الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

خصائص مقاربة محمد أركون للتراث: لماذا التراث الإسلامي وليس العربي؟

رمضان بن رمضان *

1 – في ماهيّة التّراث الإسلاميّ:

إن مشروعية السؤال المطروح في عنوان هذه الدراسة تنبع من كون عنوان الفصل فيه شذوذ عن العرف وخروج عن المألوف. فإذا كان محمد أركون ينحدر من ثقافة عربية إسلامية وإذا كانت مصادر بحوثه قد كتبت باللغة العربية، وإذا كان جميع الذين اهتموا مثله بالتراث قد اعتبروا أن الصفة الأولى لهذا التراث هي العربية والثانية هي الإسلامية، نذكر على سبيل المثال محمد عابد الجابري الذي يصف التراث بأنه تراث عربي إسلامي (1) ومنهم من ذهب إلى أبعد من ذلك فلم يعترف بالصفة الثانية (الصفة الإسلامية) مثل الطيب تزيني، والأمر واضح بالنسبة إليه من خلال عنوان كتابه ” مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط ” (2). فلماذا ينكر أركون على التراث صفته العربية ويصر على نعته بالتراث الإسلامي؟

للإجابة على هذا السؤال ينبغي الرجوع إلى مشروع أركون في قراءة التراث. إن هذا المشروع الشمولي ينزع إلى تقصي بواكير الظاهرة الدينية في المجال العربي أولا وكيفية تفاعلها مع الواقع. لا ننسى هنا أن الظاهرة الدينية اخترقت مجالات أخرى، إضافة إلى المجال العربي، نذكر هنا تركيا وإيران والبربر في شمال إفريقيا،…فأركون يعود إلى الأصل،  إلى اللحظة الأولى إلى ما يسميه ” التجربة التأسيسية ” وهنا يكمن تميزه عن غيره ممن أهتموا بالتراث، فمعظمهم انطلق من ” عصر التدوين ” أو حتى من بعد ” عصر التدوين “. إن أركون يعتبر أن الفترة الأولى التي شهدت انبثاق الوحي ينبغي أن تضاء وتفهم في كل أبعادها حتى تكون المنطلق الأساسي لفهم التراث وإعادة قراءته.  فلهذه الرؤية في تناول التراث بالبحث صلة قوية بمشروع آخر يسعى أركون إلى بلورته وهو” نقد العقل الإسلامي ” (3) وهو كل عقل لامسته الظاهرة الدينية – أي الإسلام- سواء كان عربيا أو غير عربي. لأن العامل الديني يلعب دورا هاما في مجتمعات عديدة ومختلفة جدا تتجاوز الوطن العربي وتشمل الهند وباكستان وأندونيسيا وإيران وغيرها، إذن فالظاهرة الدينية ومن ورائها التراث المرتبط بها تتجاوز الدائرة اللغوية العربية لتجد صياغاتها في لغات قومية أخرى.  فالتراث العربي هو إحدى التعبيرات عن الظاهرة الدينية – أي الإسلام – ولا يمكن أن يكون كل التراث الإسلامي بأي حال من الأحوال، فلو استنفدنا تحليل ما استطاع أن ينتجه العقل العربي في اللغة العربية داخل التجربة التاريخية للمجتمعات فإننا لن نستطيع أن نطلق حكما شاملا على نوعية إنتاج العقل الإسلامي وآلية اشتغاله وكيفية تحريكه لوعي الفرد والمجتمع.  يقول محمد أركون متحدثا عن الظاهرة الدينية وعن شموليتها: ” وإذا فنحن نهدف من خلال دراستنا النقدية التاريخية للعقل الإسلامي إلى الإمساك بالظاهرة الدينية في عموميتها الشاملة التي تتجاوز من حيث الاتساع الدائرة اللغوية والقومية الواحدة سواء أكانت عربية أم تركية أم إيرانية أم باكستانية أم غير ذلك. بل سوف نذهب إلى أبعد من ذلك ونقول إنه إذا ما أنجزنا دراسة للعقل الإسلامي على هذا النحو فسنكون أكثر قدرة على فهم العقل العربي ضمن مقياس أن نتجنب عندئذ كل الأحكام المسبقة الشائعة بخصوص العروبة والإسلام وضمن مقياس أن الفكر العربي لا يزال محكوما حتى هذه اللحظة بالمقولات الأساسية للفكر الإسلامي القروسطي “(4)

