الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

السجّان في سجن تدمر الصّحراوي

محمد برو *

في مضمار البحث عن خصائص السجانين وطرائق تعاملهم مع السجناء، يمكننا الحديث عن بضع أشكال للمعتقلات السورية التي تفرز أنماطًا متباينة لسلوك السجّانين، مع الإصرار على تأكيد أن طبيعة السجن (المعتقل) ووظيفته المحددة من الأعلى، وربما بعض خصائص الضابط المنوط به أمر إدارة هذا السجن، من أهم العوامل التي تؤثر تأثيرًا حاسمًا ودقيقًا في نمط تعامل السجّانين مع المعتقلين.

وربما كان اعتمادنا على تعبير المعتقل بدل تعبير السجين، لترسيخ التمايز النوعي بين سجناء قضائيين مدانين بجرائم جنحية أو جنائية أو متهمين بها، ومعتقلين لقضايا سياسية، سواء كانوا معتقلي رأي أم معتقلين في مواجهات مع السلطة الحاكمة، كما كان الحال في ثمانينيات القرن المنصرم، وفي المرحلة التي بدأت عام 2011 وما زالت مستمرة إلى يومنا هذا.

في البدء ستعترضنا إشكالية التعريف أو التصنيف فشخصية السجّان محددة بوظيفتها في حفظ السجناء داخل أسوار السجن وإبقائهم أحياء، بالإشراف على حصولهم على مواردهم التي تتمثل في الطعام والشراب وأدوات النظافة، والرعاية الصحية وحسب، ثم أضيف إليها لاحقًا بعض الأدوات التي لم تكن مطروقة سابقًا مثل الكتب والصحف وإتاحة ساحة للرياضة والمشي، وهذا كله مع تطور مفهوم السجين واحتياجاته الإنسانية، ما سبق كلُّه وما يليه هو حديث عن السجّان في المعتقلات السياسية فحسب، يخرج عن هذا الإطار السجانون في السجون القضائية، كي تكون مسارات البحث عاريةً من التشويش الذي يسببه الخلط بين العالمين السياسي والقضائي.

ولو عمدنا إلى تشميل كامل المنظومة السجنية من مبدئها إلى منتهاها في تعريفٍ واحدٍ (السجان)، لأصبح التعريف مسطحًا جدًا، يبدأ من الرئيس الفرد وأركان حكمه ومؤسساته القضائية الفاسدة وبعض المؤسسات الطبية وحتى الموردين الغذائيين، وصولًا إلى المجند وهو أصغر بيدقٍ في هذه الرقعة، أو الجلاد الذي ينفِّذ حصيلة تلك القوى مجتمعة، ولَبات هذا التعريف يشبه تعريفنا للسوريين مثلًا، بأنهم شعب يقطن في تلك المساحة الجغرافية، وهو تعريف لا يعرِّف شيئًا، ولا يمنح خصائص مميزة للمعرَّفين،

وفي العصر الحديث أي في القرن العشرين -وهو قرن يتسم بصعود الأيديولوجيا وصراعاتها التي تشيطن الخصوم غالبًا إلى أقصى حدود الشيطنة، كما حدث في الدول الشيوعية وخصومها- بدأ المعارضون السياسيون تحديدًا يوضعون في خانة أسوأ الأعداء والخونة، ما استدعى حزمة من المواقف العدوانية من الجهة المسؤولة عن المعتقل.

وانتقل المعتقل من كونه مواطنًا مخالفًا للسلطة وفق حقٍ يكفله الدستور، إلى كونه معتقلًا في سيادة الأحكام العرفية وتمدُّدِ قانون الطوارئ الذي أصبح القانون الفعلي الذي تدار به البلاد، وهذا المعتقل ينفذ عقوبته إلى أمدٍ محددٍ، ويعود الى سابق عهده مواطنًا بين المواطنين جميعًا، هذا المعارض تحول إلى عدوٍ يمضي شطرًا من حياته عقوبة في المعتقل، مضافًا إليها كمٌّ كبيرٌ من الكراهية والرفض والرغبة في الإلغاء، وكثيرًا ما تلازمه هذه الحمولة السيئة والتهمة الشنيعة، وتلازم أسرته طوال بقاء تلك السلطة في الحكم، تلك الحمولة السيئة يُشحن بها السجّانون خضوعًا لميل الحاكم الفرد وسياساته وقياداته السياسية التي تحتكر شؤون الحكم، وتمنح الناس براءتهم أو رتبتهم الجرمية، بحسب موقعهم من السلطة الحاكمة قربًا أو بعدًا.

