الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الاشتراكية بين ماضيها ومستقبلها *

الدكتور جمال الأتاسي

     عندما نقول بالاشتراكية لا نطمع أن نضيف نظرية جديدة إلى مجموع ما ورد من نظريات اشتراكية منذ قرن ويزيد، بل كل قصدنا أن نثير مجموع المسائل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والإنسانية التي طرحتها وتطرحها الاشتراكية في العالم، وان ننظر إليها من خلال ظروفنا التاريخية وأحوالنا الاجتماعية ومن خلال تجربتنا الإنسانية، لنصل من ذلك كله، إلى توضيح طريقنا الخاص وإلى رسم الخطوات العملية التي تسير بنا في هذا الطريق، لنجعل من قضية الاشتراكية قضية العرب في تحررهم ووحدتهم وفي بناء المجتمع العربي الجديد على أسس راسخة من الحق والعدالة والمشاركة الإنسانية.

     و(البعث) وإن لم يبتكر لنفسه نظرية اشتراكية كاملة تحدد وجهة التاريخ وفلسفته، ورسم تفاصيل المجتمع المقبل وشريعته، فهو قد قام منذ قام على نظرة اشتراكية أصيلة، ان اقتصرت في بدئها على خطوط نظرية مبدئية عامة فهي تتوضح في كل يوم وتغتني بعلاقاتها ومواجهتها بالأفكار والاتجاهات الأخرى، كما تتضح أيضاً معالمها وتأخذ محتواها وبنيتها بتفتح الوعي العربي وبتطور النضال الشعبي.

     واتجاه (البعث) الاشتراكي لم يلصق بحزب البعث اصطناعاً، كما لم يأت رد فعل لوجود أحزاب واتجاهات وأفكار اشتراكية رائجة في بلاد العرب، شأن الجماعات والأحزاب التي تتسمى اليوم بالاشتراكية أو تنادي بها، بل كان (البعث) أو حزب عربي قال بالقومية والاشتراكية والانقلابية وجعل منها دستوراً له في سياسته وتنظيمه، وطرح شعاراتها على الشعب خلال الحرب العالمية الماضية، وكنا نقول منذ ذلك الحين بأن النظام الاشتراكي للمجتمع العربي إنما يُستمد من ظروف العرب التاريخية ومن خصائص ومقومات مجتمعنا العربي ومن تجربتنا الإنسانية، بينما كان الشيوعيون في بلادنا ينكرون كل إمكانية لقيام حركات اشتراكية ثورية مستقلة عن الشيوعية العالمية في نظرتها وتجربتها.

     ولكن اختلافنا المبدئي عن الأحزاب الشيوعية وعن الأحزاب الاشتراكية الغربية المنشقة من الشيوعية، هذا الاختلاف الذي سيوضح كل موضوع من المواضيع الاشتراكية والقومية المطروحة اليوم على بساط البحث في العالم وفي بلاد العرب، والفارق الكبير بيننا وبين الحركة الشيوعية في النشأة والنظرة والحلول، كل ذلك لا يعني رفض كل ما قالت به النظرية الشيوعية وإنكار كل قيمة إيجابية لهذه النظرية، فالحركة الشيوعية عدا ما طرحته من مسائل وعرضته من أفكار تختلف في قيمتها وصحتها، وعدا مساهمتها الفعالة في إيقاظ وتحريض الكثير من القوى النضالية في العالم ضد الاستعمار، فإنها قدمت لنا نماذج حية مائلة أمامنا، سواء في نجاحاتها أو عبراتها، في كل ما حققته من تطبيقات للاشتراكية في عدد من البلاد التي تحمل هذا الاسم.

     وعلينا نحن أن نفيد من هذه التجارب، وحتى من العثرات والأخطاء، فالحكم الاشتراكي الذي قام حتى اليوم في عدد من بلدان العالم لا نسميه اشتراكياً إلا في محاولته وإرادته للسير في هذه الوجهة، ولا نراه اشتراكياً إلا في وجه من أوجه تحققه الاقتصادي، لأنه لم ينجح بعد أو ما زال بعيداً عن تحقيق الثورة الاشتراكية الحقيقية التي تحرر الإنسان، كل إنسان، وتبدل جوهر العلاقات بين الناس وتغير رابطة الإنسان بالآخرين وبالمادة والأشياء.