إن ما قاله أركون عن العقل الإسلامي ينطبق أيضا على التراث الإسلامي بل كلا الأمرين مترابطان فلا يمكننا أن نتحدث عن عقل ما إلا من خلال آثاره سواء منها المنطوقة أو المكتوبة ويتحدث أركون في نفس المحاضرة على ابن رشد (ت 595 ه/ 1198 م) مبينا علاقة الفكر باللغة يقول: ” وإذن فآبن رشد كان يتحدث آنذاك وهو محكوم بمقولات العقل الإسلامي لا العربي، لأنه لم تكن توجد آنذاك مقولات عربية محضة للمعرفة، فالمقولات التي كان يستخدمها هي مقولات إسلامية. إنها مقولات الشريعة المحددة من قبل القرآن وإذا فنحن هنا داخل أرضية العقل الإسلامي…حتى لوكان ابن رشد يتكلم بالعربية فالعربية هنا ليست إلا أداة للتعبير ولو أنه عبر باللغة التركية أو الفارسية هو مسلم لقال الشيء نفسه، ومن يطلع على محاجات المفكرين المسلمين من أتراك وإيرانيين باللغتين التركية والفارسية يكتشف أنهم يستخدمون المقولات نفسها التي استخدمها ابن رشد بالضبط وبالتالي فهذا يبرهن على أنها مقولات إسلامية المضمون عربية الصياغة ” (5). إن تشابه المضامين في تراثات الدول والأقاليم التي اعتنقت الإسلام حدا بأركون إلى الحديث عن تراث إسلامي عابر للثقافات ومقللا في الآن نفسه من دور اللغة التي تصاغ فيها الأفكار والرؤى لكأننا إزاء أولوية الفكر على اللغة وهو توجه اختاره أركون في تعاطيه مع مسائل التراث، في حين أن علاقة اللغة بالفكر إشكالية. فقد ذهب برغسون وديكارت وفاليري إلى الإقرار بوجود انفصال بين اللغة والفكر وأن الفكر أسبق من الناحية الزمنية عن اللغة، في حين ذهب غيرهم في انتقادهم لهذا التوجه من أمثال دي سوسير وميرلوبونتي وهاملتون وهيغل إلى أن العلاقة بين اللغة والفكر علاقة تلاحم وتلازم ولا يمكن الحديث عن أسبقية أحدهما عن الآخر، فهما ينبثقان في آن واحد. إن الاختيار المنهجي الذي تبناه أركون من شأنه أن يطمس الخصوصيات الثقافية لكل الشعوب التي لامستها الظاهرة الدينية – الإسلام تحديدا -، كما أن ما يطرحه يساعد على تغذية يوتوبيا الأمة الإسلامية الواحدة ذات القيم الروحية الجامعة، حيث يتم إهمال التاريخ واللغة في نحت المميزات الحضارية للشعوب ويقلل من الثراء الذي يمكن أن يغنمه الإسلام من تلك الثقافات.

2 – التّراث والتّراثات في المجال الإسلاميّ:

