الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

في ذكـرى مولـد الـرسول العـربي

الدكتور جمال الأتاسي *

((كانـت جميـع الأديـان ذات رسـالـة تقـدميـة، ولكـن الـرجعيــة التي أرادت احتكـار خيـرات الأرض لصالحهـا وحـدهـا أقـدمت على جريمـة سـتر مطـامعهـا بالـدين.. ولكي تـوقف تيـار التقـدم)) – ((جمال عبد الناصر)) –

     إذا كان لأمتنـا أن تفتخـر بالقـادة الخـالـدين من أبنـائهـا الـذين ساهموا في صنـع تاريخهـا و أمجادهـا وأن تحتفـل بذكـراهـم، فـإن محمد بن عبد الله، الـرسول العـربي eهـو أول من يجـدر بهـا أن تفتخـر بـه وتحتفـل بذكـراه، مـع شعـوب العـالـم الإسـلامي .

     لقـد كان مولـد محمد بن عبد الله العـربي مـن قـريـش، في مكـة حـاضـرة شبـه الجـزيـرة العـربيـة قبـل 1394 عـامـاً هجرياً، فاتحـة عهـد جديـد ومنعطف تاريخي كبيـر في حيـاة العـرب، كان له أثـره الكبير على كثير من شعـوب العالـم وعلى الإنسانيـة بأسرهـا.

     لقد استطـاع بشخصيتـه الفـذة، وعبقـريتـه، وصلابتـه وقـوة إرادتـه، وبالـدعـوة التي نشرهــا بين الناس، أن يُحدث تغييـراً عميقـاً شامـلاً في حيـاة العـرب من النـواحي الفكريـة والسياسية والاجتماعيـة فتغيـروا وغيـروا واقعهــم، وأثـروا في غيـرهــم مـن الشعـــوب.

     لقـد توفـرت فيـه كل الصفـات التي تـؤهـل صاحبهــا لتحمـل عـبء الـدعــوة، ونشـر المبـادئ فكان صـادقاً وأمينــاً، يتحـلى بالشجـاعــة، والصبـر، والصـلابــة، وقــوة الحُجـة والقُـدرة على الإقنــاع والتـأثيــر في الآخـريــن.

     بـدأ دعـوتـه سـراً وانتقى لهـا أفضـل العنـاصـر وأكفـأهــا، مـن الـرجــال والنسـاء.

     وجهـر بالـدعـوة وغيـر عـابئ بالنتـائـج الـتي تتـرتب على إعـلانهـا، فـواجـه الأذى، والتشهيـر والتكـذيب والاتهـام بالجنـون، وواجـه المقـاطعـة والحصـار والجـوع، والنـفي والهجـرة، فلـم يـؤثــر ذلك كله في عزيمتـه، فلـم يتراجـع، ولـم ييـأس…. صبـرَ وتجلد واستمـر يدعـو ويناضل، كما واجـه الإغـراء، والتغـييب، مـن مـال وزعــامـة تعّـرضـهُ قـريش بــلا حــدود، فيـرفض بــلا تـردد، ويـردد بحـزم ((والله.. لـو وضعوا الشمس في يميني والقمـر في يساري على أن أتـرك هـذا الأمـر، ما تركتـه حتى يُظهــره الله أو أهـلك دونــه)).

     فكان بذلك نموذجـاً للإنسان الثـائـر والمناضل، من حيث الإيمـان بالمبدأ وعمـق الالتـزام والثبـات والصـلابـة النضاليـة، والبعـد عـن الأنانيـة والانتهـاز الـرخيص.. فكـان طبيعيـاً أن يـثـق بـه النـاس وأن يلتفـوا حـولـه، وأن تنتصـر مبــادئــه.

     وكانت دعـوتــه ثــورة شـاملـة، في عـالـم الأديان والعقـائد؛ وفي عـالـم الحيـاة، كانت ثــورة على الجهـل والجـاهليـة، والعقـائد المختلفة من شرك ووثنيـة وعبـادة أصنـام، ومن خرافـات وأساطير وعـرافـة وتنجيـم، ودعــوة إلى التـوحيد والسمـو والمُثـل العليـا لا تُنكر ما سبقهـا من أديان وعقـائد ولا تتنكر لهـا، بل تصحح ما شابهـا من مفاهيـم خاطئـة، وتُكملهـا ((إنما بعثت لأتمـم مكارم الأخـلاق)).