يبقى الحاكم في تلك التجارب ذاتًا متعاليةً على الرغم مما سبق كله، تعيش في قناع إنساني ظاهري، بينما تتمثل أدوارًا إلهية في بسط سيطرتها على المحكومين، وقد تحولت الأنظمة العربية بنسبٍ متباينة، إلى آلهةٍ مطلقةٍ يعادل الخروج عليها الكفر والمروق من الدين، وقد استدعت هذه الأنماط السلطوية بعض ذخيرتها القمعية من محاكم التفتيش في الغرب، أو من أحكام الخارجين على الدين والسلطان في ديار الإسلام، كحدَّ المارقين والمرتدين والمهرطقين، وهو التنكيل والتعذيب المديد والقتل.

أصبح السجًان الذي تمدد دوره تمددًا مرعبًا، محض جلادٍ ينفذ التعذيب والتنكيل والإذلال وفق منظومة محكمة يصبح فيها الجلاد الأداة الأخيرة التي تلامس ذات المعتقلين، والحقيقة لو رجعنا إلى التاريخ سنجد للسجان والجلاد شخصيتين ودورين متمايزين.

ولو نظرنا على سبيل المثال إلى أدبياتٍ تحدثت عن سجن الرئيس “ابن سينا” في رواية فردقان “ليوسف زيدان” لوجدنا أنَّ السجاّن رفيق حياة السجين وصاحبه ومسامره، وفي مذكرات “ناظم حكمت” أو اليوميات التي كتبها “أورهان كمال” بعنوان “ثلاث سنوات ونصف مع ناظم حكمت” سنجد أن السجّان صاحبٌ وجارٌ ومحاورٌ، لا نلمس لديه نوازع للشّر أو رغبة في القسوة على السجين، حتى في السجون السيبيرية لم يكن هناك تعذيب بالمعنى المباشر إنما نفيٌ إلى بقعةٍ سيئةٍ وبعيدةٍ من البلاد وحسب.

   من الصعب الإحاطة بمفهوم السجّان بشكله المستقل، لذلك سأعمد إلى تناول جملة نقاطٍ تشكل في مجملها مقاربةً ممكنة لطبيعة السجّان في المعتقلات السورية.

1 – التعذيب في فروع الأمن بغاية التحقيق والحصول على ما يملكه المعتقل من معلومات، أمرٌ مفهوم ومعلَّل من جانب النظام، أمّا التعذيب المستمر واليومي في المعتقلات، وبصورةٍ تتجاوز حدود طاقة التصوّر والتحمّل، فسببها الوحيد الحقد المتوحش الذي يصبغ شخصيّة جلّاد سورية “حافظ الأسد” الذي يمكن له التغاضي عن أي شيء إلا المساس بشخصه، كما يصفه كريم بقرادوني في كتابه “السلام المفقود” في فصل “مذهب الأسد السياسي”، فهو يتسامح مع اجتياح الإسرائيليين لبلاده، ويتسامح مع المجرمين المغتصبين والسارقين، لكنَّه لا يتسامح قيد شعرةٍ مع من يمس شخصه المتعالي، لذلك قرر إدخال من عارضوه في جحيم العذاب الطويل، انتقامًا منهم ومن نسيجهم الاجتماعي على حدٍ سواء، وكان يحرص أن تنقل إليه الفيديوهات التي تصور حفلات التعذيب في ساحات تدمر دوريًا، ليستمتع بمشاهدتها هو والدائرة الأولى من معاونيه، وهذا موجز مذهبه في التعامل مع المعارضين كالإله الذي لا يغفر أن تمس ذاته المتضخمة، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وقد انتقل هذا التقليد إلى خَلَفه، بل صار سنةً في التعامل مع المعارضين، وقد أفاد هذا النظام -الأسوأ في تاريخ السوريين- من هذه الآلية الرهيبة في بث الرعب في أنفس السوريين، وجعل من الخروج على النظام مغامرةً حمقاء، تكلفتها وضريبتها تعادل آلاف أضعاف غنائمها، فرسَّخ الوهن والرعب والخضوع في أنفس رعاياه.

2 – في الحديث عن السجن والسجان يجدر بنا التحديد في كل مرة ٍعن أيّ سجن نتحدث، فعلى الرغم من التقاطعات الكبيرة التي تشمل في خصائصها سجون الأسد معظمها، لكلِّ سجنٍ خصائصه الفردية التي تجعل من إغفال مراعاة خصوصيته، ونسب الحكاية إليه تحديدًا، عاملًا يشوش الروايات، ويجعل من بعضها زعمًا يصعب تصديقه، إن هو لم يحصره في إطاره الحقيقي، فعلى سبيل المثال لو تحدثنا عن واقعةٍ ولم نحدد أنها حصلت في سجن صيدنايا، وتوهَّم السامع للحظهٍ أنَّ تلك الحكاية حدثت في سجن تدمر لجزم السامع أنها محض تخرصٍ وكذب.