لقد قدم التراث الإسلامي نفسه في مرحلة تشكله بديلا عن التراث السابق له واعتبر نفسه يؤسس خصوصيته بعيدا عن سلفه ودون الارتباط به ورمى بذلك التراث العربي السابق للإسلام كليا في دائرة الجهل والفوضى والظلم والضلال والوثنية والقمع والتعسف أي بكلمة أخرى رمي به في ” ظلمات الجهل ” وفي هذا تجن على الحقيقة والتاريخ لأن الإسلام لا يمكنه أن ينقطع كلية عما سبقه حتى يتسنى له تأسيس اختلافه،  فالنص القرآني حافل بالإشارات التاريخية والعقائدية والأخلاقية التي تفند هذا الزعم التيولوجي، وهذا التصور المثالي والمتعالي. لقد حاول التراث الجديد المرتبط بظاهرة الوحي، طيلة عشرين عاما من النضال في مكة والمدينة، أن يرسخ نفسه داخل ساحة اجتماعية وثقافية معادية ورافضة له. هذه القوى المعادية خاض ضدها حربا ضروسا على كل المستويات الرمزية والدينية والتقديسية ثم الاجتماعية والسياسية والعسكرية وحتى الاقتصادية ثم أصبح بعدئذ التراث الإسلامي. إن التراث الإسلامي في صيغة المفرد هو تراث يستند إلى الإسلام بمعناه المتعالي اللا تاريخي، لأنه يمثل التعبير المستقيم – الأرثوذكسي – الوحيد عن التراث المثالي الذي تلقته الأمة المثالية. يقول أركون متحدثا عن هذا التراث المتعالي: ” إن التراث المتعالي الأكبر إذن ليس إلا تجسيدا لدين الحق في التاريخ، إنه قوة لتقديس الزمكان وتنزيههما. هذا الزمكان الذي تتجلى فيه حياة الأمة. إن تصورا كهذا يفسر لنا السبب في أن كل عضو من أعضاء الأمة يشعر بنفسه معاصرا بشكل مباشر وفي آن واحد لكل أعضائها السابقين والأحياء واللاحقين. هذا التصور يعطي الأولوية للدينامو الروحي الخاص بالتراث، هذا الدينامو هو الذي يغذي شعور الأمة بهويتها ويحرك آمال المؤمنين ويخلع غاية آخروية وأنطولوجية على تصرفاتهم التاريخية في الوقت الذي يرفض فيه أن يأخذ بعين الاعتبار تاريخية (6) كل هذه المعطيات ” (7). يتولد عن هذا التصور رفض إمكانية وجود تراثات متعددة، حتى وإن وجدت عبر التاريخ تراثات متنوعة، لأن كل واحد منها محكوم بعقلية دوغمائية تقوم على النفي والإقصاء وتحتكر لنفسها التراث الصحيح،  مدعية امتلاكها له دون غيرها فهي المخولة وحدها التحدث عن التراث المثالي، رغم أن الواقع الاجتماعي والثقافي لشبه الجزيرة العربية والبلدان المجاورة، ومنذ موت النبي يكشف عن تاريخية كل هذه الفرق الإسلامية – السنة، الشيعة،  الخوارج،…ويسجل الصراعات الدموية العنيفة التي دارت بينها وكذلك المناقشات الخصبة أيضا. إن كل منظومة معرفية لكل فرقة من هذه الفرق ظلت منغلقة وظلت تصوراتها لا تاريخية، وهنا يطرح أركون إعادة تحديد الإسلام بصفته عملية اجتماعية وتاريخية من جملة عمليات وسيرورات أخرى.

صحيح أن هذه العملية بالذات قد أدت إلى تشكيل تراث موصوف بأنه إسلامي ولكن ينبغي أن لا ننسى أنها كانت واقعة في تنافس دائم مع عمليات أخرى وخطوط أخرى (8) فالمقاربة التاريخية هي التي تكشف أن الإسلام كان نتيجة سيرورة اجتماعية وتاريخية وهي التي تمكننا من التعرف على المشاكل التي يطمسها المفهوم المتعالي للتراث الإسلامي وأبرزها عملية الانتقال من الثقافة الشفاهية – المتوحشة – إلى الثقافة المكتوبة – العالمة – وتمكننا أيضا من الانتقال من مفهوم التراث الإسلامي بصيغة المفرد إلى مفهوم التراثات في المجال الإسلامي بصيغة الجمع. فالتراثات هي الأقرب إلى الحقيقة وإلى التاريخ وهي تعطي للإسلام بعده الاجتماعي والتاريخي ومن خلالها تتمظهر مستويات الوعي الديني عبر التاريخ ويؤكد أركون على البعد التاريخي للإسلام فيرى أن الإسلام لا يكتمل أبدا بل ينبغي إعادة تحديده وتعريفه داخل كل سياق اجتماعي- ثقافي وفي كل مرحلة تاريخية معينة لكن هذا لا يمنع من أن نقول إن للإسلام عناصر تكوينية ثابتة هي التالية : النص القرآني، مجموعات نصوص الحديث النبوي والتشريع العديدة والمختلفة، الفرائض الشرعية الخمس والشعائر اللازمة لتأديتها، الدينامو الروحي المشترك لدى كل المؤمنين والذي يشكل خاصية مميزة للترا ث 9 (9) والمقصود بالديناموL ‘ ethos   القوة الحيوية المحركة،  في الواقع إن هذه الكلمة تعني مجموعة التصورات الأخلاقية والروحية التي تشكل القوة الداخلية لوعي فئة اجتماعية معينة. إن تثبيت هذه العناصر وترسيخها قد تطلب وقتا طويلا إلى حد ما وهذا ما يدعوه أركون بالسيرورة  le processus   الاجتماعية والتاريخية  لتشكل التراث. هذه الصورة التي يقدمها أركون عن تشكيل التراث الإسلامي تغاير تماما الصورة اللا تاريخية الشائعة عموما لدى المسلمين فهي صورة تاريخية أركيولوجية لأنها تحفر في  الطبقات المترسبة من التراث لتتبع الأسباب والخلفيات الكامنة وراء كل مرحلة من مراحل تشكل التراث. فانطلاقا مما رأيناه يمكننا أن نستنتج المعادلة التالية: العناصر التكوينية الثابتة للإسلام وعددها أربعة + سياق اجتماعي = تراث إسلامي.  وهكذا نلاحظ أنه كلما تغير السياق الاجتماعي الثقافي تغير تبعا له التراث المتولد عنه وما على التاريخية باعتبارها منهجا في البحث إلا الكشف على أسباب هذا التغيير وعلى أبعاده وكذلك على تأثير هذا التغيير في التراث نفسه.

