معقل زهور عدي **
– الروايات التاريخية.. الفتح العربي كان خيراً على إسبانيا
– مظاهر الدولة القوطية تلاشت بعد فتح الأندلس خلال فترة قصيرة لا تتجاوز ست سنوات
– احتلال المسلمين لشبه جزيرة ايبريا كان قد اكتمل بالفعل قبل اغتيال عبدالعزيز بن موسى بن نصير عام 716م
بعد فتح الأندلس تلاشت كل مظاهر الدولة القوطية خلال فترة قصيرة لا تتجاوز ست سنوات، وانسحبت النخب القوطية العسكرية والأرستقراطية والدينية نحو أقصى الشمال في اوسترياس الجبلية الوعرة والتي تحيط بها أراض جرداء قليلة السكان وشبه معزولة وتمكنت هناك من البقاء وتأسيس كيان مستقل بفضل الطبيعة الصعبة للإقليم وابتعاده عن المدن الرئيسية في إسبانيا وافتقاره لأي اغراء باستمرار القتال لأجل السيطرة عليه.
أما بقية الأندلس فقد انتشر فيها الإسلام انتشار النار في الهشيم، ولم تمض سنوات قليلة حتى أصبحت غالبية السكان الكبرى معتنقة للإسلام دون إكراه.
كتب السير توماس أرنولد في كتابه “بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية” يتحدث عن تسامح العرب المسلمين بعد فتح الأندلس:
“أما عن حمل الناس على الدخول في الإسلام، أو اضطهادهم بأي وسيلة من وسائل الاضطهاد، في الأيام الأولى التي أعقبت الفتح العربي، فإننا لا نسمع عن ذلك شيئا، وفي الحق فإن سياسة التسامح الديني التي أظهرها هؤلاء الفاتحون نحو الديانة المسيحية كان لها أكبر الأثر في تسهيل استيلائهم على هذه البلاد، وإن الشكوى الوحيدة التي شكى منها المسيحيون هي فرض الجزية عليهم، والتي كانت تبلغ 48 درهما عن الأغنياء، و24 درهما عن الطبقة الوسطى، و12 درهما عن العمال مقابل إعفائهم من الخدمة العسكرية، على أن هذه الجزية لم تفرض إلا على القادرين من الرجال، في حين أعفي منها النساء والأطفال والرهبان والمقعدون والعميان والمساكين والمرضى والأرقاء، مع العلم بأن الموظفين المكلفين بجمع الضرائب كانوا من المسيحيين أنفسهم مما خفف وطأتها على الناس”.(1)
لعل أول الداخلين للإسلام بعد الفتح الإسلامي كانت طبقة الأرقاء أملا في تغير أوضاعهم البائسة، فتحولهم للإسلام في ظل دولة مسلمة كان يعني تغيرا نوعيا في وضعهم الطبقي والإنساني وعلاقتهم بأسيادهم المسيحيين، ويبدو أن تلك الطبقة كانت تضم عددا مهما نسبيا من السكان وقسم منها كان لا يزال وثنيا، فالرومان لم يسعوا قط لفرض المسيحية على السكان بل ربما دخلت المسيحية إسبانيا قبل سيطرة الرومان عليها وانتشرت فيها على يد المسيحيين الأوائل إلى جانب العقائد القديمة المرتبطة بالفينيقيين واليونان.
ومن أجل تصور مدى الاضطهاد والظلم الذي كان يحيق بطبقة الأرقاء أستعير هنا فقرة للمؤرخ الهولندي المشهور دوزي في وصفه لحياة طبقة الرقيق في عصر القوط: “.. يستحيل على العبد أو القن أن يتزوج دون رضى مولاه، ويبطل زواجه إن تم بغير الحصول على موافقة سيده، ويحال بينه وبين امرأته بالقوة، وإذا اقترن أحد الأرقاء بامرأة في خدمة سيد آخر، تقاسم السيدان بالتساوي الأولاد الناتجين عن هذا الزواج، وكان قانون القوط الغربيين في هذه الأحوال أقل إنسانية من قانون الإمبراطورية الرومانية، ذلك أن الامبراطور قسطنطين الأول حرم فصل النساء عن أزواجهن، والأولاد عن أبويهم والأخوة عن أخواتهم، وعلى وجه العموم، فليس يخامر أحدا الشك في أن وضع طبقة الرقيق لم يكن محتملا أيام القوط، ويتجلى ذلك عندما يتأمل الإنسان قوانينهم الفظة تجاه العبيد.”(2)
كما انتقلت للإسلام بسرعة أيضا فئة من أشراف المسيحيين سواء عن قناعة أو ربما لتضمن الحفاظ على مصالحها بالتقرب من السلطة الحاكمة.