     دعـوة تستند إلى حريـة العقيـدة والفكـر، وتبتعـد عن الإكـراه والـتعصب لا ((إكـراه في الدين…. أفـأنت تُـكـره النـاس حتى يكـونــوا مؤمنين؟.. إنمـا أنت مُذكـر، لست عليهـم بمسيطــر)).

     دعـوة تدعـو إلى العلـم وتجعلـه فـريضة على الـرجل والمـرأة، وتحـث على طلبـه مـن المهـد إلى اللحـد، والسعي لتحصيلـه ولـو في أقـاصي الأرض، وتجعلـه أسمى مـن العبـادة، وتدعـو إلى التفكيـر والتـأمل في الكـون والطبيعـة، والعمـل لتسخيرهـا لـصالـح الإنسان، وإلى الالتـزام بالسنن الكـونيـة والقـوانيـن الطبيعيـة وتدعـو إلى العمـل وتجعلـه مصـداق الإيمــان ودليـلــه.

     لقـد دعـا الرسول العربي إلى كل ذلك، كما دعـا إلى المساواة والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، فاعتبـر النـاس سواسيـة كأسنـان المشط… وهـاجــم التـرف والمُترفيـن، ووقـف إلى جـانب الفقـراء والكادحين والأرقـاء، ينـاضل معهـم وبهـم ضد المستغلين والمستبـدين من زعمـاء قـريش وأغنيائهـا وبينهـم بعض أعمـامـه، وكان عـداؤهـم لـه أنـه يريـد أن يساوى بهـم عبيدهــم وممـاليكهـــم.

     وحـارب القبليـة والعشائـريـة والعصبيـة، ووحـد العـرب في جزيرتهـم وجعلهــم قــوة موحــدة، ذات رسـالة انسانيـة وهيـأهـم للنضال ضد احتــلال الفـرس والـروم وتحريـر باقي الأراضي العـربيـة في الشـام والعــراق ومصـر.

     ولـم يوجه دعـوته إلى قـومه فحسب، بل كانت دعـوة إنسانية موجهة إلى الأمم الأخرى ابتعدت عن الانغـلاق والتعصب القـومي والفكـري، كما حـذرت من التحجـر والجمـود والمذهبيـة، فانفتحت على الفكـر الإنساني المُتجدد، ومشـاكل العصر المستجـدة، وحـكّمت العقـل ومصالـح الجمـاهير، فاستطـاع الـذين فهموا جـوهـرهـا أن يتفتحـوا على حضـارات الأمـم السـابقـة وعلـومهـا وأفكـارهـا، وأن ينهلـوا منهـا ويستوعبـوهـا ويُضيفوا إليهـا، فأسسوا بذلك حضـارة عريقـة غنيـة بعلومهـا ومعارفهـا وفنونهـا وعمرانهـا وفكـرهــا، كان لهــا أثـر عميـق في تطـور البشريـة، وكانت مصـدراً أساسيـاً مـن مصـادر الحضـارة الغـربيــة والإنسانيــة المعـاصـرة.

     وقـد صمدت دعـوة محمد- بصلابـة منـاضليهـا والمؤمنين بهـا، وبمـا تضمنته من روحية ومبـادئ تحرريـة تقدميـة، وقـوميـة إنسانيـة- أمـام الـردة التي قـام بهـا المُنحـرفـون والمُندسـون والـرجعيـون، وقضـت عليهــا في مهـدهــا، فلتكـن ذكـرى مـولـد الـرسـول العـربي عظـة للمنـاضليـن من أبنـاء أمتنــا يستمـدون منهــا إيمــاناً بالمبــادئ، وصــلابـــةً بالـنضــال حتى تتحقــق أهــداف النضــال العـــربي في الحـريـة والاشتراكيـة والـوحـــدة.

* أحد أهم أساطين الفكر السياسي والقومي العربي، الأمين العام السابق لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي في سورية حتى عام 2000

المصدر: نشرة لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي عام 1972

التعليقات مغلقة.