3 – مفهوم التّراث الإسلامي الكلّي La tradition Islamique exhaustive :

رأينا في العنصر السابق أن التراثات متعددة في المجال الإسلامي وهي وليدة السياقات الاجتماعية والثقافية وفي أحيان كثيرة نتاج اختلافات تيولوجية أو صراعات إيديولوجية وأركون بقدر ما يقر تنوعها فإنه يرفض قراءتها كل واحدة على حدة ويرى أن قراءة التراث الإسلامي لا بد أن يسبقها عمل جبار يتمثل في استرجاع التراث الإسلامي الكلي،  فما المقصود بالتراث الإسلامي الكلي؟ إنه التراث السني والتراث الشيعي والتراث الخارجي والتراث المعتزلي وكل تفرعاتها العديدة  ينضاف إليها التراث العربي السابق على الإسلام وتراث الإسلام الشعبي والشفوي الذي يسود الإقليم البعيدة والطبقات الفقيرة والمتهم في أغلب الأحيان بالزندقة من قبل الإسلام الرسمي المرتكز على الكتابة والمستند إلى سلطة الدولة المركزية. إن هذا المفهوم – التراث الإسلامي الكلي – خاص بأركون وهو دعامة أساسية في تصوره للتراث وهوفي الآن نفسه محاولة لتجاوز مفهوم التراث المبتور والباتر  La tradition mutilée et mutilante  الخاص بكل فئة منعزلة ومنكفئة على حقيقتها المطلقة التي تحذف ما عداها. وإزاء هذه الوضعية يطرح أركون ثلاث مهام، على الفكر الإسلامي الاضطلاع بها حتى يمتلك القدرة على الإجابة عن الأسئلة المحرجة وتجاوز التحديات المطروحة عليه وهي أولا إعادة قراءة القرآن،  ثانيا استرجاع التراث الإسلامي الكلي،  ثالثا النضال ضد التراثات المبتورة والباترة. يقول أركون: ” إن إعادة قراءة القرآن هي فعلا عودة لتحمل المسؤولية الفكرية وإذا أمكن الوجودية ليس فقط للنص الموحى ولكن لكلية الحالات والإنجازات التاريخية المرتبطة بعنوان ما هو الكلام التأسيسي ( كلام الله كما يقول المسلمون) هذه الكلية تظل بالتأكيد المثال الذي يسعى إليه المؤرخ دون أن يبلغه،  ولكن بالإبقاء على ضرورة هذا المثال نساهم في توجيه البحث نحو معرفة التراث الكلي وفي الآن نفسه نسحب الثقة discréditer  من التراث المبتور والباتر “10)  ويعتبر أركون أن سحب الثقة هذا من شأنه أن يمكن التاريخ من الانفلات من الاستعمال الإيديولوجي الذي نجده داخل كل سياج ثقافي، لأن التراث يمارس على نفسه أثناء تطوره عملية انتقاء وحذف اضطرارية حسب حاجيات المجموعة وإغراءات اللحظة فهو يتقبل العناصر الجديدة أو يرفضها ويضخم الإنجازات السابقة أو يقلصها وهو يؤيد السلطة القائمة أو يعارضها الخ…وهكذا تنعكس هذه العملية على التراث فيتشظى الإسلام إلى تراثات سنية وشيعية وخارجية واعتزالية…وهذه التراثات تتفرع عنها تراثات أخرى عديدة، معادية لبعضها البعض. لذلك سيعمد أركون إلى محاولة لملمة الوعي الإسلامي لتخطي هذه الانقسامات. (11) نرى اليوم مثلا أن التراث السني والتراث الشيعي يعيشان منفصلين وكل منهما يجهل الآخر بل يتصارعان بنفس البراهين التي تعود إلى القرون الوسطى ويأسف أركون لغياب حركة مسكونية في الإسلام كالتي وجدت في المسيحية هدفها التقريب بين المذاهب المختلفة،  لا يرمي أركون من وراء هذه الحركة إنجاز مصالحة عاطفية تزيد في تقوية المناخ الإيديولوجي والرومنسي للفكر الإسلامي المعاصر.