ويذكر المؤرخون وجود المذهب المسيحي الآريوسي في إسبانيا قبل الفتح الإسلامي وتأثيره الفكري كعامل سهل التحول نحو الإسلام، فالمذهب الأريوسي لا يؤمن بأن المسيح ابن حقيقي لله بل كما يقولون ابن بالتبني بمعنى أنه إنسان اختاره الله ليكون بمثابة ابن له وذلك يقترب من الفكرة الإسلامية عن المسيح.
ويستفاد من الروايات التاريخية أن رجال الدين المسيحيين كانوا يشتكون من تفشي الانحلال الخلقي خاصة عند الطبقة القوطية الحاكمة وانغماسها في الترف والمتع المادية مقابل معاناة الطبقات الوسطى والفقيرة والأرقاء من الاستغلال والأوضاع الاقتصادية الصعبة. ولعلهم وجدوا في الإسلام والمسلمين نافذة خلاص لهم، ومما يدعم ذلك الرأي الاستقرار الواضح للحكم العربي – الإسلامي، يقول سير أرنولد توماس: “ومن الثابت لدينا أن هؤلاء المسيحيين الذين مالوا للصلح ورضوا عن طيب خاطر بحرمانهم ما كانوا يتمتعون به من نفوذ سياسي وسلطة، لم يكن ثمة ما يدعوهم للشكوى، حتى إننا لم نسمع خلال القرن الثامن الميلادي كله إلا عن محاولة واحدة للثورة من جانب هؤلاء المسيحيين المقيمين بمدينة بيجة، ويظهر أنهم انضووا في ثورتهم هذه تحت لواء رئيس عربي (وتبدو الإشارة هنا إلى ثورة علاء بن المغيث الذي أرسله العباسيون لتقويض سلطة عبدالرحمن الداخل عام 146هـ وكان عاملا على مدينة باجة أو بيجة)، ومن الواضح أن ذلك التمرد كان عملا سياسيا بالدرجة الأولى، ولا يمكن النظر إليه كتعبير عن ثورة مسيحية خاصة مع وجود علاء بن المغيث على رأس ذلك التمرد مع جيشه العباسي”.
وما يستحق الوقوف عنده هو الحجم الصغير للقوى العسكرية العربية – الإسلامية التي سيطرت على شبه الجزيرة الايبرية فعند الفتح كانت حوالي 12000 مقاتل فقط، وربما زاد عددها بعد ذلك لكنها لم تصل في السنوات الأولى لأكثر من 30 الف مقاتل كان مطلوبا منها السيطرة على مساحة حوالي 600000 كم2 بوجود بضعة ملايين من السكان في حين قدر جيش القوط بقيادة لذريق الذي واجه طارق بن زياد، وفق المصادر العربية بمئة ألف رجل بينما تشكك المصادر الغربية بذلك الرقم قرب نهر برباط (Barbate).
لكن أقل رقم تقديري لجيش لذريق (رودريك) هو ثلاثون ألف رجل. وعلى أية حال فإذا كان النصر المذهل في تلك المعركة قد أثار العديد من التكهنات حول خيانة بعض قادة جيش لذريق فمن الصعب إعادة نتائج تلك المعركة الفاصلة في التاريخ إلى تلك الخيانة أو التقليل من عظمة ذلك الانتصار، كما أن انهيار القوى العسكرية القوطية وضعف مقاومتها في مقاطعات الأندلس الأخرى لا يقل أهمية من حيث الدلالة على تفكك الدولة القوطية ووجود شرخ كبير بينها وبين الغالبية الساحقة من السكان.
يقول ليفي بروفانس في كتابه “تاريخ إسبانيا الإسلامية” في معرض حديثه عن الفتح العربي – الإسلامي وتفسيره لذلك الفتح الذي وصف بالمعجزة وعلاقته بالأوضاع الاجتماعية والسياسية لدولة القوط الآتي: “وبرغم كل هذا، لا يوجد مثال واحد في التاريخ يخبرنا بأن دولة منظمة قد تركت في استكانة أراضيها تغتصب من قبل بعض فصائل الفرسان الشجاعة، لو كانت تنعم بالصحة وهيكلها سليم معافى، ولحكامها الهيبة والطاعة، فالفتوحات الكبرى قد صادفت دائما تحللا سياسيا واجتماعيا للأمم التي هبطت فوقها. وهذا ماحدث بالفعل لأسبانيا القوطية” (3) لكن السيد بروفانس نسي عاملا على غاية من الأهمية وهو الفارق السوسيولوجي – الثقافي بين القوط والايبريين والذي لم يتم اختراقه بسبب انغلاق القوط ولغتهم المختلفة واعتناقهم المذهب الأريوسي معظم فترة حكمهم لايبريا بخلاف مذهب الايبريين الكاثوليك.
