الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الفاسدون يتزعّمون الحرب على الفساد

الحبيب الأسود *

الدول الغربية تفاخر بأنها تمارس أدق معايير الحوكمة، حكوماتها لا تسرق شعوبها ولكنها تسرق ثروات شعوب العالم الثالث والمستعمرات السابقة.

منذ سنوات، تراجع الحديث عن حقوق الإنسان، وانتشر بدلا عنه شعار مقاومة الفساد الذي تحول إلى حرفة تحقق لأصحابها الكسب الوفير، اليوم يمكن الحديث عن أيديولوجيا جديدة دخلت قواميس أغلب دول العالم وهي الحرب على الفساد، وأطرف ما فيها أن أبرز المستفيدين منها هم الفاسدون أنفسهم ممن يمتلكون القدرة على التلوّن واستغلال الفرص وتغيير مواقعهم حسب الظروف.

الفساد عموما هو الابن الذي تحنو عليه السلطة وتلعنه في نفس الوقت منذ أن وجدت أنظمة حكم على الأرض، كل الحضارات القديمة عرفته، وكل الديانات ندّدت به، وطالما هناك صاحب سلطة وصاحب حاجة فإنها ستبقى قائمة ولو بأشكال مبتكرة، فالموضوع لا يتعلق فقط بالفساد التقليدي وهو تقديم خدمات مقابل رشوة، أو تلاعب بالصفقات أو نهب للمال العام أو التهرب الجبائي وغيرها، وإنما بات يتجاوزها إلى فساد ديمقراطي مدعوم من القوى الكبرى وخاصة الغربية منها، وهو كيف تحصل على مال وفير لخدمة مشروع تحاول إقناع نفسك بأنه مفيد لقومك وهو في الأصل لا يفيد إلا مصالح من أعطوك الصك.

ما حصل خلال الربيع العربي مثلا من توزيع لأموال طائلة من ثروات شعوب ودول بعينها على شخصيات تم تقديمها على أنها عنوان الحرية والديمقراطية، أو أنها تمثل الإسلام المعتدل، هل يمكن اعتباره فسادا؟ وهل يمكن للشعوب صاحبة تلك الأموال أن تتّهم مسؤوليها بالفساد؟ وهل يحق للشعوب التي حصل بعض أبنائها على المال أن تحقق في الأمر من باب مقاومة الفساد إن لم نقل من باب الخيانة العظمى؟

ما معنى أن تحصل حركات وأحزاب وشخصيات من هذا البلد أو ذاك على تمويلات من جهات خارجية للتمرد على نظام الحكم والإطاحة به، وعندما يتحقق الهدف تحصل على أموال أخرى للصرف على مشاريعها السياسية وحملاتها الانتخابية، ثم تخرج على الناس مدّعية أنها ضد الفساد؟ كيف يمكن أن يقتنع بشعاراتها موظف بسيط يحصل على بعض الرشاوى في إطار ما يسمّى بالفساد الصغير لتيسير أموره الحياتية؟

بريد هيلاري كلينتون تحدث عن مبالغ ضخمة دفعت للناشطين من أجل تأجيج الاحتجاجات في دول ما سمي بالربيع العربي، كلينتون ذاتها لم تخرج من المولد بلا حمّص، بريدها يكشف كيف طلبت من القطريين تخصيص ميزانية لدعم الثورات تصرف من خلال صندوقها الذي بقي مفتوحا على الدوام لجمع التبرعات.

كما أورد نماذج عن السخاء القطري في تمويل الانتفاضات الشعبية أو التحريض عليها، مثلا هناك مبلغ بمئة مليون دولار تم تخصيصه لتأسيس شبكة إعلامية إخوانية تشمل قناة فضائية إخبارية عالمية وصحيفة مستقلة يومية.

رئيس المجلس الانتقالي الليبي مصطفى عبدالجليل وأعضاء الوفد الليبي الذين حلوا بالدوحة بعد اندلاع أحداث فبراير 2011، حصل كل واحد منهم على مئة ألف دولار أميركي، وفق بريد كلينتون، عبدالجليل اعترف بذلك، وقال إن القطريين أبلغوه بأن ذلك يعتبر جزءا من تقاليدهم الدبلوماسية، لكن أبواق قطر والإخوان التي تتحدث عن فساد الأنظمة الأخرى لا تتحدث عن ذلك الأسلوب العبثي في إهدار المال العام.