إن بلوغ هذا الهدف يعني التأمل في التراث الإسلامي، فنخترق الممنوعات وننتهك المحرمات السائدة أمس واليوم ونضرب عرض الحائط بالرقابة الاجتماعية التي تريد أن تبقي في دائرة المستحيل التفكير فيه l’Impensable  كل الأسئلة التي كانت قد طرحت في المرحلة الأولى للإسلام ثم أغلق عليها بالرتاج وذلك منذ أن انتصرت الأرثوذكسية الرسمية المستندة إلى النصوص الكلاسيكية. يبدو للبعض أن التأمل في التراث الإسلامي على هذا النحو من شأنه أن تكون له تداعيات خطيرة على التوازن النفسي للجماهير وعلى الأنظمة السياسية أيضا. فالجماهير المطمئنة إلى تصور معين للتراث قد تشعر بالخواء والرعب إذا ما خلخل هذا التصور. يرد أركون على هذا التخوف المبالغ فيه بأنه لا داعي للقلق على مصير التراث وبالتالي على تأثيراته فهو سيستمر في البقاء مهما يكن النقد الذي يتعرض له قويا وجذريا، وللدفاع عن موقفه يستشهد أركون برأي إيف كونغار Yves Congar في التراث من كتابه ” التراث والتراثات ” والصادر في جزئين: الجزء الأول،  محاولة تاريخية،  الجزء الثاني: محاولة تيولوجية.  يقول كونغار: ” ينقل لنا التراث أكثر من مجرد الأفكار القابلة للتشكل المنطقي،  إنه يجسد حياة كاملة تشمل الفكر والعواطف والعقائد والمطامح والممارسات والأعمال….ويمكن للطاقة الفردية والجماعية معينة أن تستنفده ولذا فإنه يتضمن التواصل الروحي للنفوس التي تحس وتفكر وترد في ظل وحدة المثال الوطني أو الديني نفسه وهولهذا السبب أيضا شرط من شروط التقدم ضمن مقياس أنه يتيح لبعض سبائك الحقيقة التي لا يمكن أن تختزل إلى نقود مفرقة تماما،  فالمرور من حالة المجهول المعيش إلى حالة المعروف الصريح، ذلك بما أن التراث هو مبدأ الوحدة والاستمرارية والخصوبة،  فإنه يشكل في آن معا شيئا أوليا وإستباقيا وختاميا وبالتالي فهو يسبق كل توليفة تكوينية ويستمر في البقاء بعد كل تحليل نقدي استدلالي أو فكري عميق” الجزء الثاني، ص 122 – 123 (12).

4 – في مقاربة التّراث:

