الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

مراجعة لـ كتاب (فلسفة التّنوير) لـ’’إرنست كاسيرر‘‘ وترجمة ’’إبراهيم أبو هشهش‘‘

عبد الحكيم شباط *

يكاد يُجمع مؤرّخو الفلسفة الألمانيّة على أنّ مؤلف هذا الكتاب “إرنست كاسيرر” هو أبرز فيلسوف ألمانيّ مُعاصر، ومِنْ أَهم فَلاسفة أوروبا فِي وقته؛ إذ إن “كاسيرر” يُعدّ أبرز فلاسفة “الكانطيّة الجديدة” فِي الفلسفة المعاصرة، وهو أكبر شُرّاح أعمال “كانط”، ومؤسس “فلسفة الصّيغ الرّمزيّة”، وأحد أبرز فلاسفة العلم في إطار “نظريّة المعرفة” الألمانيّة. كما أنّه يَصعبُ الحديث عن وجود اعتبارات سياسيّة خلف إبراز اسمه- كما هو الحال مع غيره- كان الرّجلُ باحثًا كبيرًا، ومؤلفًا شِبه مَوسوعيّ، تَشهدُ عَلى ذلك الأعمالُ الكثيرة الّتي تركها لنا. ولحُسن الحظ فقد أُتيحتْ لنا فرصة معرفيّة جيدة، مِن خلال المشاركة في “سيمنار” الدائرة البحثيّة الخاصة بالفيلسوف “كاسيرر” في جامعة برلين لمدة خمس سنوات متواصلة، وذلك بإشراف ثلاثة أساتذة من اللّجنة المركزيّة القائمة على تحقيق أعمال “كاسيرر”، هم: الفيلسوف “أوسفالد شفيمر” ممثل “مدرسة إيرلانغن” عميد كلية الفلسفة الأولى في همبولد برلين، ورئيس لجنة تحقيق أعمال “كاسيرر”، و”كرستيان مُوَكل” رئيس دائرة الدّراسات العليا بجامعة همبولت برلين، وعضو إدارة تحقيق أعمال “كاسيرر”، والفيلسوف الأمريكيّ المرحوم “يوهن مشيل كرويس” عضو لجنة تحقيق أعمال “كاسيرر” المكتوبة بِاللُّغة الإنجليزيّة. والثّلاثةُ أجمعوا على فكرةٍ مَفَادهَا أنَّ “كاسيرر” هو أبرزُ فلاسفة الحداثة الأوروبيّة. والجملة الأخيرة هي عنوان كتاب صادر بعدة لغات.

ونحن نعتقد بأهمّيّة الفيلسوف “كاسيرر” وأعماله، ليس فقط على مستوى المعرفة الألمانيّة والأوروبيّة فحسب، بل كذلك الإنسانيّة. وقد أردنا لهذه المقدمة- المطوّلة نسبيًّا- أن تكون مَدخلنا إلى تقييم أهمّيّة كتابه فلسفة التنوير، الذي نقله الدكتور إبراهيم أبو هشهش- مشكورًا باقتدار- إلى اللغة العربية، واستحق على ذلك الفوز بجائزة الشيخ حمد الدولية للترجمة.

يأتي مُسوِّغ تأليف هذا العمل لدى “كاسيرر” في إطار الإجابة عن سؤال أهمّيّة عصر التّنوير. ويمكن القول أيضًا الدّفاع عَن مُكتسبات عصر التّنوير العلميّة: الاجتماعيّة والأخلاقيّة والقانونيّة والسّياسيّة. وذلك بعد أن بدأت التّوجهات النّازيّة الإيديولوجيّة- الأكاديميّة- قبل الحرب العالميّة الثّانية- تحطُّ مِن أهمّيّة هذه المُكتسبات ذات التّوجه الإنسانيّ لمصلحة تصوّراتها العرقيّة الضّيقة. أما أهمّيّة هذا العمل في الإطار التّخصصيّ فِي اللّغة الألمانيّة، فإنّه يمكن إجمالها في النّقاط التّالية:

1- يُقدم هذا الكتاب خُلاصة مُكثفة عن أهم أفكار عصر التنوير وقيمه ومكتسباته.

2- يُقدم هذا الكتاب خُلاصة واضحة عن أهم أعمال كبار الفلاسفة والعلماء والأدباء واللاهوتيين والفنانين الأوروبيين في عصر التنّوير، مثل: نيوتن، هوبز، لوك، هيوم، بيركلي، تيتنز، شافتسبيري، توماسيوس، كورناي، ديكارت، هيردر، فوفنارغ، بايل، ديدرو، فولتر، لاميتري، موبرتري، كوندياك، باسكال، روسو، مونتسكيو، سبينوزا، إيراسموس، هولباخ، لايبنتز، أويلر، باومغارتن، كانط، غوته، لسينغ، شيلر، شوبنهاور، شيلنغ، بوهور، دوبو، بوالو، غوتشيد، مندلسون.. وغيرهم.

