الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

باعوها؟

حلمي الأسمر *

 (1)

يروي الأسير الأردني المحرّر، سلطان العجلوني، الذي قضى سنواتٍ من الاعتقال في سجون الصهاينة، قائلاً في تغريدة له على حسابه في تويتر: حدّثني الصديق الأسير القيادي في “فتح”، مروان البرغوثي، فك الله أسره، وكنا في معتقل هداريم قرب تل أبيب قال: قبل التوقيع على أوسلو بيوم، جمع أبو عمار قيادات منظمة التحرير الفلسطينية في تونس، ووضع أمامهم نسخاً من الاتفاق. وقال لهم “حسب الميثاق الوطني الفلسطيني، هذا الذي أمامكم خيانة، لم أستطع تحصيل شيء أفضل، وهو غير قابل للتعديل، خذوه كما هو أو ارفضوه وتحمّلوا النتائج”، فبصموا كلهم!

لا مجال هنا لتقويم ذلك الموقف، فقد قتل بحثاً وتقويماً، ولكن التركيز هنا على ما قاله ياسر عرفات: “خيانة”، وهي كلمة تختصر تاريخاً طويلاً من المواجهة الملتبسة بين مشروعين: صهيوني وعربي. على السطح كانت هناك مواجهة فعلاً، وخطاب متسم بلاءات ورفض وعنتريات، وقرارات بالأطنان صدرت عمّا تسمى جامعة الدول العربية ومؤسساتها المنبثقة عنها. أما تحت السطح، فكان ثمّة قصص عشق ومطارحة غرام، واليوم جاء أوان كشف الغطاء، وظهور “العشاق” السرّيين إلى الأماكن العامة جهاراً نهاراً.

في “إسرائيل” نشوة انتصار لا تقلّ عن نشوة إعلان قيامها، ثم احتلالها باقي فلسطين، في 1967، قلة من “العقلاء” فيها ينظرون إلى الوجه الآخر من الصورة، ولا يكاد يستمع إليهم أحد، لا بل إنهم منبوذون ومعزولون إلى حد اتهامهم بـ “خيانة” المشروع الصهيوني. يعتقد هؤلاء أن الكيان يسير إلى “حتفه”، ليس بسبب تهديد “الجيوش العربية!” له، بل بسبب أمراضه الداخلية التي تفتك به. وأهم هذه الأمراض ما يسببه “فيروس” التطرّف والتوحش ويمين اليمين الذي تمكّن من كل نخبه الحاكمة، المتماهية مع صراخ الجمهور المهووس بابتلاع كل “الكعكة”، كل فلسطين التاريخية، مع ما تحويه من “منغصّات” بشرية، هي الملايين العربية التي تعيش بين النهر والبحر.

نشوة “النصر” إياها دفعت الباحث والمحاضر في موضوع النزاع والمسؤول الكبير السابق في المخابرات الإسرائيلية، دورون متسا، إلى استخراج عشر نتائج “تاريخية” لانطلاق قطار الهرولة و”التطبيع”، لعل أهمها إعلان انهيار القومية العربية، حلول صفقة القرن مكان اتفاق سايكس بيكو المبرمة عام 1916، تحوّل “إسرائيل” إلى قوة عظمى إقليمية (حرفياً) بكل معنى الكلمة، توجد لها خطوات مهمة في السياسة الإقليمية، نشوء حالة من إعادة الاستقطاب بين محورين: معسكر المقاومة (إيران، حزب الله، حماس) والمعسكر المحافظ (إسرائيل، دول الخليج!). السقف الزجاجي الفلسطيني الذي كان قائماً منذ عقود عديدة تحطّم تماماً، وقطعت المسألة الفلسطينية تماماً (!) عن المسألة العربية.

ما قاله متسا، في سياق مقال نشره بوق نتنياهو؛ صحيفة إسرائيل اليوم (14/9/2020)، عيّنة صغيرة من مظاهر “الاحتفال” الصهيوني بالنصر، لا بالسلام، فلا يكاد أحدٌ يتحدّث عن السلام الحقيقي الذي يتحدّث عنه “الطرف الآخر” العربي، لأن ما حدث في المعيار الصهيوني “خضوع” عربي لقوة “إسرائيل”، خضوع من أنظمة متهالكة متخلّفة وديكتاتورية تجري وراء حماية أنظمتها، و”تلهث” وراء التقدّم والتكنولوجيا. هذا هو التوصيف الدائر في أوساط النخب الصهيونية، وهو يختلف عن الخطاب الرسمي الذي يُلقى أمام كاميرات التلفزة في احتفاليات التوقيع على “المعاهدات” الجديدة، والذي يسوّق ما يجري باعتباره “سلاماً” بعد حروب ومواجهات لم تقم أصلاً، ومعارك لم تخض.

 (2)

في المرويات الشعبية التي سمعناها صغاراً من آبائنا وأجدادنا أن “العرب باعوا فلسطين”. لم نكن نفهم حينها مغزى الكلام، لنكتشف بعد أن كبرنا أن الحقيقة كانت مختبئةً تحت صفحاتٍ كثيفةٍ وغزيرةٍ من البيانات الرنانة والقرارات “حبراً على ورق”، وأن من كان يسمّن المشروع الصهيوني و”يربربه” ويحميه، ويمدّه بأسباب القوة لم يكن إلا النظام العربي الرسمي، وأن ما دعاه الكاتب الصهيوني “انهياراً” للقومية العربية لم يكن سوى انهيار قلعة من رمل بناها أطفال عابثون على شاطئ مهجور.

يروي لي زميل في مهنة المتاعب، عمل طويلاً في جهاز إعلامي عربي رسمي، أنه كان لديهم في ديسك التحرير تعميم “شفهي” غير مكتوب، يحظر استعمال عبارة “الدولة الفلسطينية المستقلة” في أخبارهم. وربما يختصر هذا التعميم كثيراً من فصول الحكاية، أو الكذبة بالأحرى، التي لطالما سمعناها في الخطاب العربي الرسمي، وهي أن “فلسطين هي قضية العرب الأولى”. والحقيقة أن “الكضية”، كما يحلو تسميتها لدى العرب الصهاينة هذه الأيام، كانت فعلاً قضيتهم الأولى، ولكن بمعنى آخر، معنى مختبئ في بطن الشاعر، معنى عبّرت عنه سلسلة الانهيارات والتصفيات التي منيت بها فلسطين على أيدي النظام العربي الرسمي، منذ مائة عام.

* كاتب وصحافي من الأردن

المصدر: العربي الجديد

التعليقات مغلقة.