إن العودة إلى النصوص التأسيسية كما ذكرنا سابقا، اقتضى من أركون الاعتماد على المقاربة السيميائية أو علم الدلالات فهو المدخل المناسب للاستعادة النقدية التي تتخذ مسافة بين النواة الأولية المقروءة والنواة الثانية التي أنتجها التراث في آن معا. هذا العلم يختلف اختلافا جذريا عن التصور التقليدي لفقه اللغة الذي يصبح التراث بمقتضاه جسما مكتملا ومتماسكا ويترسخ بدءا من اللحظة التي يتوصل فيها أعضاء جماعة معينة – مثلا أعضاء النواة الأولى أي الأشخاص المدعوون مؤمنون الذين التفوا حول النبي محمد صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة – إلى إقامة إطار مشترك من الإدراك un cadre de représentation et de perception  بواسطة حكايات التأسيس الواردة في القصص القرآني.  في حين نجد من الناحية السيميائية- الدلالية أن كل تراث يمارس عمله ووظائفيته على هيئة حكاية تأسيسية تغتني وتثرى باستمرار فيما بعد عن طريق تجارب الأمة ذات الدلالة(13). إن وحدانية الحقيقة المطلقة، المتولدة عن التصور التقليدي لفقه اللغة والمولدة لأحادية المعنى ليستا هما الشيء نفسه في القرآن، فهما تغذيان الحنين إلى المطلق الواحد وترسخان النزعة التوحيدية والعدالة والخلود بصفتها يوتوبيا une Utopie   محركة وتعبوية وأما داخل الأنظمة التيولوجية فقد أصبحتا توجهان نظاما صارما من الإيمان / والإيمان والعقائد / واللا عقائد، فقد أصبحتا ثابتتين وساكنتين في حين أنهما كانتا في فترة نزول القرآن طازجتين ومترجرجتين.  ويرى أركون أن المفاهيم والتصورات التيولوجية التي اندفع إلى بلورتها علماء الكلام طيلة قرون والتي يواصل الاندفاع نحوها خلفهم المباشرون الإيديولوجيون قد انتهت إلى الكشف عن فرق رئيسي بين الحدث القرآني le fait coranique    والحدث الإسلامي le fait islamique  فالحدث القرآني هو نداء موجه إلى الضمير البشري والحدث الإسلامي هو إحدى التحققات الممكنة للحدث القرآني،  فمن خلال تجربة سياسية واقتصادية وأخلاقية واجتماعية عاشتها الجزيرة العربية في القرن السابع الميلادي،  تم الانتقال من الحدث القرآني إلى الحدث الإسلامي الذي هو إسقاط  تاريخي ملموس قد تم داخل اللغة العربية والدعامات المحتملة للوحي les supports contingents de la révélation  تدريجيا. وتحت الضغط المزدوج للحاجيات التاريخية ولمختلف تيارات الفكر. اغتصب الحدث الإسلامي معنى الحدث القرآني وقيمته بواسطة ترقية اعتباطية أو إيديولوجية من المحايث l’Immanent  إلى المتعالي le Transcendant   ومن الما فوق تاريخي إلى التاريخي  والوجودي  l’ existentiel  (14) ونلاحظ مما تقدم أنه من خلال الانتقال من القرآن إلى الأنظمة التيولوجية أومن الحدث القرآني إلى الحدث الإسلامي يتوجه التراث إلى أكبر عدد ممكن من الناس ويمارس فعله، وأثره  يكون طبقا للأنموذج الثاني أي للتصورات التيولوجية وبصفة أشمل للحدث الإسلامي.  فالنموذج الثاني وباسم الأرثوذكسية يرفض تعددية المعنى والدلالات المتجلية في التفاسير والمدارس الكلامية والفقهية المختلفة ويرفض أيضا إمكانيات المعنى المحتملة التي لم تحين بواسطة قراءات جديدة للكتابات المقدسة ولقد بين أركون في كتابه ” قراءات في القرآن ” كيف أن الدراسة الحديثة للمجاز والأسطورة تتيح لنا تقديم رؤية جديدة مخالفة لما خلفه لنا التفسير الكلاسيكي.