3 – في سجن تدمر تحديدًا لا وجود لشيءٍ يمكن أن نطلق عليه تعريف السجّان، هناك جلادون فقط، من أصغر عنصرٍ وصولًا إلى مدير السجن العسكري، الجميع ينفذ عملية التعذيب وفق ظروف متعددة، ولا يجري فعل التعذيب على عواهنه، بل يسير وفق وتائر محددةٍ ومنظمةٍ بدقة، سيكتشفها السجين بتعاقب الأيام والآلام، وسنعرف على وجه اليقين من خلال سماعنا صوت الضابط الأعلى أو ضابط أمن المعتقل، أوامر صارمة بالتزام تلك الحدود، أو بمنع التعذيب منعًا صارمًا في هذا اليوم أو ذاك، وسنسمع مراتٍ متكررة أصوات ضباط روس يوجهون تعليماتهم بلغةٍ آمرة، وسنجد عناصر من الجلّادين يُعاقبون جلدًا لمخالفتهم تلك الأوامر، فقد غدا فعل التعذيب اليومي في أنفسهم، والطرب لصراخ الضحايا، والاستمتاع برائحة الدم، شكلًا من أشكال الإدمان الذي تصعب مقاومته.

4 – عناصر الخدمات الإدارية واللوجستية لا وجود لهم في هذا المبحث، ولا يشكلون أيَّ قيمةٍ مضافةٍ، فأقسام الأرشيف والقلم والذاتية ومحضّري الطعام، لا يوجد بينهم وبين عالم السجناء وشخوصه أدنى تماس، وليس لهم أي تأثير يذكر، وإشراكهم في البحث لا يقدم أدنى قيمة مضافة.

5 – الجلّادون أو السجّانون جميعهم لا توجد لديهم أدنى مساحة تظهر فيها سماتهم الشخصية، سيما بعد الأسبوعين الأولين، إذ يجري فيهما محق شخصياتهم الإنسانية، وتحويلهم إلى محض أداةٍ للقتل والتعذيب، أداةٌ يُغسل دماغها بأقذر الطرائق وأفظعها، ودائمًا تنتهي هذه الأيام الأولى، بجعله منفذًا رئيسًا لحفلة تعذيبٍ طويلةٍ تمتد ساعات، يكون فيها التعذيب منصبًا على ضحيةٍ واحدةٍ، تنتهي بموتها بين يديه من فرط التعذيب، وسيكون الجلاد في نهايتها مضرجًا بدم الضحية التي مزَّق أشلاءها بيديه، فيصبح قاتلًا أمام عشرات الشهود، الأمر الذي يقطع عليه أيّ تفكيرٍ بمصالحةٍ أو تعاطفٍ أو تعاونٍ مع مجموعةٍ بشريةٍ، شهدت كيف قتل أحد أفرادها بوحشيةٍ مفرطة، ربما يكون أبسطها تخويفه العميق والمتكرر من مصيرٍ أسود ينتظره إن هو أبدى أيَّ تعاطفٍ أو تهاونٍ في تعذيب هؤلاء المعتقلين المجرمين، السجّانون محض أدوات تنفِّذ التعذيب أو القتل وفق مدونة سلوك صارمة يمكن للعنصر أن يبالغ فيها قليلًا، لكنَّه يعجز عن تجاهلها، ولو فعل مرة واحدة ستكون فيها نهايته.

6 – في أصل الاختيار أو الانتقاء، هناك تصنيفات تجري في الأشهر الأولى للخدمة العسكرية “مرحلة الدورة التأهيلية” إذ تظهر خصائص هذا العسكري الشخصية وتدوَّن، وعلى أساسها يجري اختيار الأكثر أميةً وتخلفًا وعدوانيةً، والأحطّ أخلاقًا، ليكونوا جلادين لا تتأثم أنفسهم من القتل ولا تصحوا ضمائرهم لصراخ ضحاياهم.