     وفي الميراث الفكري الإنساني يبقى للماركسية قيمتها الكبرى في تاريخ النظريات والأفكار الاشتراكية، كمحاولة علمية جريئة في دراسة التطور التاريخي والاجتماعي، وفي نبذ المجتمع الرأسمالي الغربي، وكتطلع إنساني يريد تحرير الإنسان من الظلم والاستثمار. ولكن الأفكار التي جاء بها ماركس هي من بنات القرن الماضي، والعالم قد تغير وتبدل من بعد ماركس، والماركسية تدور اليوم على نفسها في الغرب تفتش عن تلاؤم جديد ومخرج لها. والأمم التي تستيقظ وتنهض وتثور في الشرق تدخل عوامل جديدة كبرى في تاريخ التطور الإنساني وتستبق الغرب في طريق الاشتراكية، فهل لنا اذن أن نقف عند ما جاءت به الماركسية أو غير الماركسية؟

     لسنا هنا في معرض نقد النظرية الماركسية والنظام الشيوعي وما أديا إليه من مذهبية صلبة، ولكننا نريد الوصول إلى توضيح فكرة أساسية بالنسبة إلينا، وهي اعتقادنا بأن الاشتراكية، كل اشتراكية، لم تعد من الماضي ويجب أن تحطم أطواق الماضي، فالاشتراكية الثورية لم تأخذ  بعد شكلها الصحيح السليم، وهي ما زالت تلقي بكل صورها وأهدافها للمستقبل، وان كل ما تحقق من تجارب إنسانية ليس إلا تجارب يجب أن نستفيد منها لفهم أوضاعنا ولتخير طريقنا الخاص بنا كعرب ولتجنب كل ما يعرّض هذا الاتجاه للتوقف والانحراف أو للانغلاق على نفسه والتحول إلى مذهبية ضيقة.

     عندما حاول ((هاليفي)) في دراساته عن الاشتراكية ان يضع تعريفاً دقيقاً للاشتراكية، بين شتات النظريات القائلة بها والحركات السياسية التي سارت على نهجها والثورات التي قامت باسمها والتحققات العملية التي قالت انها ستوصل إليها لم يزد هذا الكاتب على أن قال: الاشتراكية هي كل تاريخ الأفكار والحركات الاشتراكية منذ وجدت كلمة الاشتراكية، أي منذ مطلع القرن الماضي، حتى اليوم. فهي اتجاه الإنسانية الجديد، بل اتجاه الإنسان المناضل للانعتاق من الظروف الخارجية (الاقتصادية خاصة) التي تستبد بحياته وتعطل الكثير إمكانياته وتلحقه بالمادة والآلة وتضيعه فيها. وهي تبديل لنوع العلاقات بين الناس، والعلاقات تقوم اليوم على الفوارق الطبقية وعلى المنفعة والاستثمار والتنافس المادي، لتجعل منها روابط في الإخاء والتعاون والتضامن.

     وإذا كانت الاشتراكية إنسانية تضع الإنسان هدفاً لها أي ترمي إلى تحرير الإنسان من كل ظلم واستثمار والارتفاع بقيمة الإنسان وكرامته وفسح كل المجالات أمام تفتح ذكائه ونشاطه، فهي أيضاً لا ترى الإنسان إلا في المجتمع والتاريخ ولا تضعه إلا في شروطه الطبيعية الواقعية التي يعيشها، ولا تحرض وتتوسّل إلا القوى الموجودة في هذا المجتمع. فالاشتراكية نظام اجتماعي واقتصادي وسياسي أي يحمل مفهوم دولة جديدة، فهي تطرح كل المسائل التي تعالجها مثل هذه الدولة في التوجيه وفي التنظيم لشتى نواحي الحياة ولكل أنواع النشاط الإنساني فيها.

     وإذا نظرنا للاشتراكية من الوجهة الاقتصادية، وجدناها تقوم على إجراء تبديلات جذرية في نظام ملكية وسائل الانتاج بما فيها الأرض وفي تنظيم العمل وتوزيع الانتاج، فهي تطالب باقتصاد يختلف جوهرياً عن الاقتصاد القائم على رأس المال، أي على المزاحمة والاستثمار؛ فالاشتراكية هنا انقلابية كما هي في أي مجال آخر، تقوم على قلب النظام القائم لتقيم نظاماً جديداً يستند إلى أولية العمل الإنساني. وللعمل الإنساني في النظام الاشتراكي غاية مزدوجة، فهو يقوم على تبديل العالم بسيطرة الإنسان العامل على الطبيعة وجعلها أداة للسلم والرفاه وخير المجموع. فالاشتراكية هنا تحرير للإنسان من سيطرة الأشياء وتحرير له في تأمين مطاليبه وحاجاته، فهي تجهد لجعل المجتمع كله في المستوى الإنساني الكريم العادل.

     وإذا نظرنا للاشتراكية من وجهة نظام الدولة فإن السيادة الاقتصادية لأيدي العاملين المنتجين هي طريق سيادتهم السياسية أيضاً، فالمواطنون العاملون المنتجون هم الارادة العامة للدولة الاشتراكية.

     والاشتراكية كما انها ضد استبداد الفرد والطبقة وضد الاستثمار، فهي أيضاً ضد استبداد الدولة وطغيانها، فهي نظام إنساني والإنسان هو الأساس الذي يقوم عليه بناء المجتمع الاشتراكي، والإنسان لا كفردية وأنانية بل كحرية وكرامة وإبداع. فهي إذ تقوم على المساواة الفعلية، لا النظرية، وعلى تكافؤ الفرص لجميع الناس فهي ترتقي بكل المجتمع بإفادتها من إمكانيات كل أفراده، كما تفسح الطريق رحباً أمام العمل الإنساني المبدع يحفزه حق الإنسان في أن يأخذ من المجتمع مثل ما يعطي.