الدول الغربية تفاخر بأنها تمارس أدق معايير الحوكمة، حكوماتها لا تسرق شعوبها ولكنها تسرق ثروات شعوب العالم الثالث والمستعمرات السابقة، لا أحد يستطيع مثلا أن يكشف عن حجم النهب الذي تعرضت له دول كالعراق أو ليبيا، وعن الأموال الضخمة التي ذهبت إلى جيوب كبار المسؤولين في دولة كالولايات المتحدة مثلا، وحتى عندما يتعرض شخص مثل الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي للمساءلة، فليس لأنه حصل على أموال من القذافي، ولكن لأنه استغلها في نشاط سياسي داخل بلاده، ولأنه حاول أن ينافس على الرئاسة مرة أخرى.

عضو المجلس الأعلى لمكافحة الفساد في العراق، سعيد ياسين موسى، قال إن حجم الأموال المسروقة من خزينة العراق منذ عام 2006 يتجاوز 360 مليار دولار عن طريق التباطؤ والتلكؤ وعدم تنفيذ أكثر من 10 آلاف عقد استثماري، مثل هذا الهدر لم يحدث في تاريخ العراق على امتداد مئة عام، بل بالعكس كانت الأنظمة المتتالية منذ العهد الملكي حازمة وحاسمة في موضوع الفساد إلى أن جاء الاحتلال الأميركي بكبار اللصوص والمحتالين من شوارع لندن وطهران ودمشق وغيرها من عواصم العالم ليفتح أمامها المجال فسيحا لنهب الثروة والمقدرات، وليخرجوا بين الحين والآخر معلنين الحرب على الفساد.

رغم حرفية لصوص العراق إلا أن لصوص ليبيا يبدون أكثر جشعا. محافظ المصرف المركزي الصديق الكبير قال منذ أيام إن إجمالي الإنفاق خلال الفترة 2007 – 2020، بلغ أكثر من 600 مليار دينار، أي ما يتجاوز 450 مليون دولار دون تحديد حجم الفساد والهدر الذي اعترى تلك المصروفات، لكن الثابت أن ما لا يقل عن 400 مليار دولار تعرضت للهدر بعد العام 2011 دون بناء حجر على حجر أو رصف طريق أو بناء حي سكني.

ربما لذلك قال غسان سلامة، المبعوث الأممي المستقيل، إن في ليبيا طبقة سياسية لديها مستوى عال من الفساد ومن التقاتل على “الكيكة”، وأنها لا تهتم بمواطنيها التعساء الفقراء في بلد غني، إن الكثيرين متمسكون بمناصبهم لأنها تسمح لهم بنهب الثروة، وإنهم يستولون على المال العام ثم يهرّبونه إلى الخارج، وأن الخلاف الحقيقي بين الليبيين هو على الثروة وليس تنازعا بين الأيديولوجيات، لكن هؤلاء المسؤولين هم من يرفعون عقيرتهم بشعارات الحرب على الفساد.

أما تونس البلد الصغير متواضع الإمكانيات، فقد حط عليها جراد الفساد بعد 2011 كما لم يحصل سابقا، رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد المقال، شوقي الطبيب، قال إن خسائر بلاده سنويا من الفساد تبلغ نحو 3 مليارات دولار، مشيرا إلى أن تراكم الخسائر في العديد من المؤسسات يضعها على مشارف الإفلاس، الطبيب أقيل مؤخرا من منصبه وقال عنه رئيس الحكومة السابق، إلياس الفخفاخ، إنه جعل من الهيئة موازية للدولة واغتصبها وقام بعمليات ابتزاز ورفعت ضده العديد من القضايا.

المصيبة في تونس أن النائب العام القطري علي بن فطيس المري، الذي سبق للإعلام الفرنسي أن كشف فساده، يزورها بين الحين والآخر ليعلن أنه مكلف بملف أموالها المنهوبة في الخارج، لكن فساد حكام قطر الذي دمّر الدول ومزق المجتمعات ونشر الإرهاب ولوث مختلف مجالات الحياة بما في ذلك الرياضة والإعلام، لا يعتبر فسادا لدى الثوريين الجدد باعتبارهم مستفيدين منه، أما فساد أردوغان فهو تمهيد لتشكيل أسرة الحكم في خلافته الوهمية.

حتى الفساد فيه درجات وطبقات وله أيديولوجيات، وقد أثبتت الأيام والأحداث أن مقاومته أكذوبة كبرى لا يتم اعتمادها إلا لتصفية الحسابات، وأن أبرز من يرفعون أصواتهم للتنديد به هم من المستفيدين منه، أو ممن لم تسمح لهم الظروف بأن يمارسوه على نطاق واسع.

* كاتب تونسي

المصدر: العرب

التعليقات مغلقة.