دفتر أحزان السوريين.

إثر سيطرة القوات الجوية الروسية على الأجواء السورية، مدعومة بقوات مقاتلة لميليشيات الولي الفقيه الإيرانية وقوات الأسد على الأرض، اتّسعت رقعة استهداف المناطق التي حررتها المعارضة، وكانت مساحتها في ذلك الوقت قد بلغت ما يعادل ثلثي مساحة سوريا.

بدأت المدن والقرى تسقط الواحدة تلو الأخرى بيد النظام وحلفائه، دافعا من نجا من أهلها إلى النزوح نحو الشمال، في أكبر عملية تهجير وتغيير ديموغرافي قسري شهدها التاريخ المعاصر، بينما تعاظم عدد المغادرين للأراضي السورية هربا من دوامة العنف، حتى بلغ ما يقارب السبعة ملايين لاجئة ولاجئ، انتشروا في الأرض، ومنهم من لم ينج من غدر البحار وقضى غرقا قبل أن يبلغ اليابسة على الضفة الأخرى من العالم “المتمدّن” الذي كان شاهدا سلبيا على مأساة إنسانية مرعبة!

يذكر التاريخ السوري المعاصر أنه في تشرين الأول/ نوفمبر من العام 1991، انطلقت في جنيف مفاوضات سلام بين حافظ أسد وإسحاق رابين. وفي الشهر نفسه من العام 2020 اختتمت في جنيف أيضاً جولة جديدة من المفاوضات بين وريث النظام السوري بشار أسد وقوى المعارضة السورية.

المفاوضات الراهنة استندت إلى القرار الأممي رقم 2254، وتديرها اللجنة الدستورية المختارة من أطراف المعارضة والمجتمع المدني والنظام، ويفترض أن تخلص إلى كتابة دستور سوري جديد وإطلاقه للاستفتاء الشعبي العام.

القاسم المشترك بين الحدثين هو تلك “التقيّة السياسية” التي انتهجها الأب والابن، على تناقض الطرف المقابل لهما في المفاوضات، بين عدو محتل في الحالة الأولى، وابن البلد وصاحب الحق في الثانية، وبهدف وحيد للرجلين هو الاستمرار في القبض على عنق السلطة مهما غلا الثمن، الذي يتم تسديد فواتيره من خزينة الدم السوري المسفوح.. ولا حسيب.

يكاد الأسد الأب لا يختلف في إدارته لمفاوضات السلام عام 1991، عن سياسة ابنه في مناوراته الهزلية خلال المفاوضات الجارية بهدف إحباط الزخم الأممي لإنهاء معاناة الملايين من السوريين والتعاطي بجدّية ومسؤولية مع الاستحقاقات السياسية السورية للعام 2021.

ففي الحالة الأولى، تمكّن الأسد الأب من الإفلات من الاستحقاقات الملزِمة بالمناورة على المواثيق الدولية، ليحكم البلاد منفردا تحت شعار “اللا حرب واللا سلم”؛ شعار فضفاض اتخذ منه دريئة يحتمي خلفها ويبرّر استمراره في طغيانه، في ظل قانون طوارئ منحه سلطات مطلقة استخدم خلالها ألوان العنف كافّة للقضاء على معارضيه. أما ابنه، وريث عهده وتقيّته، فبالعقيدة عينها كرّر محاولات الهروب إلى الأمام، منذ إطلاق بيان جنيف 1، مروراً بالجولات التفاوضية الثماني التي ترتّبت عليه، وصولا إلى الجولة الدستورية الراهنة.

قد لا يختلف الاحتلال الخارجي لأراضٍ سورية من طرف عدو غريب عن احتلال داخلي قوامه نظام موغل في العنف والإنكار والتعسّف، ودوائر دولة ينخرها الفساد والارتهان والتغوّل، وأجهزة أمنية هي أقرب إلى المسالخ البشرية منها إلى مؤسسات قانونية لحفظ أمن المواطن، لا الاعتداء عليه والتنكيل به.

وتبقى الضحية العالقة بين فكّي الاحتلالين هي جوهر الوجع السوري الذي لا ينتهي.. ولا من مغيث.

* كاتبة سورية أميركية

المصدر: العرب

التعليقات مغلقة.