     إننا لم نعط في كل ما أسلفنا إلا لمحات خاطفة عن الوجهة الاشتراكية التي نأخذ بها، وليس بمقدورنا في مثل هذا البحث المقتضب أن نحيط بالاشتراكية في أفكارها ومصادرها وتطبيقاتها، فالاشتراكية كما ألمحنا ليست مشاركة في الطعام واللباس والمال والارباح وليست نظرية في الرحمة والإحسان كما لا تتوقف عند تحديد ملكية أو توزيع أرض أو فرض ضريبة تصاعدية، ولا تتوقف على سن قانون لحماية الفلاح والعامل ولا على تأميم مصالح ومرافق ذات نفع عام من طبابة وشركات وخطوط مواصلات، إلى غير ذلك من الحلول والاصلاحات، فالاشتراكية أكثر من ذلك، وهي قد تجاوزت بنظريتها كل هذه الخطوات.

     الاشتراكية تعني بالنسبة إلينا، المجتمع العربي الحديث على أسس ثابتة من الوحدة والعدالة والحرية ضمن مفهوم إنساني علمي حديث وفي ظل حكم شعبي ديمقراطي سليم. وهكذا فالاشتراكية تعطينا مفهوماً في الدولة العربية الحديثة وفي حقيقة تطور التاريخ الإنساني، تعطينا طرائق ومبادئ في التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، في توزيع الأرض وتنظيم العمل وفي تحضير المجتمع وتصنيعه، كما تعطينا  وجهة في تنظيم العلاقات بين الأفراد في المجتمع وبين الأفراد والدولة، والاشتراكية قبل كل هذا أسلوب في العمل الشعبي وخلق في النضال السياسي.

     والاشتراكية لم تعد دعوة بعض المفكرين والفلاسفة والمصلحين والأخلاقيين، فهي لم تعد نظرية وتأملات، بل أصبحت حقيقة راهنة تسير على مبادئها ونهجها مجتمعات ويناضل في سبيلها الملايين من البشر.

     ونحن العرب من ضمن هذه المجموعات البشرية التي تستيقظ اليوم إلى نداءات التحرر والعدالة والحق، ولكننا عرب ولنا أوضاعنا ومشاكلنا الخاصة التي تملي علينا طريقنا وخطتنا الاشتراكية الخاصة، ولكنا نعيش أيضاً اليوم، وفي هذا العصر، لا بد من الاستجابة لضروراته الحيوية ومفاهيمه الإنسانية.

     على هذه الأسس ننادي دائماً باشتراكية عربية. وإذا كانت هذه التسمية لنظرتنا الاجتماعية، بالاشتراكية العربية توجه إلى الفكرة الأساسية التي يقوم عليها حزب البعث العربي الاشتراكي وهي فكرة القومية العربية، فالاشتراكية بهذه القومية العربية لا تعني مذهباً عربياً جديداً مبتكراً للاشتراكية. والاشتراكية في أساسها إنسانية، أي تتطلع إلى الإنسانية في كل إنسان وتتناولها في كل ما هو عام مشترك بين الناس. فهنالك الظلم والاستثمار من جهة، وهناك الجهد والعمل من جهة ثانية. والاشتراكية رسالة العاملين والمظلومين، ولكن هذا الإنسان المظلوم المستثمَر، هذا الإنسان الكادح، هذا الإنسان الثائر والمطالب بحريته الإنسانية، إنما هو إنسان قومي مشروط بظروف مجتمعه ونشأته فهو يعيش في مجتمع معين ومشروط بظروف معينة من تاريخ هذا المجتمع برغم كل ما يحيطه من ظروف إنسانية وحضارية عامة. والإنسان العربي ليس إنساناً مجرداً مطلقاً، بل هو كائن تحيط به ظروف أمته بكل شروطها وأعبائها وهو عندما يثور ويتمرد وعندما يتطلع لنظام اجتماعي عادل، فهو لا يراه إلا من خلال وجوده كعربي.

     فالاشتراكية إذن، هي في أساسها إنسانية، وهي بوجهها الواقعي بالنسبة إلينا، إنسانية عربية، إذ لا وجود عملياً لذلك الإنسان المجرد عن البيئة والتاريخ. وعندما نقول باشتراكية عربية، لا نعني نظرية عربية للاشتراكية ولا نعني أننا نقدم ابتكاراً وخلقاً جديداً يخالف ما سواه في الفكر والتطبيق والأهداف (فللاشتراكية تراث إنساني مشترك في التفكير وفي النضال الإنساني) بل كل ما نعنيه هو أن هذه المبادئ والأهداف الإنسانية العامة، يجب أن تتجسد في المجتمع العربي وفي مؤسساته الاجتماعية والاقتصادية ويجب أن تصبح تعبيراً عن وجهة العرب الإنسانية في نهضتهم.

                                                    * نشرت عام (1956).. في جريدة البعث

التعليقات مغلقة.