3- يُقدم هذا الكتاب رؤية تحليليّة نقديّة وموضوعيّة ممتازة لأهم الأفكار والفرضيات في عصر التنوير.

4- يرصد التّطور التّاريخي لتبلور الفروض حول أهم الإشكاليات المنهجيّة في الثّقافة الأوروبيّة والإنسانيّة، من مثل:

– “طبيعة العقل”، و”طبيعة الوحي”، والعلاقة المتوتّرة بينهما. والمِصداقيّة “الموضوعيّة” لنتاجيهما المعرفيّ.

– الجدلُ الفكريُّ السّاخن ما بين فلسفة التّنْوير واللّاهوت مِن جهة، وما بين فلسفة التّنوير والتّيار الرُّومنسيّ مِن جهةٍ ثانيّةٍ.

– “مشكلة الطّبيعة” و”مشكلة التّاريخ”، وما الأدوات الفكريّة المناسبة للتصدي للمُشكلتين، وعنهما ظهرت إشكاليّة “وحدة المنهاج” أو “ثنائيته” في دراسة الوقائع الطّبيعيّة والتّاريخيّة، وهو ما يعرف بـ”الصّراع المنهجي” بين “العلوم الطّبيعية” و”العلوم الثّقافية” أو “العلوم الإنسانية والاجتماعيّة” (Der Methodenstreit).

– إشكاليّة العلاقة ما بين “المفهوم” و”الواقعة”، ومحاولات الإجابة عن سؤال كيفية تجاوز “الهوّة” ما بين الوقائع والمفاهيم أو ما بين “الواقع” و”النظرية”.

– مشكلة تحرير “علم التّاريخ” من سلطة “الرُّؤيّة اللّاهوتيّة”. وعنها ظهرت إشكاليّة “التّفسير الغائيّ” في مقابل “التفسير السَّببيّ” في نظريّة المعرفة العلميّة.

– إشكاليّة “مبدأ التَّماثل” و”مبدأ تكرار حدوث الظَّاهرة”، في مجرى التّاريخ، ورفض الأحكام النّظريّة المُسبقة، ما لم تثبتها الوقائع أو الوثائق. الجدلُ المُحْتدمُ مَا بين “النّزعة الحسيّة” و”النّزعة العقليّة” في تَكوُّنِ المعرفة، والتي عُرفتْ فيما بعد بالتّيار “الإمبريقيّ” فِي مُقابل التَّيار “النّظريّ”.

– إشكالية “الاستقراء” مقابل “الاستنباط” في صحة تعميم تفسير القوانين على كافة الظواهر الَّتي تدرسها النَّظريات.

– فكرةٌ وَافِيةٌ عَنْ التَّصورات والفَرضِيَّات الّتي سبقت تبلور علم النّفس، وعالم الجمال.

وإذا أردنا أن نُعيد صِياغة الكلام السّابق فإننا نقول: إنَّ هذا الكتاب يُشكّل أهمّيّة (مُتفاوِتَة) إلى المجالات العلميّة والتّخصصيّة التّالية: تاريخُ الفلسفة، وتاريخُ نظريّة المعرفة، وعلمُ اللّاهوت، وتاريخُ العلم، وعلمُ التّاريخ، وعلمُ النّفس، وعلمُ الجمال، وعلمُ الاجتماع، والفلسفةُ الحديثة، وفلسفةُ العلم، وفلسفةُ القانون، والأدبُ الأوروبيُّ الحديثُ. ومِن كلِّ مَا تقدّم تَظهرُ أهمّيّة هذا العمل فِي المَجالات التَّخصصيّة التّي تُلامسها مُحتويات فُصول الكتاب، وما ينطبق عَلى أهمّيّة الكتاب في الجوانب التّخصصيّة، يمكن إسقاطه على الإطار الثّقافيّ العام، ولعلنا نُفضّل إجمالها في نقطتين:

1- من خلال كونه يقدم صورة موجزة ومكثفة وواضحة عن أشكال الأبنية الثّقافيّة في أوروبا من النّواحي الفلسفيّة واللّاهوتيّة والعلميّة والأدبيّة والفنيّة لعصر النّهضة.

2- من خلال كونه يُعيد تأكيد أهمّيّة مُكتسبات عصر النَّهضة وقيمه وكشوفاته، لا سيما دور العقل، والعلم، والنظرة الدينية المُتعقّلة، وعدم الانجراف خلف التّوجهات الأيديولوجيّة، واستخدام سلطة العقل كوسيلة أولى وحاسمة للتمييز ما بين الأساطير والخرافات والمزاعم من جهة، والمعارف العلميّة والعقليّة والدّينيّة والفنيّة والفلسفيّة من جهة ثانية.