وتشبه حالة القوط في إسبانيا من عدة وجوه حالة حكم المماليك في مصر وسوريا من سنة 1250 إلي سنة 1517. فهم كانوا بالأساس نخبا عسكرية أجنبية عن أهل البلاد، استمدت شيئا من الشرعية من خلال المؤسسة الدينية، لكنها بقيت مغلقة على نفسها إلى حد كبير ، ودعمت وجودها بجالية محدودة العدد من أبناء جنسها أو من عشائر قريبة لها كانت تحيط بها في مراكز الدولة وإداراتها.
وحين بدأ الانحلال يصيب تلك الإمارات المملوكية لم تجد إلى جانبها الشعب في بلاد الشام أو مصر، بل وقف يتفرج على مصيرها النهائي مستبشرا بالخلاص من فسادها على يد القادم الجديد كما حصل عند دخول سليم الأول العثماني حلب وحماة وغيرها من مدن الشام بعد معركة مرج دابق عام 1516 التي انهزم فيها السلطان قانصوه الغوري آخر حكام المماليك.
ومن المفهوم أن المؤرخين الغربيين يحاولون دائما التقليل من أثر ذلك الشرخ بين الشعب في ايبريا والدولة القوطية، بل نجد أحيانا شيئا من التعاطف مع الدولة القوطية، وذلك عائد للدور الذي لعبته طبقة النبلاء القوطية التي انسحبت إلى شمال ايبريا وتحصنت بجبال منطقة اوسترياس والذي يعتبر أن الفضل يعود إليها في بدء المقاومة ضد العرب – المسلمين في الأندلس، وقد مر معنا سابقا كيف أن بعض المؤرخين الإسبان أو الغربيين المختصين بالتاريخ الإسباني يعتبرون أن منشأ الهوية الإسبانية يعود لفترة الدولة القوطية أولا ولمرحلة حرب “الاسترداد” ثانيا والتي انطلقت من اوسترياس.
كما سبق فقد تم إنجاز السيطرة التامة على شبه الجزيرة الايبرية بحلول العام 716 باستثناء جيوب صغيرة معزولة في الجبال الشمالية، لكن الأمر الأكثر إدهاشا هو تحول الغالبية الساحقة لسكان ايبريا للإسلام دون ممارسة ضغوط بهذا الصدد كما أقر بذلك السير أرنولد توماس، وكما يقول ليفي بروفانس: “وكما رأينا فيما تقدم، فإن احتلال المسلمين لشبه جزيرة ايبريا كان قد اكتمل بالفعل قبل اغتيال عبدالعزيز بن موسى بن نصير عام 716 … كما يبدو أيضا أن القسم الأعظم من سكان البلاد ترك المسيحية طواعية وانضوى تحت لواء الإسلام لكي يتمتع بكافة مميزات المسلم وحقوقه، ولهذا فلم يبق للمقاومة سوى جيوب صغيرة لبعض وجهاء مملكة القوط الزائلة.”(4)
والشهادة الثالثة التي تؤكد أن التحول الكبير للسكان نحو الإسلام جرى بإرادتهم الحرة هي ما قاله دوزي: “لم تكن حال النصارى في ظل الحكم الإسلامي شديدة الوطأة إذا هي قورنت بما كانوا عليه من قبل، زد على ذلك أن العرب كانوا شديدي التسامح فلم يضيقوا الخناق قط على أحد من الناحية الدينية، ولم تكن الحكومة تميل إلى دفع المسيحيين إلى اعتناق الإسلام، حتى لا يخسر بيت المال الشيء الكثير، ثم إنها لا تعمد لذلك إلا إذا كانت شديدة التعصب، وهو أمر نادر قليل الحدوث، ولم يجحد النصارى جميلها هذا فكانوا راضين عنها لتسامحها واعتدالها، وآثروا حكمها على حكم القبائل الجرمانية والفرنجة، فانعدمت الثورات أو كادت طيلة طوال القرن الثامن للميلاد … وكان الفتح العربي من بعض الوجوه خيراً على إسبانيا فقد أحدث ثورة اجتماعية، وقضى على شطر كبير من المساوئ التي كانت البلاد ترزح تحتها منذ عدة قرون ..”(5).
هوامش:
(1) بحث في تاريخ نشر العقيدة الإسلامية – سير أرنولد توماس – ص 157 .
(2) تاريخ مسلمي إسبانيا – دوزي – ص 37.
(3) تاريخ إسبانيا الإسلامية من الفتح إلى سقوط الخلافة القرطبية – ليفي بروفانس – ص 44.
(4) كالسابق – ص – 74.
(5) تاريخ مسلمي إسبانيا – دوزي – ص 48.
———————
(*) بحث يسبق نشر كتاب الأستاذ “معقل زهور عدي” بعنوان: ’’الأندلس إبادة شعب وحضارة‘‘ على حلقات بإذن الله
** كاتب وباحث سوري
المصدر: ميدل إيست أونلاين
التعليقات مغلقة.