7 – الجلادون في سجن تدمر قسمان، قسم من الطائفة العلوية تتجاوز نسبته الثلثين من عدد الجلّادين، وهم مشحونون طائفيًا بطريقةٍ مشوهةٍ، تجعلهم ينظرون إلى السجناء بوصفهم مجرمين قتلة، أحط رتبة من الحيوان، وتعذيبهم وقتلهم أدنى الواجب في حقهم، لكنَّ هؤلاء الجلّادين يتصرفون على سجيتهم، ومن دون الحاجة إلى تأكيد ولائهم للنظام، وهم خارج دائرة الاتهام، فلا يبالغون في أيّ فعل، ولذا ستكون قسوتهم في التعذيب إذا ما قيست بأقرانهم أخفُّ وطأة، أمّا القسم الثاني من الجلادين فهم من باقي الطوائف، سني وأرمني ودرزي وأشوري وغيرهم وهم علاوة على شحنهم كسابقيهم مسكونون بالوسواس الارتيابي الذي يدفعهم في كلّ لحظةٍ إلى إثبات ولائهم لهذا النظام، ونفي أي ميل إلى تعاطفٍ أو رقة حال تجاه ما يلقاه السجناء على أيديهم من تنكيل يومي، وهذا ما يدفعهم إلى المبالغة في التعذيب، وكيل الشتائم وإبداء الغضب الشديد وأعتى مستويات التوحش، في تعاملهم اليومي مع المعتقلين، وشيئًا فشيئًا يتحولون بفعل فرزٍ طائفيّ غير مصرحٍ به، إلى طبقة أسياد يمثلها القسم الأول، وطبقة تابعين يمثلها القسم الثاني، ويتعدى هذا التقسيم علاقتهم بالسجناء إلى علاقاتهم البينية.

8 – يعيش الجلّادون معظمهم حالة فصامٍ حادةٍ، بين ما يعيشونه في هذا السجن بوصفهم سادة متصرّفين ومطلقي التوحّش والتنمر، وما يعيشونه حال انتقالهم في إجازاتهم إلى خارج جدر هذا السجن، وقد كنّا نسمعهم يتحدثون عن هذا الفرق الهائل الذي يعيشونه بين هذين العالمين، وهم في استراحتهم عند جدر مهاجعنا، فواحدهم يتقمص سطوة الإله الذي يحيي ويميت في هذا السجن، وهو يمارس هذه السطوة الرعناء على آلاف السجناء من دون حسيب، وما دام عدد منهم قد قُتل بيديه من جراء إفراطه في التعذيب فلن يلقَ عتبًا أو ملامًا، إنَّما يتلقى الثناء والتشجيع، فهو من يطهر الوطن الغالي من هؤلاء المجرمين القتلة، لكنه حين يغادر قطعته العسكرية خارج السجن في يوم إجازة، سيجد نفسه ملزمًا أن يقف في طوابير الخبز والتموين، شأنه شأن أي إنسان في الحي، يبقى واقفًا ساعة في حافلةٍ مزدحمةٍ، بينما يجلس آخرون، الأمر الذي يعزز لديه شعورًا بالدونية هو يحسه ويخفيه أصلًا، وما إن يعود إلى السجن حتى يصرخ مأزومًا وشاتمًا بين أصحابه، فقد لاقى من الذل والمهانة خارج السجن الشيء الكثير، ويصبح أشدُّ توحشًا، وأميل إلى البقاء بين جدر هذا السجن بدل أن يحظى بإجازاته.

9 – السواد الأعظم من الجلادين من الرتبة الأدنى في الخدمة العسكرية، يخاطبهم رؤساؤهم بـ”شرطي أو عنصر” من دون أداة نداء، السواد الأعظم منهم أقرب إلى الأمية، وهذا واضحٌ في أحاديثهم البينية التي كنا نسمعها منهم في استراحاتهم، وكانت بالنسبة إلينا مصدرًا من مصادر المتعة الساخرة، والمعلومات التي يسربونها بحكاياتهم عن أيام الإجازات.

10 – السجّانون عمومًا -وأكاد أقول جميعهم بلا استثناء- من أصغر عنصرٍ فيهم وصولًا إلى الضباط القادة يعانون بشكلٍ فاضح، أزمة الأمّي الجاهل مع المثقف، بوصفه خصمًا يفضح ببساطة مدى تخلفه، فهم يعرفون ذلك من الأضابير الأمنية التي لا تترك صغيرة ولا كبيرة إلّا أوردتها، وفي سجن تدمر كان رئيس السجن “فيصل غانم” يطوف بمهاجعنا مراتٍ متكررة ليسأل المعتقلين بتسلسلٍ عن دراستهم، وكان يميْز غيظًا حين يكتشف أن السّواد الأعظم من المعتقلين لديه، خريجوا جامعات، فلا يستطيع منع نفسه من إبداء غضبه العارم، فيقبل علينا ضربًا بيديه كلتيهما وقدميه، ثم يخرج بعد أن يعطي أمره للجلادين بالإمعان في تعذيبنا، لأننا نفوقه تعليمًا، وهم يعانون أزمة من يحيا حياة القطيع المسحوق، حين يقارنها بحياة من يقاومون ويعارضون الحكام، هم في قرارة أنفسهم، وفي عشرات الجمل التي تنفلت من أحاديثهم -حتى حين يغلفونها بالسباب والشتم- فإنهم يبدون شديدي الانبهار والتقدير لهؤلاء المعتقلين الذين يعيشون بأنفسٍ كبيرةٍ، تجعلهم أندادًا ومعارضين للحاكم الفرد الإله الذي يتهيبون هم إطالة النظر إلى صورته.