وتَظهرُ أهمّيّة الكتاب البالغة في اللّغة العربيّة من جهة كوننا نفتقد كثيرًا إلى هذا النَّمط من المُؤلَّفات، التّي تحتوي على تحليل نقديّ وعلميّ وموضوعيّ لفترة من الفترات أو عصر من العصور، من خلال خلاصات مُكثَّفة لأهم الأفكار والفرضيات والطُّروحات، وهي تساعدنا على فهم الأصول والمقدمات لفكر التّنوير الأوروبي، ودوره في تقدم أنماط المعرفة في معظم المجالات التّخصصيّة، ومعرفة نقاط قوته وضعفه، وأهم نجاحاته وإخفاقاته.

يشكل لنا الكتاب دراسة مهمّة لإثراء تخصص الفلسفة الحديثة في أقسام الفلسفة في الجامعات العربيّة، ودراسة مهمة لإثراء تخصصات العلوم الإنسانية والاجتماعية، والبحث في الفرضيات السّابقة على تبلورها بالشكل الحالي، وكذلك دراسة مهمّة للبحث المقارن ما بين ظروف وأشكال النّهضة التّنويريّة الأوروبيّة، مع المحاولة المتعثّرة في النهضة العربيّة. كذلك يقدم لنا فكرة وافية عن أشكال التحول الثّقافيّ في مجتمعات أوروبا الغربيّة، من زاوية تحوّل “رؤية الإنسان الأوروبي إلى العالم” من النّظرة اللاّهوتيّة الصَّرفة إلى النّظرة الدّينيّة المُتعقلة أو النَّظرة اللّادينيّة (النّظرة العلميّة الصّرفة) أو النَّظرة الرّيبية المتشككة، وكذلك إبراز دور “الشّك المنهجيّ” و”النّقد الموضوعيّ” في تقدّم المعرفة. وكبح الدّور السّلبيّ للخرافة -في المستويين السّياسيّ والعلميّ- في تقييد حركة التَّقدم العلميّ والاجتماعيّ، وإظهار بعض الجوانب السّلبيّة على حياة الإنسان، خاصة من النّاحيتين النّفسيّة والاقتصاديّة التّي ترافقت مع تثوير لا مشروط للفكر وإطلاق قدرات العقل من عقالها. على سبيل المثال العسف والجور والإرهاب الّذي ترافق مع الثورة الفرنسيّة في بدايتها.

كما يُشكّل الكتاب بمجمله تجربة مهمّة للباحث العربيّ لكونه لا يقدم مُجرد معلومات جُمعت من هنا أو هناك، بل يبين للباحث العربيّ كيف يتم “إنتاج المعرفة”، وكيف يتم “بلورة الفرضيات والنّظريات”، وكيف يتم الانتقال من المرحلة السّابقة على “العلم” في تخصص ما إلى مرحلة تبلور “العلم” ذاته، من حيث جوانب بناء “الفروض” و”المنهج”، ويقدم الكتاب نماذج من بناء العلوم مثل علم النفس، وعلم الجمال. وعليه فإننا نقر بأهمّيّة الكتاب للجوانب التّخصصية المعنيّة في اللّغة العربيّة.  ويمكننا -نسبيًّا- جمع أهمّيّة الكتاب في المجال العام للثّقافة العربيّة، في محاولة الإجابة -الموضوعيّة- عن المسائل الرَّئيسيّة التَّالية:

– كيف تمّت عملية التّنوير في الثّقافة الأوروبيّة الحديثة؟

– ما أهم العقبات التّي واجهتها آنذاك؟

– ما أهم الأفكار والفرضيات التّي تمَّ تطويرها في مرحلة التّنوير؟

– من هم رجالات عصر التّنوير في التّخصصات المعرفيّة كافة؟

– كيف يمكن الاستفادة من هذه التّجربة في إنهاض ثقافتنا العربيّة؟

– ما هي- مقارنة بتجربة الأوروبيين- أسباب فشل مشروع التَّنوير والنّهضة العربيّة في مصر وبقية العالم العربي؟

– كيف تعاملت الثّقافة الأوروبيّة- آنذاك- مع المسألة الدّينيّة ومع الصّراع الطَّائفيّ، وما هو موقف رجالات التّنوير؟

– كيف يمكن الاستفادة من تجربة التّنوير الأوروبيّ، لتخليص المنطقة العربيّة من “طامة” الصّراع الطّائفيّ، والاقتتال الأهليّ الدّاميّ في معظم المجتمعات العربيّة؟

– ما الأولويات الواجب مراعاتها -وتوفرها- في الثّقافة العربيّة لبدء عملية التّنوير؟

وغيرها الكثير من النّقاط التّي يمكن للقارئ العربيّ المثقف أن يستفيد منها من خلال معالجة محتوى هذا الكتاب، فهو عمل جدير بكل اهتمام، ويستحق الاشتباك النقدي مع مادته، وننصح بقراءته بشكلٍ متأنّ ومتعمق.

* دكتوراه فلسفة في العلوم الإنسانية والاجتماعية من جامعة برلين، له العديد من المؤلفات العلمية والأدبية، باللغتين الألمانية والعربية.

المصدر: منتدى العلاقات العربية والدولية

التعليقات مغلقة.