أما المقاربة التاريخية السوسيولوجية التي اعتمدها أركون، فإنها كانت تطمح إلى طرح إشكاليات تشترك فيها كل التراثات المبتورة وهي تحاول تناول التراث في شموليته بالنقد التاريخي والسوسيولوجي. فتاريخيا نجد أن الأطر الاجتماعية الثقافية السائدة والخاصة بالمعرفة خلال القرنين الأول والثاني للهجرة كان يغلب عليها النقل الشفهي على النقل الكتابي وكان بعد الغريب الساحر العجيب Le merveilleux  أو البعد الأسطوري والرمزي والمجازي يتغلب آنذاك على المقولات العقلانية والمنهجيات المنطقية في تشكيل المخيال الاجتماعي وفي طريقة أدائه لوظيفته وممارسته لعمله،  ومن المعروف أن هذه العمليات الأخيرة أي المقولات العقلانية لن تتطور إلا بعد ” اختراع الورق ” وانتشار الخط العربي وتحسنه ثم دخول العقلانية المنطقية أو المركزية اليونانية إلى ساحة الثقافة العربية الإسلامية.  ينبغي أن تستعاد دراسة كل التاريخ الثقافي للمجال العربي والإسلامي ضمن هذا المنظور المزدوج للتنافس ببن العاملين الشفهي والكتابي،  الأسطوري والعقلاني،  الغريب الساحر والمحسوس الواقعي،  بين المقدس والدنيوي،  فتاريخيا نجد أن التراث بصفته نسيجا نصيا أو شكلا ومضمونا يحمل علامات هذه المنافسة وآثارها وهذا ما يجعل لزاما اليوم إعادة تقييم الشكل والمعنى لأن كل المفاهيم الأساسية المصطلح عليها في المعيش الضمني للمؤمنين كالمقدس والعجيب والأسطورة والعامل الشفهي أو الكتابي، المخيال العقلاني هي الآن في طور الانتقال من حالة المجهول المعيش إلى حالة المعلوم الصريح كما يقول إيف كونغار،  بفضل الاكتشافات الجديدة لعلوم الإنسان.  إن التاريخية والسوسيولوجيا المتصلة بالمعطيات الثقافية والممارسات العملية التي يندمج الكتاب المقدس بواسطتها داخل الجسد الاجتماعي ويمارس دوره كفيلتان بتخطي التراثات المبتورة والباترة وتمكين الفكر الإسلامي من بلورة مفهوم التراث الإسلامي الكلي شريطة أن يدخل في رؤيته للتاريخ، ليس فقط دار الإسلام، بل كل الفضاء الجغرافي والسياسي حيث وجد الإسلام في علاقة تأثير ومنافسة.

******

الهوامش والمراجع:

1 – محمد عابد الجابري،  نحن والتراث،  دار الطليعة،  بيروت، ط 1، 1980، ص 69.

2 – الطيب تيزيني، مشروع رؤية جديدة للفكر العربي في العصر الوسيط،  دار دمشق للطباعة والنشر، دمشق 1971.

3 – Mohamed  Arkoun,  critique de la raison islamique,  ed maison neuve et larose,  Paris, 1984.

4 – محمد أركون،  ” الإسلام والحداثة ” مجلة مواقف، بيروت، العدد 59/ 60، 1989، ص ص 24- 25.

5 – نفس المرجع ص 29.

6 – المقصود بالتاريخية هو الأصل التاريخي للتصرفات والمعطيات والحوادث التي تقدم وكأنها تتجاوز كل زمان ومكان وتستعصي على التاريخ ولا يستطيع عقل المؤمن التقليدي أن يستوعب تاريخية الأحداث التأسيسية والشخصيات الكبرى ويشعر نحوها برغبة التقديس وبالتالي لا يستطيع أن يفهم أنها مشروطة بالتاريخ أو بلحظة محددة من لحظات التاريخ وما قلناه عن التاريخية ينطبق على معنى المخيال l’ imaginaire  أيضا.

7  – محمد أركون ، الفكر الإسلامي قراءة علمية،  مركز الإنماء القومي،  بيروت، ط 1، 1987، ص 20.

8 – لتوضيح هذه الفكرة الهامة عند محمد أركون يمكن الرجوع إلى الكتاب التالي : Lucien Goldman ‘ Marxisme et sciences humaines,  ed Gallimard,  Paris, 1970, pp, 121- 130.

9 – محمد أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية،  ص ص 20 – 21.

10-  Mohammed Arkoun,  Essais sur la pensée islamique,  ed MaisonNeuve et Larose, Paris,1977,p 310.

11 – لتوضيح هذه النقطة أكثر يمكن الرجوع إلى البحث القيم لمحمد أركون: ” نحوإعادة توحيد الوعي العربي الإسلامي  ” ضمن كتابه،  تاريخية الفكر العربي الإسلامي،  منشورات مركز الإنماء القومي،  بيروت، 1986، ط1، ص 143.

12 – محمد أركون، الفكر الإسلامي قراءة علمية، ص ص 31- 32.

13 – نفس المرجع، ص 34.

14 –312 Mohamed arkoun,  Essais sur la pensée islamique,  op cit , pp 311.

* كاتب وباحث أكاديمي تونسي

المصدر: أوان

التعليقات مغلقة.