11 – في الواقعة التي سبق لي أن ذكرتها مرارًا، عن توبيخ قائد السجن العسكري بتدمر العقيد “فيصل غانم” لعنصر أقدم على قتل أحد المعتقلين، في حفلة التعذيب الأولى “الاستقبال”، حين أسرف في تعذيبه، فكانت عبارة التوبيخ التي تلقاها من قائد السجن “قسمًا بشرفي لو كررتها ثانية سأحلق لك شعرك” وفي هذ تأكيد أن الإدارات في السجون تربي عناصرها على التوحّش، بل تبالغ في تحويلهم من بشر عصابيين شريرين، إلى وحوشٍ ضاريةٍ لا ترتوي من رائحة الدم وصراخ المعذبين.

12 – مناقشة شخصيّة السجّان كما وردت في أدب السجون، مسألةٌ مقيّدةٌ في هذا الإطار “أدب السجون” الأمر الذي يغيب عن القارئ، وربما الباحث في بعض الأحيان، فالروائي أو الأديب ليس لأفق إبداعه محددات، فله أن يضفي على شخصيته الروائية ما يراه أو يحسه من صفات، قد لا تتطابق مع الوقائع التي عاشها المعتقل أو غيره من المعتقلين فعلًا، الإشكال الذي يعتري هذه المسألة عندما نحاول أن نعمم خلاصات بحثنا في شخصية السجان في أدب السجون، لنجعل من خصائصها “إن هي وجدت أصلًا” خصائص عامة يمكن أن نسم بها السجانين، وهذا ينطوي على مبالغة وتشويش واضح، ربما يحسن بنا في حينها التفرقة بين عملٍ توثيقيّ، وعملٍ روائي أو أدبي، ففي العمل التوثيقي لنا أن نحاسب الكاتب على دقَّة روايته أو صحتها، بينما لا يحق لنا هذا أبدًا في الأعمال الإبداعية، وبخاصة الرواية أو الشعر وحتى المسرح.

13 – البلديات في سجن تدمر هم عناصر سخرة وخدمة وهم أقرب ما يكونون إلى العبيد، يتعرضون للذل والإهانة باستمرار من عناصر السجن ويُضربون في كثيرٍ من الأحيان، وينفذون أعمالًا شاقة في نقل الخبز والطعام بأوزان ثقيلة يوميًّا، من ساحة الطعام إلى الساحات والمهاجع، وربما حصل في ندرةٍ من الأمر، أن يأمرهم بعض الرُّقباء بتعذيبنا وضربنا عوضًا عنهم، للسخرية والتندر ليس إلّا.

14 – يبقى الإشكال الأشدُّ بعد هذا المرور العام، في عدالة المحاسبة لو حصلت يومًا ما كما يتمنى كثيرون وأنا واحد منهم، كيف لنا أن نحاسب سلسلةً من المجرمين بدءًا بالوزراء أو رؤساء فروع الأمن، أو قائد سجن أو العناصر والجلادين، ونحن نعلم بدقة أن أيَّ فردٍ من هؤلاء -على تباين مواقعهم من تلك المنظومة القمعية- هو في اللّحظة ذاتها مقموعٌ إلى أقصى درجات القمع التي تخيّره بين الانصياع والامتثال والإيغال في القتل والإجرام أو الموت بأشنع الطرائق، إشكاليةٌ لا أظنُّ أنه من اليسير الفصل فيها، مع أنها قد تفتح بابًا لتسطيح الأمور وتمييعها، وإهدار حقوق الضحايا، وعدّ المجرمين أنفسهم ضحايا -مع أنهم في وجه من الأوجه كذلك بلا أدنى شك- لكن هذا لا يلغي مسؤوليتهم الكاملة عما فعلوه كله، وهذا يحتاج إلى حديث وبحثٍ طويلين.

* كاتب وناشط ومعتقل سوري سابق

المصدر: حرمون

التعليقات مغلقة.